في خضم الوضع السياسي المأزوم بلبنان، يبدو أن الوضع الاقتصادي بات ينذر بعواقب كارثية. فمن جهة انهارت الليرة اللبنانية بشكل سريع ومباغت، إضافة إلى توجه حكومة تصريف الأعمال إلى “الدولرة”، الأمر الذي جعل اللبنانيين يفقدون الثقة بالليرة.

من جانب آخر، ثمة مخاوف من استمرار صعود مؤشر الغلاء جرّاء رفع سعر الدولار الجمركي مجددا من 45 إلى 60 ألف ليرة، وسعر منصة “صيرفة” البالغ حاليا نحو 87 ألف ليرة للدولار، اقترب الرقم القياسي لأسعار الاستهلاك من حاجز أربعة آلاف بالمئة، بعدما حقق واقعيا رقم 3710 بالمئة بنهاية الفصل الأول من العام الجاري، وبرزت المضاعفات غير المسبوقة للارتفاعات بالأسعار في حصيلة أرقام إدارة “الإحصاء المركزي”، والتي بيّنت الصعود التاريخي لمؤشر الغلاء، على أساس سنوي، إلى نحو 264 بالمئة بنهاية الفصل الأول من العام الحالي، معززا بارتفاع جنوني للمؤشر الشهري الذي بلغ 33.3 بالمئة خلال شهر آذار/مارس وحده.

أرقام مهولة

نحو ذلك، تؤكد هذه الأرقام احتفاظ لبنان بالمرتبة الأولى لارتفاعات أسعار الغذاء، ويتوقع أن تتوسع الفوارق خلال الأشهر القادمة مع دول غارقة في أزمات نقدية ومالية مشابهة وفي مقدمتها موزمبيق وفنزويلا وإيران وسواها، وفق تقرير لصحيفة “الشرق الأوسط“.

وسط كل هذا التخبط الاقتصادي، سجّل قطاع الاتصالات والشامل لكلفة الإنترنت ارتفاعا بلغ 621 بالمئة قياسا بمستواه المسجل بنهاية الفصل الأول من العام الماضي. وارتفع بند الصحة، الدواء والخدمات الطبية، بنسبة 374 بالمئة. وتعدّت الارتفاعات نسبة 350 بالمئة في بنود المواد الغذائية والمشروبات والألبسة والأحذية وتجهيزات المنازل والصيانة والمطاعم. فضلا عن ارتفاع كُلف النقل بنسبة تجاوزت 300 بالمئة.

هذه الوقائع، بحسب مصادر تجارية، ترجّح حدوث المزيد من الارتفاعات خلال الأشهر المقبلة، تبعا لتوسع ظاهرة “دولرة” الأسعار، أي نحو 97 ألف ليرة للدولار حاليا، وشمولها مجمل الخدمات العامة والضرائب والرسوم وفق سعر دولار “المنصة” المتحرك بفارق لا يتعدى 10 آلاف ليرة حاليا. علما بأن التسعير الفعلي لأغلب السلع الغذائية والأساسية يخضع لهامش ارتفاع تحوّطي يراوح بين 10 و15 بالمئة، تحسبا للتّقلبات النقدية.

بالتالي سيتصاعد مؤشر الغلاء نحو التطابق الكامل مع واقع الانهيار النقدي الذي أفضى إلى تآكل متدرج تعدت نسبته 98 بالمئة من السعر الرسمي للعملة الوطنية، ما يدفع بالتوقعات إلى تسجيل حصيلة سنوية استثنائية تتخطى حاجز 300 بالمئة لهذا العام، حتى في حال استقرار سعر الدولار على مستوياته الحالية.

هذا ويبدو أن الوضع الاقتصادي في لبنان يزداد يوما بعد يوم انهيارا آخر، على إثر تدهور الليرة أمام الدولار الأميركي. فمنذ كانون الأول/ديسمبر عام 2019، والليرة تتراجع تدريجيا. وكانت الليرة قد حافظت على استقرارها حتى تاريخ إقرار الحكومة السابقة برئاسة حسان دياب عدم دفع فوائد دَين “اليوروبوند” في آذار/مارس في 2020، التي تعتبر من أسوأ الأخطاء الحكومية بلبنان.

حيث إن هذه القرارات فاقمت أزمة سعر الصرف، منها التعثر غير المنظم عن دفع سندات “اليوروبوند”، فضلا عن الدعم العشوائي للمواد المستوردة. وعلى هذا النحو، استمر الهبوط الدراماتيكي لليرة اللبنانية وسط غياب الإصلاحات، حتى بلغ سعر الصرف أسوأ مستوياته.

فقدان الثقة بالليرة

في المقابل، ونتيجة لهذا الانهيار التاريخي لليرة اللبنانية مقابل الدولار، فقد معظم اللبنانيين الثقة بالليرة ولجأوا إلى التعامل بالدولار. حيث إن التعامل بالليرة وسط الانهيار المالي وتوجه الحكومة نحو “الدولرة” يؤدي إلى خسارة المواطن لقيمة أمواله بسبب التقلبات غير المنضبطة في سعر الصرف.

خلال شهر شباط/فبراير الماضي بدأ تطبيق قرار التسعير بالدولار في المتاجر الكبرى “السوبرماركت” بهدف الحد من التلاعب بالأسعار في الأسواق علما بأن إجراءات اتُّخذت سابقا ترتبط بقطاعات أخرى على غرار المحروقات التي تسعّر بالليرة اللبنانية إنما وفق تقلبات سعر الصرف في السوق السوداء، إضافة إلى الدواء، والتأمين على اختلاف أنواعه، وبدل المستشفيات والمولدات الكهربائية.

فيما يتم دفع رواتب القطاع العام وفق ما يُعرف في لبنان بدولار “صيرفة” الذي حدده “مصرف لبنان المركزي”، ويكون عادة أدنى من سعر السوق، كي يتسنى للموظف الاستفادة من هذا الفارق، وهو المحدد اليوم على سبيل المثال بـ 45400 ليرة لبنانية مقابل نحو 88 ألفا هو سعر الدولار في السوق السوداء.

خطوة التوجه نحو “الدولرة” الكاملة في لبنان، تهدف إلى توفير ما يشبه الاستقرار مع انخفاض الليرة اللبنانية إلى ما يقرب من 90 ألف ليرة للدولار الواحد، وسط أزمة اقتصادية وسياسية مستمرة. إلا أن بعض المراقبين يرون أنها فشل حكومي وتصب في مصلحة “حزب الله” اللبناني الموالي لطهران، من حيث توسيع قاعدته الشعبية أكثر فأكثر، وسط تدهور الأحوال المعيشية في لبنان.

هذا ونشطت مؤخرا في السوق اللبنانية صناعة مَحافظ العملات التي يتلاءم حجمها مع حجم ورقة الـ 100 ألف ليرة، وهي أكبر ورقة متداولة بالليرة اللبنانية، مع الكمية الضخمة من الأموال بالليرة التي بات يفترض حملها لشراء الحاجيات الأساسية. كما نشطت عمليات بيع آلات عدّ الأموال الصغيرة التي باتت موجودة في كل المؤسسات، الصغيرة والكبيرة، حتى إنها باتت موجودة في قسم كبير من البيوت باعتبار أن مائة دولار أميركي باتت تساوي حاليا 10 ملايين ليرة، أي 100 ورقة من فئة الـ 100 ألف.

قد يهمك: الدولار مقابل 100 ألف ليرة.. لقمة عيش اللبنانيين وكرامتهم في خطر؟

على إثر التضخم الجامح هذا، تدرس الحكومة منذ فترة طباعة أوراق من فئة “500 ألف ليرة” و”مليون ليرة” لتسهيل التداول بالعملة المحلية، إلا أن أي قرار لم يُتخَذ بهذا الشأن حتى الساعة. وبالاستناد إلى أن متوسط الدخل الشهري في لبنان يبلغ نحو 122 دولارا، حيث تكسب 40 بالمئة من الأُسر حوالي 100 دولار أو أقل في الشهر، و90 بالمئة يكسبون أقل من 377 دولارا شهريا، فإن نسبة كبيرة منهم في القريب المنظور لن يكون بمقدورهم شراء حاجاتهم الأساسية، ما يجعلهم يعيشون في فقر مدقع، وهذا ما قد يقود البلاد إلى تفاقم العديد من المشكلات والظواهر الاجتماعية، وفق تقرير لـ”هيومن رايتس ووتش“، مؤخرا.

سبب الانهيار

حول أسباب التدهور الاقتصادي، فإنه لا يخفى على أحد وبما فيهم الشعب اللبناني بأن أسباب انهيار الليرة باتت معروفة للجميع، ولعل أبرزها التخبط السياسي الذي تشهده البلاد، منها قرار عودة المصارف اللبنانية الى إضرابها المفتوح، بعد إصدار أحد القضاة في بيروت قرارا يقضي بأن يدفع بنك “ميد” مبلغ 210 آلاف دولار نقدا، لأحد مودّعيه، تحت طائلة ختم المصرف بالشمع الأحمر، وهو القرار الذي رأت فيه جمعية مصارف لبنان أنه تعسفي.

الخبراء الاقتصاديون يقولون إنه نتيجة عدم الاستقرار الأمني في البلاد، والفوضى الكبيرة على إثر تدخل “حزب الله” اللبناني المدعوم من طهران، في العديد من قضايا لبنان وسياستها، أدى تراجع تدفق رؤوس الأموال، الذي سببته أزمة الثقة التي بدأت تظهر أواخر عام 2017 وتوسعت تدريجيا حتى انفجرت في السنوات الأربع الماضية.

فمنذ ذلك الحين، يرى الشعب اللبناني أن الحكومة أو المتحكمين بسدة الحكم في بيروت لم يتخذوا أي قرار في محله بحيث يلملم أثر الأزمات الاقتصادية ويحدث خرق إيجابي، ولا سيما شحّ السيولة، بل وازداد الأمر سوءا وتعقيدا، وهذا ما سمح للمضاربين وتجار الأزمات، بالتحكم بمسار العملة اللبنانية عبر السوق الموازية التي لا تخضع لأي رقابة.

كذلك الحكومة فشلت في حل أزمة المصارف إلى جانب قضايا الفساد والفوضى الأمنية، نتيجة تعدد الفرقاء السياسيين المتحكمين بالبلاد ولا سيما “حزب الله” اللبناني. كل ذلك أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية وتعميقها، ويمكن القول بأن التراجع التاريخي لليرة يعود لتقاعس السلطتين السياسية والنقدية حول إيجاد الحلول وإقرار الإصلاحات اللازمة.

إضافة إلى عجز “المركزي اللبناني” عن التدخل بحلول مستدامة للسيطرة على فوضى السوق الموازية، حيث تسيطر الأخيرة على مصير الليرة، وقد اكتسبت زخما قويا مع إدخال حكومة تصريف الأعمال بقراراتها البلاد مرحلة “الدولرة” شبه الشاملة إثر سماح السلطة للمؤسسات والشركات بتسعير الدولار وفقا لقيمة الدولار بالسوق السوداء.

في الواقع يصعب على هذا البلد الشرق أوسطي الغارق في الأزمات، الخروج منها في ظل غياب آفاق لأية حلول أو مقاربات سياسية، نظرا لتعقيد الوضع اللبناني على عدة مستويات. بالإضافة إلى هيمنة “حزب الله” اللبناني الموالي لطهران بشكل غير مباشر على لبنان، وتسببه بالفوضى والفساد وحالة الانسداد السياسي بالبلاد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات