بينما ترزح تونس تحت أسوأ أزمة مالية تهدد بتخلف البلاد عن سداد ديونها، أربكت قضية رفع الدعم عن مواد أساسية من بينها المحروقات والكهرباء، الشارع التونسي، بعد أن صرحت وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة نائلة نويرة القنجي، حول اقتراب الحكومة التونسية التي تترأسها نجلاء بودن، من وضع اللمسات الأخيرة على خطة توجيه الدعم نحو مستحقيه، بما في ذلك الدعم الطاقي.

الأمر الذي دفع بالرئيس التونسي قيس سعيد، إلى إقالة الوزيرة القنجي سريعا، على خلفية حديثها على هامش حفل لوضع حجر أساس لإنشاء مصنع جديد، عن اقتراب الحكومة من إعداد برنامج توجيه الدعم لمستحقيه، مؤكدة أن السلطات منكبة على دراسة فرضيات توجيه الدعم بصفة محكمة، وهي في مراحلها الأخيرة، قائلة إن روزنامة التعديل في أسعار المحروقات ستتوضح مع انتهاء الحكومة من إعداد برنامج إصلاح منظومة الدعم.

مقابل ذلك، سرعان ما أعفت المؤسسة الرئاسية وزيرة الصناعة من منصبها، قبل أن يجدد الرئيس سعيد في اليوم ذاته، في لقاء جمعه برئيسه الحكومة نجلاء بودن، رفض أي إملاءات خارجية لإصلاح اقتصادي، قائلا إن الحلول يجب أن تنبع من الإرادة الشعبية التونسية، وأن تكون تونسية خالصة، وفي خدمة الأغلبية المفقرة التي عانت ولا تزال تعاني من البؤس والفقر.

فيما أشار الرئيس في بيان نشرته رئاسة الجمهورية على صفحتها الرسمية، أمس الخميس، إلى أن التصريحات التي تأتي من الخارج لا تلزم إلا أصحابها، وليس من حق أي كان أن يلزم الدولة بما لا يرضاه شعبه، كما ليس من حق أي جهة كانت في تونس أن تتصرف خلاف السياسة التي يحددها رئيس الجمهورية.

تونس وشروط “صندوق النقد” الدولي

ذلك كله يأتي في وقت يطالب “صندوق النقد” الدولي، بضمانات حقيقية لتطبيق حزمة إصلاحات قبل البدء بصرف الشريحة الأولى من اتفاق قرض مع تونس بقيمة 1.9 مليار دولار أميركي، من بينها خفض تدريجي لنظام الدعم وإصلاح المؤسسات العمومية والتحكم في الأجور.

موقف الرئيس التونسي المتعارض مع الخطة المقدمة من قبل الحكومة التونسية إلى “صندوق النقد” الدولي”، بغية الحصول على موافقة نهائية بشأن القرض، جاء بعد أن توصلت بلاده -التي ارتفع فيها التضخم إلى 10.4 بالمئة في شباط/فبراير، وهو أعلى مستوى منذ أربعة عقود- إلى اتفاق على مستوى الخبراء مع “صندوق النقد” في أيلول/سبتمبر الماضي، غير أنها لم تنجح في توقيع اتفاق نهائي يفتح لها الأبواب نحو تمويلات خارجية لا تقل عن 5 مليارات دولار تحتاجها لتمويل الموازنة.

وسط ذلك، والضرورة التي تتطلب من الدولة التونسية مواقف حاسمة وتنفيذ إصلاحات اقتصادية صارمة من شأنها إخراج البلاد من أزمته المالية التي طالت القطاعات الصحية والغذائية والاستثمارية، ورفض الرئيس سعيد لذلك خشية من تفجر الأوضاع مما يضع مصيره على المحك، يفترض أن تبدأ تونس هذا العام في تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي يشمل خفض دعم سلع غذائية ودعم الطاقة، وفقا لميزانية 2023، غير أنها لم تطبق بعد أي زيادة جديدة في أسعار المحروقات منذ بداية السنة الجارية.

موازنة 2023، كانت تعتزم خفض نفقات الدعم بنسبة 26.4 بالمئة إلى 8.8 مليارات دينار ما يعادل 2.89 مليار دولار، لكن حتى الآن لم ترفع الحكومة أسعار الوقود هذا العام على عكس ما خطط سابقا، الأمر الذي فسره مراقبون بأنه سعيا لتجنب الغضب الشعبي.

حول ذلك، يقول خبير الاقتصاد التونسي، نزار الجليدي، أنه في الأساس ليس هناك مشروع لحد هذه اللحظة يخطط لرفع الدعم عن التونسيين، باعتبار أن ذلك يتعارض مع مشروع الدولة الوطنية التضامنية، مشيرا إلى أن ما تتناوله وسائل الإعلام وما يروج له، يندرج تحت إطار المناكفات السياسية التي يراد منها إحباط توجه تونس الحالي إلى رفض إملاءات “صندوق النقد” الدولي، ومشاريعه التي تريد أن تفرض على تونس خطط لرفع الدعم.

مناكفات سياسية وإملاءات خارجية

الجليدي وفي حديث لموقع “الحل نت”، أشار إلى أن، ما يحاول فرضه “صندوق النقد” الدولي وما يروج له حول رفع الدعم، يأتي بخلاف ما مطروح في الدوائر السياسية في تونس، ولا حتى في المسار الذي يتبناه الرئيس قيس سعيد، لافتا إلى أن ذلك من متبنيات حكومة بودن. 

محتجون تونسيون على رفع الدعم/ إنترنت + وكالات

خبير الاقتصاد التونسي الذي نفى إمكانية رفع الدعم عن التونسيين، وصف ما يجري الحديث عنه بشأن رفع الدعم، بأنه جرأة تأتي من بابا المناكفة السياسية، غير أن الحكومة أيضا تمتلك جرأة في التفكير بمشاريع وآليات أخرى لتكيف الاقتصاد التضامني في تونس، وتكيف تدخل الدولة في الموازنات العامة للاقتصاد التونسي.

إلى ذلك، بين أن الأمر يستدعي عملية جراحية قيصرية أمام التغيرات الكبرى في الموازين التجارية والاقتصادية التونسية، وأمام ما خلفته عشر سنوات “عجاف من تخلخل في موازين الاقتصاد التونسي من سرقات وفساد استشرى في البلاد”، وجعل الحكومة الحالية عاجزة عن تسديد ما يمكن أن تسدده، على أن ترفع من قيمة مبادلاتها وقيمة تدخلها لدى الطبقات المهمشة.

في ظل هذا المشهد، قد تدخل تونس في عملية قيصرية جديدة، بحسب الجليدي، وهي تعسير مؤسسات الدولة المتمثلة بالمؤسسات الحكومية، وتعسير رأس مال الدولة في مؤسسات الدولة من دون المساس بالطبقات المهمشة.

على الرغم من ذلك، وعن تداعيات قرار رفع الدعم بصفة تدريجية، يرى الأكاديمي التونسي في “المعهد العالي للتصرف” عبدالرحمن اللاحقة، أن سياسة رفع الدعم بشكل غير مدروس والمقاربة التي وصفها بـ”الساذجة” التي تتبعها الحكومة في هذا الإجراء، ستسهمان في ازدياد الفقر بالبلاد بنسبة 5 بالمئة، كما ستكون لهما تداعيات سلبية على كل المستويات بينها مزيد من ارتفاع الفوارق بين المواطنين وتوسعة دوائر الفقر.

اللاحقة قال في تصريحات صحفية نقلتها صحيفة “اندبندنت عربية” البريطانية، إن المقاربة الموضوعية في هذا الملف الشائك ترتبط بوضوح، بأنه لا يمكن إجراء رفع للدعم من دون دراسة مسبقة تأخذ في الاعتبار النتائج المحتملة من قرار خطر كهذا، موضحا أنه يمكن الخفض بنسبة 50 بالمئة من موازنة الدعم عبر محاربة الفساد والتهريب والتهرب الضريبي.

تونس والفقر

في خضم ذلك، كانت بنود قانون الموازنة لسنة 2023، قد كشفت في كانون الأول/ديسمبر الماضي، أن حكومة نجلاء بودن تتهيأ للمرور إلى حقيقة أسعار المحروقات خلال السنة الجديدة عبر التعديل الدوري للأسعار، حيث سجل قانون الموازنة خفض نفقات الدعم بنسبة 26.4 بالمئة مقارنة بسنة 2022، وذلك لأول مرة في تاريخ البلاد.

كذلك خفضت حكومة نجلاء بودن التونسية هذا العام، نفقات التدخل المتعلقة بالتحويلات الاجتماعية لفائدة الطبقات الضعيفة بنسبة 8 بالمئة، وفي حين وعدت السلطة بتعويض ما لا يقل عن 8 ملايين تونسي عن رفع الدعم عبر التحويلات المالية المباشرة، قد قلصت في نفقات التدخل بنحو 8 بالمئة، حيث تراجعت قيمة هذه النفقات من 18.7 مليار دينار إلى 17.2 مليار دينار متوقعة في العام الحالي.

يشار إلى أن نفقات التدخل، تشمل التحويلات المالية المخصصة لفائدة الأسر المعوزة وضعيفة الدخل، إلى جانب المخصصات التي تنفق لدعم المؤسسات الحكومية التي تشكو من صعوبات أو تواجه الديون.

في غضون ذلك، عمقت الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة التي تعيشها تونس خلال السنوات الأخيرة، وضعية الأسر التي صارت تعاني عددا من الصعوبات المالية في تأمين حاجاتها، في ظل صعوبة الوصول إلى المنتجات والسلع الغذائية الأساسية، كما أسهمت جائحة “كورونا” في تدني مستوى العيش ودخول فئات من المجتمع التونسي تحت وطأة الفقر، وذلك أثناء فقدان الدينار التونسي أكثر من 15 بالمئة من قيمته خلال السنوات الأخيرة.

ذلك يأتي بينما ازدادت معدلات الفقر في تونس وغرقت الطبقة الوسطى في مستنقع الاحتياج وفقدان القوة الشرائية وضعفها وتدهور الدخل والإيرادات، وفقا لنتائج المسح الوطني للنفقات والاستهلاك ومستويات المعيشة، الذي أشار إلى اتساع معدل الفقر في البلاد إلى 16.6 بالمئة في عام 2021، مقارنة بـ 15.2 بالمئة في عام 2015، بينما ظل معدل الفقر المدقع مستقرا عند 2.9 بالمئة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات