بينما يأن العالم تحت وطأة أزمة غذائية قاسية جراء تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا وما تسبب به من تعطيل سلاسل توريد الغذاء الأساسية، يبدو أن موسكو لا تزال مصرّة على استخدام ملف الأمن الغذائي كورقة ضغط ضد خصومها، في محاولة تبدو “يائسة” لإحراجهم أمام الحاجة العالمية للغذاء الذي باتت أسعاره مرتفعة جدا، فهي لا تزال تماطل في موقفها من تمديد اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود الذي ينتهي سريانه في الـ 18 من الشهر الجاري.

روسيا هددت في الثالث عشر من نيسان/أبريل الماضي، بالانسحاب من اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية في موعد أقصاه 18 أيار/مايو، ما لم يتم رفع القيود على الصادرات الروسية من الأسمدة والمنتجات الغذائية، قائلة إنه من دون إحراز تقدم لا يمكن الخوض في تمديد “مبادرة البحر الأسود” التي رعتها “الأمم المتحدة” وتركيا.

تحت تلك الطائلة، حاولت موسكو تبرير تهديدات انسحابها من الاتفاق الذي فسّره مراقبون بأنها محاولات للضغط على المجتمع الدولي لأغراض سياسية وعسكرية تتعلق بمجريات الغزو الذي شنّته على أوكرانيا في شباط/فبراير العام الماضي، وجاءت نتائجه وخيمة على عكس التوقعات الروسية، حيث تكبدت خسائر ميدانية واقتصادية كبيرة.

مزاعم روسيا حول اتفاق تصدر الحبوب عبر البحر الأسود

موسكو عقدت تجديد الاتفاق، برفع التجميد المفروض على أصول شركاتها المرتبطة بالقطاع الزراعي الموجودة في الخارج، واستئناف تشغيل خط أنابيب “توجلياتي أوديسا” الرابط بين روسيا وأوكرانيا والذي ينقل الأمونيا، وهي مكوّن كيميائي يُستخدم على نطاق واسع في الزراعة.

في غضون ذلك، من المقرر أن تغادر أمس الثلاثاء، آخر سفينتين من الموانئ الأوكرانية بموجب الاتفاق، وعلى هذا النحو، قال مارتن غريفيث وكيل الأمين العام لـ “الأمم المتحدة” للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ أول أمس الاثنين، إن المساعي ستستمر في الأيام المقبلة لتمديد الاتفاق الذي يسمح بتصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود.

غريفيث وفي اجتماع لـ “مجلس الأمن” التابع لـ “الأمم المتحدة” بشأن أوكرانيا، بيّن أن استمرار “مبادرة البحر الأسود” أمر بالغ الأهمية، وكذلك إعادة التزام الأطراف بتنفيذها بسلاسة وفاعلية، مشيرا إلى مواصلة دعوة الجميع للاضطلاع بمسؤولياتهم بينما يراقب العالم هذه العملية عن كثب.

حديث غريفيث جاء عقب اجتماعه في إسطنبول الأسبوع الماضي، مع مسؤولين كبار من روسيا وأوكرانيا وتركيا، لكن لم يتم الحصول على موافقة روسية لتمديد الاتفاق، في وقت كشف فيه مسؤول بوزارة الخارجية الأوكرانية، أنه ليس من المزمع إجراء محادثات إضافية هذا الأسبوع.

بالتالي، فبينما تمنع روسيا وصول إمدادات الحبوب الأوكرانية “لإطعام الجائعين”، كما قال روبرت وود نائب السفير الأميركي لدى “الأمم المتحدة”، فإن روسيا تصدّر بنجاح محصولها الضخم من الحبوب، وهو ما يتطلب أن تتوقف موسكو عن جعل الأمن الغذائي العالمي رهينة لألاعيب السلطة الساخرة والتّربح.

في هذا الصدد يقول المختص بالعلاقات الدولية محمد اليمني، إن ما يجعل موسكو تعطّل هذا الاتفاق؛ لأنها تعلم أن تصدير الحبوب والمواد الغذائية وخاصة الأوكرانية، عاملٌ كبير في تحقيق الاستقرار للدول النامية وغير النامية، حتى ربما بعض الدول الكبرى.

أهداف روسيا من تعطل “مبادرة البحر الأسود”

اليمني يضيف في حديثه مع موقع “الحل نت”، أن تعطيل موسكو لهذا الاتفاق، معناه أن روسيا تؤثر على الاقتصاد وتزيد من تصعيد الأزمة الغذائية العالمية، وتضغط على جميع الأطراف، سواء أوكرانيا أو واشنطن، بل وجميع الأطراف المتضررة من عدم تصدير الحبوب والمواد الغذائية من قِبل كييف.

بواخر لنقل الحبوب عبر البحر الأسود/ إنترنت + وكالات

اليمني يشير، إلى أن الولايات المتحدة تستخدم بعض الاستراتيجيات في تحجيم روسيا من كل الاتجاهات، سواء في الميدان أو خارج الميدان، وسواء اقتصاديا أو عسكريا، ولكنها لم تتحقق كلّيا بعد.

بحسب اليمني أيضا، فإن السلوك الروسي الذي عطّل ويعطل الاتفاق، يؤشر إلى أن موسكو تسعى لتحقيق أزمة غذاء عالمية بهدف الضغط على جميع خصومها.

الاتفاق جاء نتيجة وساطة “الأمم المتحدة” وتركيا، في تموز/يوليو الماضي، للمساعدة في التصدي لأزمة الغذاء العالمية التي تفاقمت بسبب غزو روسيا لأوكرانيا، التي تُعد أحد أكبر مصدّري الحبوب في العالم، وذلك بعد أن وافقت “الأمم المتحدة” على مساعدة موسكو في تيسير تصدير منتجاتها الزراعية.

بناء على ذلك، شهدت إسطنبول، في الثاني والعشرون من تموز/يوليو الماضي، توقيع وثيقة “مبادرة الشحن الآمن للحبوب والمواد الغذائية من الموانئ الأوكرانية” بين تركيا وروسيا وأوكرانيا و”الأمم المتحدة”، وتضمنت الاتفاقية تأمين صادرات الحبوب العالقة في الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود شرق أوروبا، لمعالجة نقص الغذاء العالمي الذي ينذر بكارثة إنسانية.

لكن وعلى الرغم من أن الصادرات الروسية لا تخضع للعقوبات الغربية التي فُرضت بعد الغزو الروسي على أوكرانيا، إلا أن موسكو تقول إن القيود المفروضة على المدفوعات والخدمات اللوجيستية والتأمين، شكّلت عائقا أمام الشحنات، وهو ما يدفعها للانسحاب من الاتفاق، بيد أنها ليست المرة الأولى التي تهدد فيها موسكو بالانسحاب من الاتفاق، وتعليقه.

حيثيات الاتفاق الروسي الأوكراني

يشار إلى أن، الاتفاقية التي قضمت موسكو، في مارس أذار/مارس الماضي، تمديدها لمدة 60 يوما بدلا من 120 يوما كما ينص الاتفاق الأصلي، بعد عناء ومباحثات معقدة، قد ضمنت تصدير نحو 30 مليون طن من المنتجات الزراعية من ثلاثة موانئ أوكرانية، بعدما تسبب به الغزو الروسي لأوكرانيا ومحاصرته للموانئ الأوكرانية في توقف التصدير لمدة 6 أشهر، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية عالميا العام الماضي إلى مستويات قياسية لم يشهدها العالم منذ 10 أعوام، بحسب منظمة الأغذية والزراعة التابعة لـ “الأمم المتحدة “فاو”.

حبوب محملة في البواخر تنتظر التصدير عبر البحر الأسود/ (العربي الجديد)

هذا وتوصف أوكرانيا بـ”سلة الغذائية”، فهي قادرة على توفير وضمان الأمن الغذائي لدول أوروبا وغيرها من دول العالم، كما تتميز أراضيها بتربتها السوداء شديدة الخصوبة، إذ تشغل 71.3 بالمئة تقريبا من أصل مساحة أوكرانيا الكلية البالغة نحو 604 آلاف كيلومتر مربع، وتشكل الغابات نحو 15 بالمئة من مساحة البلاد.

الزراعة في أوكرانيا تحتل المرتبة الثانية من حيث الأهمية بالنسبة لاقتصاد أوكرانيا، وتعد الحبوب بأنواعها من القمح، الشعير، الذرة، وبنجر السكر، من أهم منتجاتها، إذ تحتل أوكرانيا المركز السادس عالميا بين أبرز الدول المصدرة للقمح والذرة، ومصانعها تنتج جميع المواد الغذائية المصنعة من الحبوب.

إذ تمثل منتجات القطاع الزراعي 45 بالمئة من إجمالي الصادرات الأوكرانية، ويعبّر هذا الرقم عن إسهامات القطاع في جلب النقد الأجنبي للبلاد، فقد أدخل في 2020 على سبيل المثال، 22.4 مليار دولار للاقتصاد الأوكراني، في حين كان عام 2020 الأفضل في تاريخ صادرات أوكرانيا من زيت زهرة الشمس التي بلغت 6.9 ملايين طن، والدواجن 431 ألف طن، والعسل 81 ألف طن، والفواكه 55 ألف طن، والمعكرونة 30 ألف طن.

علاوة على الصادرات الصناعية والحيوانية والباطنية، فإن صادرات الحبوب تحديدا في أوكرانيا تعد الأكبر والأبرز، حيث تبلغ وسطيا نحو 50 مليون طن سنويا، قبل أن تتراجع بفعل الغزو الروسي، للعام الزراعي المستمر حتى حزيران/يونيو، بنسبة 28.7 بالمئة، أي إلى 29.2 مليون طن؛ بسبب قلة المحصول والصعوبات اللوجستية الناجمة عن الغزو الروسي.

الصادرات شملت نحو 10.4 مليون طن من القمح، و16.7 مليون طن من الذرة، ونحو 1.9 مليون طن من الشعير، في حين كانت صادرات الموسم الماضي في الفترة نفسها 40.9 مليون طن، وذلك في الوقت الذي قالت فيه وزارة الزراعة الأوكرانية، إن صادرات الحبوب في شباط/فبراير الماضي، بلغت 2.2 مليون طن حتى 13 شباط/فبراير هبوطا من 2.4 مليون طن في الفترة نفسها من العام الماضي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات