في وقت استأنفت فيه المصارف اللبنانية إضرابا مفتوحا منذ يوم الثلاثاء الماضي. حيث أن سعر الصرف الرسمي حُدّد عند مستوى 15 ألف ليرة في مقابل الدولار في شباط/فبراير الماضي، تواصل الليرة اللبنانية انحدارها نحو هاوية غامضة، بالتزامن مع تواصل مختلف الاختلاسات وبدء المحققين الأوروبيين التحقيق مع حاكم مصرفها المركزي، رياض سلامة، الذي يمثُل أمام المحققين في “قصر العدل” ببيروت، بتهم وقضايا متعلقة بالفساد وتبييض أموال في دول أوروبية.

هذا فضلا عن أنه لا يزال منصب رئاسة الجمهورية شاغرا، وسط دخول ثلاثة أرباع السكان إلى ما دون خط الفقر. الليرة اللبنانية تمثلت بهبوطها التاريخي إلى مستوى 100 ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد في السوق الموازية، وهو رقم جديد في مسار المعاناة الطويل الذي تعيشه الليرة منذ سنوات عديدة.

الليرة اللبنانية منذ عام 2019، تمر بعدة مسارات من التدهور. فقد كان السعر الرسمي لليرة اللبنانية يبلغ 1520 ليرة للدولار، وهو سعر بقي ثابتا ومعتمدا لسنوات طويلة، إلا أن العملة اللبنانية تراجعت بشكل حاد منذ ما يقرب من 4 أعوام وبوتيرة متسارعة إلى أن دخلت اليوم أسوأ مرحلة لها في التاريخ ومعها مستوى معيشة اللبنانيين.

بالتالي تبرز تساؤلات عدة هنا حول كيف لعبت الأزمة الاقتصادية دورا في هذا التدهور، وتبعاته على معيشة اللبنانيين مع استمرار هبوط الليرة أمام النقد الأجنبي، وكيف فشلت حكومة تصريف الأعمال اللبنانية في ضبط سعر الصرف، إلى جانب كيفية مساهمة قرارات الحكومة غير المدروسة في تعميق أزمة المعيشة هناك.

تعميق الأزمات

الوضع الاقتصادي في لبنان يزداد يوما بعد يوم انهيار آخر، على إثر تدهور الليرة أمام الدولار الأميركي. منذ كانون الأول/ديسمبر عام 2019، والليرة تتراجع تدريجيا. وكانت الليرة قد حافظت على استقرارها حتى تاريخ إقرار الحكومة السابقة برئاسة حسان دياب عدم دفع فوائد دَين “اليوروبوند” في آذار/مارس في 2020، التي تعتبر من أسوأ الأخطاء الحكومية بلبنان، حيث إن هذه القرارات، فاقمت أزمة سعر الصرف، منها التعثر غير المنظم عن دفع سندات “اليوروبوند”، فضلا عن الدعم العشوائي للمواد المستوردة. وعلى هذا النحو، استمر الهبوط الدراماتيكي لليرة اللبنانية وسط غياب الإصلاحات، حتى بلغ سعر الصرف في السوق السوداء ارتفاعه مسجّلا 107000 ليرة للدولار الواحد صباح اليوم، وفق تقارير محلية.

بينما لبنان غارق في انهيار اقتصادي يصنفه “البنك الدولي” من بين الأسوأ في العالم منذ منتصف القرن الماضي، حيث فقدت الليرة حوالي 95 بالمئة من قيمتها مقابل الدولار، فإن الأزمات في هذا البلد الشرق أوسطي تتفاقم يوما بعد يوم. فبعد انخراط المصارف بتنفيذ جولة جديدة من الإضراب العام؛ اعتراضا على تعسّف بعض القرارات القضائية، وتدهور الليرة، ضربت موجات الغلاء المعيشية المتوالية بحدة بالغة وبشكل غير مسبوق كامل مكونات منظومة الاستهلاك، بما في ذلك تكاليف الخدمات العامة والحكومية.

تعقيبا على ذلك يرى مراقبون أنه منذ أن أصدرت حكومة تصريف الأعمال عددا من القرارات والتوجه نحو “الدولرة” والليرة اللبنانية تفقد قيمتها أمام العملات الأجنبية، أي أن الحكومة هي التي تساهم في تعميق الأزمة المعيشية في البلاد، بالإضافة إلى غيابها في التحرك نحو إيجاد حلول للعديد من مشاكلها وقضاياها، بل ويزداد الأمر سوءا يوما بعد يوم، وهي غير مبالية من كل هذا.

لا يخفى على أحد وبما فيهم الشعب اللبناني بأن أسباب انهيار الليرة باتت معروفة للجميع، ولعل أبرزها التخبط السياسي الذي تشهده البلاد، منها قرار عودة المصارف اللبنانية الى إضرابها المفتوح، بعد إصدار أحد القضاة في بيروت قرارا يقضي بأن يدفع بنك “ميد” مبلغ 210 آلاف دولار نقدا، لأحد مودعيه، تحت طائلة ختم المصرف بالشمع الأحمر، وهو القرار الذي رأت فيه جمعية مصارف لبنان أنه تعسفي.

قد يهمك: “أمة في الظلام”.. كيف تعمق أزمة الكهرباء الفقر في لبنان؟

الخبراء الاقتصاديون يقولون إنه نتيجة عدم الاستقرار الأمني في البلاد، والفوضى الكبيرة على إثر تدخل “حزب الله” اللبناني المدعوم من طهران، في العديد من قضايا لبنان وسياستها، أدى تراجع تدفق رؤوس الأموال، الذي سببته أزمة الثقة التي بدأت تظهر أواخر عام 2017 وتوسعت تدريجيا حتى انفجرت في السنوات الأربعة الماضية.

فمنذ ذلك الحين، يرى الشعب اللبناني أن الحكومة أو المتحكمين بسدة الحكم في بيروت لم يتخذوا أي قرار في محله بحيث يلملم أثر الأزمات الاقتصادية ويحدث خرق إيجابي، ولا سيما شحّ السيولة، بل وازداد الأمر سوءا وتعقيدا، وهذا ما سمح للمضاربين وتجار الأزمات، بالتحكم بمسار العملة اللبنانية عبر السوق الموازية التي لا تخضع لأي رقابة.

 كذلك الحكومة فشلت في حل أزمة المصارف إلى جانب قضايا الفساد والفوضى الأمنية، نتيجة تعدد الفرقاء السياسيين المتحكمين بالبلاد ولا سيما “حزب الله” اللبناني. كل ذلك أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية وبعث كل يوم بمشاهد صعبة، لا سيما بروز اقتحام ضباط شرطة المصارف للحصول على أموالهم، بعد أن اقتحم العديد من المدنيين للبنوك في الفترات السابقة بغية الحصول على أرصدتهم. على الرغم من أن العديد من الخبراء حذّروا من أن عمليات اقتحام المصارف ستتكرر طالما لم يتم إيجاد حل للمشكلة بإعادة ودائع المودّعين، لا سيما وأن الودائع المالية هي حقوق الناس، غير أن السلطات الحاكمة في بيروت لم تجد أيّة حلول ولو مؤقتة لهذه الأزمة بعد.

عمليا، يمكن القول بأن التراجع التاريخي لليرة يعود لتقاعس السلطتين السياسية والنقدية عن إيجاد الحلول وإقرار الإصلاحات اللازمة.

إضافة إلى عجز “المركزي اللبناني” عن التدخل بحلول مستدامة للسيطرة على فوضى السوق الموازية، حيث تسيطر الأخيرة على مصير الليرة، وقد اكتسبت زخما قويا مع إدخال حكومة تصريف الأعمال بقراراتها البلاد مرحلة “الدولرة” شبه الشاملة إثر سماح السلطة للمؤسسات والشركات بتسعير الدولار وفقا لقيمة الدولار بالسوق السوداء.

فشل حكومي

وسط ترقب عام لردة فعل السلطة النقدية على فشل التجربة الأحدث للتدخل المفتوح في إدارة أسواق العملات وعرض الدولار بسعر 70 ألف ليرة مطلع الشهر الحالي، ومن ثم رفعه تباعا ليصل إلى 76 ألف ليرة، رصدت “الشرق الأوسط” تكثيفا للاتصالات المباشرة بين حاكمية “البنك المركزي” اللبناني، وأركان “جمعية المصارف” بهدف التنسيق لكبح التدهور الحاصل، عبر إجراءات عاجلة ومشروطة بتغطية حكومية تتكفل بمعالجة الأسباب الدافعة لقرار إضراب المصارف، مما يقضي بالنتيجة إلى وقف الإضراب وحصر تنفيذه في الأسبوع الحالي.

هذا ويبدو أن الجهود تتركز على إعادة تزخيم مبادرة عرض الدولار من قبل “البنك المركزي”، ولا سيما لجهة تمكين الأفراد وممثلي الشركات من إجراء المبادلات النقدية عبر منصة “صيرفة”، وباعتبار أن إقفال البنوك وفروعها يحول دون تنفيذ الجزء الوازن منها.

المعطيات تشير إلى أولوية تصويب النقاش بين ثلاثية الحكومة و”المركزي” والمصارف في مقاربة نواة الأزمة النقدية، وبالاستناد إلى ما أظهرته وثيقة مصرفية مدعومة بإحصاءات، بشأن حقيقة تقلص السيولة النقدية بالعملات الأجنبية لدى البنوك اللبنانية إلى مستويات سلبية، بينما يبلغ إجمالي توظيفاتها وودائعها لدى “البنك المركزي” نحو 86.6 مليار دولار، وفق ما تظهره ميزانية مصرف لبنان الموقوفة في منتصف الشهر الماضي.

بالنظر إلى التدهور الحالي، وحمل توقيع أمين عام “جمعية المصارف” فادي خلف، حول كفاية السيولة المتوفرة لمقابلة الودائع في الميزانيات وامتناع البنوك عن سدادها لصالح المودّعين، تم تصنيف توظيفات البنوك إلى أربع فئات رئيسية تشمل وضعية الحسابات لدى البنوك المراسلة في الخارج، ومحفظة سندات الدين الدولية المصدرة من الدولة اللبنانية، وصافي التسليفات القائمة للقطاع الخاص من أفراد وشركات، ومقيمين وغير مقيمين.

بالتالي، فإن كل هذه التحركات الحكومية المتعثرة وسط إفلاس اقتصادي، يبدو أنه لا سيولة لدى البنوك، سواء من ناحية ودائعها بالدولار المحلي لدى مصرف لبنان وهي غير قابلة للسحب نقدا أو التحويل إلى الخارج، وهو ما اعترف به خلف أيضا. ومن ناحية أرصدتها السلبية لدى المصارف الأجنبية أو لناحية محفظتها من سندات الدين الحكومية بالدولار المصنفة غير قابلة للتسييل إلا بما يناهز 6 بالمئة من أصل السعر.

تداعياته على معيشة اللبنانيين

في المقابل، يبدو أن إصلاح الوضع الاقتصادي والمالي شبه مستحيل، بالنظر إلى استمرارية أزمة الشغور الرئاسية وعدم توافق القوى السياسية المتعددة في البلاد، فضلا عن عجز “المصرف المركزي” إحلال السوق السوداء، هذا يؤشر إلى أن مسار الليرة اللبنانية مبهم وضبابي، وهذا ما سيؤثر على أسعار السلع ولا سيما الغذائية، وسط ثبات رواتب المواطنين بالعملة اللبنانية التي تفقد قيمتها بالتزامن مع انحدارها أمام الدولار.

اللبنانيون في الأسواق باتوا يتلمسون هذا التراجع من خلال ارتفاع الأسعار والغلاء الحاصل، حيث سجلت أسعار السلع بفروقات هائلة بين محل تجاري وآخر، لا سيما وأن السعر غير مستقر وساعي، إذ يلجأ بعض التجار إلى استيفاء الفواتير من المواطنين بأسعار تتجاوز قيمة الدولار الفعلية بالسوق السوداء، وهو ما يكرس بيئة للتلاعب والمضاربات التي تعزز أرباح التجار، وفق مراقبين.

قد يهمك: معركة السيادة.. الخلافات القضائية والسياسية تقوض عمل المصارف اللبنانية؟

مما لا شك أن هذا التدهور لليرة يضاعف هموم المواطنين المعيشية ويزيد من أعبائهم يوميا، كما يصفونها من خلال العديد من وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام وغيرها، فقد أصبح مجرد التنقل من مكان إلى آخر أزمة في حد ذاتها مع ارتفاع أسعار الوقود، إذ وصل سعر صفيحة البنزين إلى 1.8 مليون ليرة، أي نحو نصف راتب موظف بالدولة. وحددت “وزارة الاقتصاد” بعد ظهر يوم أمس سعر ربطة الخبز المتوسطة 825 غراما بـ 39 ألف ليرة، وربطة الخبز الكبيرة 1033 غراما بـ47 ألف ليرة، وبالتالي هذا ينعكس سلبا على الأمن الغذائي هناك، مع تفاقم ظاهرة الفقر الذي يطول نحو 85 بالمئة من السكان، إذ صارت كثير من السلع الأساسية، كحليب الأطفال، بعيدة عن متناول جميع الأسر.

بحسب تقرير حديث لـ”هيومن رايتس ووتش“، فإن استمرار ارتفاع الأسعار، سواء للخدمات مثل الكهرباء أو الماء أو الغذائية منها، لن يعود في متناول الأسر اللبنانية، ويهدد هذا الوضع بتعميق الفقر في هذا البلد المتوسطي الصغير الغارق في انهيار اقتصادي كارثي.

بالاستناد إلى أن متوسط الدخل الشهري في لبنان 122 دولارا، حيث تكسب 40 بالمئة من الأسر حوالي 100 دولار أو أقل في الشهر، و90 بالمئة يكسبون أقل من 377 دولارا شهريا، فإن نسبة كبيرة منهم في القريب المنظر لن يكون بمقدورهم شراء حاجاتهم الأساسية، ما يجعلهم يعيشون في فقر مدقع، وهذا ما قد يقود بالبلاد إلى تفاقم العديد من المشكلات والظواهر الاجتماعية.

قبل وقوع انفجار “مرفأ بيروت” في 2020، وفق آراء الشارع اللبناني المحتقن، اليوم وقع أكثر من ثلاثة أرباع السكان البالغ عددهم ستة ملايين نسمة في براثن الفقر، ويعانون من أجل البقاء، وسط معدلات تضخم هي من بين الأكبر في العالم.

عليه فإن هذا يوحي بشيء واحد فقط وهو أن الوضع الاقتصادي في لبنان مرجّح لأن يتعثر ويتفاقم أكثر بل وربما يتحول إلى انفجار اجتماعي في نهاية المطاف، خاصة في ظل غياب أي مقاربة سياسية للبلاد، وهو ما من شأنه أن يتسبب في انهيار بالقوة الشرائية للبنانيين مع قرب شهر رمضان. بمعنى أدق، ستشهد البلاد، في المرحلة المقبلة، اضطرابات عديدة، لأن ما يحدث هو مجزرة اقتصادية بكل ما للكلمة من معنى، إذ إن أموال وإيداعات اللبنانيين في البنوك قد سُرقت واستخدمت في تمويل سلطة فاسدة، وعلى رأسها “حزب الله” المستحوذ على العديد من مفاصل البلاد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.