في الوقت الذي يستمر فيه رئيس الحكومة المجرية فيكتور أوربان الذي تبوأ السلطة في البلاد للمرة الثانية في العام 2010، بعد أن شغل رئاسة الحكومة المرة الأولى في 1998، بجر بلاده نحو مسار سلطوي استبدادي، تستمر العلاقات المجرية مع “الاتحاد الأوروبي” بالتراجع منذ أكثر من عقد من الزمن.

إذ وجدت دول “الاتحاد الأوروبي” الغربية منها على وجه الخصوص، نفسها في ورطة جدّية مع نمط حكم لا يشبه قارتها، الأمر الذي زاد من التعقيدات بين العلاقات المجرية الأوروبية، لاسيما في ظل تمرير الرئيس أوربان ما يخالف التوجهات الأوروبية وما يعتبره “الاتحاد الأوروبي” منافيا تماما لمبادئ وقيم الاتحاد.

حيث استغل الرئيس المجري نفوذ حزبه “فيديز” في “البرلمان” المجري والمتمثل بثلثي المقاعد، بتطبيق قرارات وقوانين نقلت البلد من مبدأ الديمقراطية الليبرالية إلى نظام غير ليبرالي وغير ديمقراطي، كما أطلق عليه أستاذ هارفارد ومستشار جامعة وسط أوروبا في بودابست، مايكل إغناتيف.

المجر والخروج عن المسار الأوروبي

فقد بدأت العاصمة المجرية بودابست، تصطبغ أكثر فأكثر بأفكار الرئيس أوربان القومية المتشددة، وبخطاب شعبوي، أعطى الرئيس وحزبه “فيديز” القدرة على إقناع الجماهير بسردية تقوم على التخويف من الغرباء ومظلومية التاريخ، مستخدما في ذلك أمثلة مثل؛ أن تدفق اللاجئين في عامي 2014-2015، يعبر عن اجتياح إسلامي لأوروبا، يحاول مسخ القيم والمبادئ المسيحية.

فالمجر لم تعد جزءا من إمبراطورية “النمساوية المجرية” القديمة، بل باتت بلدا صغيرا، قيمه المسيحية الأسرية مهددة مجددا من تدفقات الهجرة، كما يسوق أوربان ورجالات الحكم الجديد، وهذا ما بات يبدو خطابا ظاهريا تستخدم كوسيلة للمضي بسياسات تخالف المسار السياسي القائم على الليبرالية في المجر.

على هذا النحو، ومع استمرار أوربان بهذا الخطاب لمدة أكثر من عشرة أعوام، وإغراق المجر في سياساته السلطوية التي منها إصدار “البرلمان” لقانون صارم يقضي بسجن أي مواطن يتعاطف مع أو يساعد اللاجئين والمهاجرين، حيث انتشرت في طول وعرض البلد لافتات تحرّض على اللاجئين باعتبارهم جاءوا ليسرقوا أعمال ونساء الهنغاريين، أخذ أوروبان وحزبه بتوسعة علاقاتهم المشبوهة مع الصين وروسيا.

ذلك كله جاء بعد أن كان أوربان، يردد أنه سياسي ليبرالي معارض للحكم “الشيوعي” و”الاتحاد السوفييتي” السابق، بل ومن خلال خطبه استطاع رمي كل مشاكل المجر على الحكومات التالية للحكم “الشيوعي”، متهما إياها بأنها “اشتراكية” تتحمل مسؤولية الفقر وتردي الأوضاع، معتبرا أنه وتحالفه “فيديز” أفضل من سينقذ البلاد.

في أثناء ذلك، استمرت الحكومة المجرية وحزب الرئيس في استثمار تلك الخطابات في تحشيد الأصوات الانتخابية لصالح استمرارهم في السيطرة على السلطة، مستغلين سيطرتهم على وسائل الإعلام في البلاد بنسبة 80 بالمئة، بينما أخذت هذه الحكومة توسيع علاقاتها مع الصين “الشيوعي” وروسيا، مستفيدة في الوقت ذاته من وجودها في “الاتحاد الأوروبي” وما يوفره من دعم معنوي ومادي.

في السياق، يعتقد المختص في السياسات الدولية عمر عبد الستار، أن أوربان يحاول أن يتناغم في سلوكه السياسي بين كل من روسيا والولايات المتحدة والصين و”الاتحاد الأوروبي”، ويسعى من خلال سلوكه هذا إلى مواجهة ضغوطات “الاتحاد الأوروبي” عليه، مع انتظاره لما ستنجزه واشنطن وأوروبا بما يخص الحرب الروسية على أوكرانيا.

سلطوية المجر

عبد الستار يضيف في حديث لموقع “الحل نت“، أن مسألة تكرار خروج دولة من “الاتحاد الأوروبي” لن تحدث مجددا؛ لأن “الاتحاد الأوروبي” لا يريد تكرار تجربة خروج بريطانيا منه، ولذا فإنه من المستبعد خروج المجر، رغم أن أوربان يحاول دائما التصادم مع أوروبا، إلا أن “الاتحاد الأوروبي” حتى الآن يتعامل معه بالاحتواء.

من الاجتماعات المجرية الصينية/ إنترنت + وكالات

أما بشأن سعيه لتأسيس نظام سلطوي، يقول عبد الستار، إن أوربان يميني، وأن النظام في المجر يميل للدينية المسيحية على عكس ما تعمل به أوروبا وهو النظام الديمقراطي الليبرالي، لذا فهو سلطوي ويحكم المجر مثل ماهو معمول في الصين، وبالطبع يسعى لبناء نظام سلطوي.

لكن عبد الستار يستدرك، أنه كلما فشل أوربان في تأسيس نظام سلطوي فإن ذلك سيعزز من خسارته في الانتخابات المقبلة، ومن هنا نجد أن “الاتحاد الأوروبي” يحتوي أوربان من أجل الوصول إلى الانتخابات المقبلة، لرؤية مشهد آخر.

فيما يخص علاقاته مع روسيا والصين، يبيّن عبد الستار، أن علاقات أوربان متنامية معهما جدا، بدليل أن الصين هي المستثمر الأول في المجر، لكن مستقبل علاقته مع روسيا والصين، يعتمد على قدرة واشنطن بتفكيك المحور الروسي الصيني، وحينها ستمنع أوربان من التوجه نحو الشرق.

في غضون ذلك، وسعت بودابست علاقاتها مع الصين سريعا في السنوات الأخيرة، على مستوى العلاقات السياسية والاقتصادية بمستوى أقل، وحرص الطرفين على تبادلات متكررة رفيعة المستوى، حتى أصبحت المجر أول دولة من ضمن “الاتحاد الأوروبي” توقع مذكرة التفاهم حول مبادرة “الحزام والطريق” التي تسعى من خلالها بكين إلى مدّ نفوذها عبر العالم.

في مايو 2017، حضر رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان منتدى “الحزام والطريق” للتعاون الدولي في بكين، وخلال المنتدى، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ وأوربان بشكل مشترك عن إقامة شراكة استراتيجية شاملة بين البلدين، وفي أواخر العام ذاته قام رئيس “مجلس الدولة” الصيني لي كه تشيانغ، بزيارة رسمية للمجر وحضر الاجتماع السادس لرؤساء حكومات الصين ودول وسط وشرق أوروبا الـ 16 في بودابست.

على هذا النحو، وسّع الرئيس المجري العلاقات مع الصين، أكثر، وامتدت العلاقات إلى مستوى وصول الخط الحديدي السريع الصيني من مدن صينية مثل شيآن وتشونغتشينغ وتشانغشا، إلى بودابست، العام الماضي، وذلك في الوقت الذي تعتبر فيه بيكن أهم شريك تجاري للمجر من خارج أوروبا، حيث تجاوز حجم التجارة بين البلدين العام الماضي 10 مليارات دولار.

حجم العلاقات المجرية الصينية الروسية 

إذ بلغت استثمارات الصين الإجمالية في المجر، التي تمثل نحو نصف إجمالي استثمارات الصين في وسط وشرق أوروبا، 4.3 مليار دولار، حسبما قال السفير الصيني دوان، وجاء ذلك كله بعد خطوة الصين في 2015، بدعم من البنك المجري، بتفويض “البنك المركزي” في الصين، ليكون بنك مقاصة لليوان الصيني في المجر، ليكون بذلك أول بنك مقاصة لليوان الصيني في دول وسط وشرق أوروبا، حيث بدأت الصفقات المباشرة بين اليوان الصيني والفورينت المجري في سوق النقد الأجنبي بين البنوك بالصين، منذ ديسمبر 2016.

رئيس الحكومة المجرية فيكتور أوربان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن/ إنترنت + وكالات

وسط ذلك تنامت العلاقات في مجالات التعليم والسياحية، الأمر الذي فسّره خبراء، باحتمالية أن ينعكس على المستقبل المجري، مثلما حدث مع دول إفريقية آمن رؤسائها بالشراكات الصينية التي تحكمت فيما بعد بمصيرهم السياسي ومستقبل بلدانهم الاقتصادية، الأمر الذي انتهى بكوارث اقتصادية، وعلى مستوى الفقر وتراجع التعليم.

في تلك الأثناء، برز موقف الحكومة المجرية من الغزو الروسي لأوكرانيا، ليؤكد مدى قناعة الرئيس أوربان من الشراكة مع الحلف الصيني الروسي، حيث عارض العقوبات الغربية التي فرضها شركائه على موسكو، كما ألقى باللوم على حكومة كييف، وذلك في الوقت الذي منع فيه مرور الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا.

بينما كان الرئيس المجري يحاول أن يسوق موقفه على أنه موقفا اقتصاديا مسؤولا يراعي مسألة أزمة الطاقة العالمية التي تسببت بها الحرب الروسية على أوكرانيا، إلا أنه لم يتمكن من إخفاء أن العلاقة بين بلاده وروسيا لا تبدو مؤسسة على منافع الطاقة فحسب، فمنذ أكثر من عقد أقام أوربان علاقات سياسية واقتصادية وثيقة مع روسيا، ما منحه سمعة معينة باعتباره أقرب حليف لـ “الكرملين”.

لا تختلف علاقة المجر في عهد الرئيس اليمني أوربان مع روسيا، بعلاقتها مع بكين، حيث تمتد إلى الشراكات الاقتصادية والبنكية والطاقية، وكذلك تقوم على مبادئ سياسية مشتركة قد لا تبدو واضحة للكثيرين، الأمر الذي جعل من وجود المجر في “الاتحاد الأوروبي”، أمرا قائما على المصلحة التي تنتفع منها حكومة أوربان لا غير.

تلك الفائدة التي يقدمها “الاتحاد الأوروبي” عبارة عن دعم اقتصادي وسياسي وأمني لأعضائه، مستخدما الرئيس المجري بذلك لغة جديدة، ألا وهي؛ إما استمرار المكاسب وتخفيف الضغوطات التي يواجهها بسبب علاقاته المشبوهة بالصين وروسيا، أو مغادرة “الاتحاد الأوروبي”، الأمر الذي يبدو مستحيلا في الوقت الحالي، وعديم الفائدة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات