بهدف إيجاد تسوية سياسية بين أرمينيا وأذربيجان؛ الدولتان اللتان تعيشان توترا شبه مستمر وصل في مراحل معينة إلى حالة حرب، تسعى الولايات المتحدة الأميركية من خلال دفع حلفائها في “الاتحاد الأوروبي” إلى ضرورة إيجاد حل دائم بين الطرفين، الأمر الذي يشير إلى مدى الرغبة الأميركية في خلق توازنٍ استراتيجي بمنطقة القوقاز الواقعة على حدود القارتين الأوروبية والآسيوية، والتي تسعى روسيا التفرد فيها.

الجهود الأميركية تأتي على وقع تجدد التوترات بين الجانبين يوم الجمعة الماضي، قبل يومين من محادثات رفيعة المستوى كان الطرفان يستعدان لإجرائها في بروكسل بشأن اتفاق سلام طويل الأمد، حيث تبادلت قوات من الجانبين إطلاق النار بأسلحة من بينها قذائف هاون وطائرات مسيرة على حدودهما المشتركة الجمعة، مما أسفر عن مقتل جندي أذري وآخر أرميني.

ذلك جاء بعد أيام قليلة من مفاوضات سلام صعبة بين أرمينيا وأذربيجان تحت إشراف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في واشنطن ولمدة أربعة أيام، حيث ناقش الجانبان مسائل بالغة الصعوبة، وقد حققا تقدما ملموسا نحو اتفاق سلام مستدام، كما قال بلينكن.

مساع أوروبية إلى جانب الأميركية

على الجانب الأخر، تحدث رئيس “المجلس الأوروبي” شارل ميشال عن تقدم في المحادثات بين أرمينيا وأذربيجان والتي جرت الأحد في بروكسل، داعيا إلى الحفاظ على الزخم للتوصل إلى اتفاق سلام، وذلك في أعقاب اللقاء بين رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، والرئيس الأذربيجاني الهام علييف، وهو الخامس في إطار الوساطة الأوروبية، الأحد الماضي، في بروكسل.

تلك المحادثات ضمن الجهود الأوروبية والأميركية التي أشارت إلى مستوى التقدم الكبير في رغبة الجانبين في تقاسم سلام مشترك ومستدام، أعادت إلى الأذهان محاولات روسيا فرض نفوذها على المنطقة والتحكم بواحد من الملفات الحساسة الذي أشعل صراعا استمر لعقود بين أرمينيا وأذربيجان، من خلال استئثارها بطاولة المفاوضات التي رعتها عام 2020، خلال الحرب التي اندلعت بين الطرفين واستمرت لـ 44 يوما، وأسفرت عن توقيع الجانبين لاتفاق سلام، اتضحت مدى هشاشته خلال الأيام الماضية عندما عاد التوتر إلى المنطقة.

إذا كان ابتعاد الولايات المتحدة عن تطورات حرب 2020، وتفرد روسيا بالمفاوضات بين الجانبين، من العوامل التي أدت إلى تغيير جميع التوازنات في المنطقة، الأمر الذي دفع بالولايات المتحدة الأميركية إلى تكثيف جهودها في خلق توازنٍ مع النفوذ الروسي، لاسيما في ظل الحرب الأوكرانية التي تبدو قد أثّرت على مستوى سياسة موسكو الخارجية، التي لم تعد تمتلك مجالا لملفات أخرى.

فبعد شنِّ روسيا حربها على أوكرانيا وما تبعها من تطورات عالمية، وبالنظر إلى محاولات موسكو إحكام قبضتها على منطقة جنوب القوقاز بعد اتفاق 2020، حيث أكدت مرارا وتكرارا على عدم إمكانية إرساء حل للتوترات في المنطقة، دون مشاركتها فيه؛ واصلت الولايات المتحدة سياساتها تجاه جنوب القوقاز من خلال “حلف شمال الأطلسي” (ناتو) بهدف تطويق روسيا، وإثبات قدرتها على تحقيق السلام وتهدئة الاضطرابات، لما يصب في صالحها ويمنحها المزيد من النفوذ في جنوب القوقاز.

بالنظر إلى كل ذلك، يمكن تقييم المحادثات بين أرمينيا وأذربيجان التي استضافتها الولايات المتحدة في الأيام الماضية، كما يمكن اعتبار أن واشنطن خلقت عبر هذه المحادثات مسارا بديلا للأزمة على عكس الذي اتبعته موسكو وبعيدا عن اتفاقية 10 شباط/نوفمبر 2020.

بالتالي فإن هذه الجهود تأتي في سياق محاولات أميركا تثبيت قدمها في خاصرة روسيا، ويمكن مقارنة ذلك بما تحاول روسيا فعله من خلال غزوها لأوكرانيا، إذ أنها حاولت إبعاد النفوذ الأميركي والغربي عن حدودها من خلال التمركز في حدود “حلف شمال الأطلسي”، وهو ما ردت عليه الغرب والولايات المتحدة الأميركية من خلال جملة تحركات بما فيها محاولة إرساء النفوذ في جنوب القوقاز، كما يرى المحلل السياسي عبدالله الكناني.

الحرب على أوكرانيا وتأثيرها على روسيا

الكناني قال في حديث لموقع “الحل نت”، إن الحرب الروسية على أوكرانيا كشفت للعالم بمن فيهم اللاعبين الأساسيين الكثير من مواطن الخلل في منظوماتهم الخاصة والعالمية بشكل عام، وضمن ذلك الحاجة الغربية لمصادر الطاقة التي حاولت روسيا الضغط عليهم من خلالها، باعتبارها تمتلك موردا كبيرا منها، بالتالي أن منطقة جنوب القوقاز تُعد واحد من مصادر الطاقة المهمة، الأمر الذي حفز أوروبا وأميركا على ضرورة ضمان مصالحهم في تلك المنطقة مستغلين الانشغال الروسي بالحرب الأوكرانية.

جانب من مظاهر الحرب بين أرمينيا وأذربيجان/ إنترنت + وكالات

أما عن التأثير الأميركي الذي يجري الحديث عنه في محاولات تكريس السلام بين أرمينيا وأذربيجان، بحسب الكناني، يأتي من قوة “الاتحاد الأوروبي” الذي لا يمكن لأرمينيا وأذربيجان الانفصال عنه، والعيش بمعزل عنه، لأسباب عدة، بما فيها الحركة التجارية، وبحكم الشراكة والحلف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأميركية و”الاتحاد الأوروبي” فإن أميركا أثبتت قدرتها على إدارة الملفات الحساسة، والتأثير فيها.

ذلك كله، وفقا للمحلل السياسي، يعطي لأميركا فرص كبيرة في نجاح تحركاتها في التوصل إلى اتفاق سلام بين أرمينيا وأذربيجان، مبيّنا أن ذلك بالمحصلة سيعطي مساحة من النفوذ لواشنطن في المنطقة، وفي أقل الاحتمالات إن لم يحقق التوازن المطلوب مع النفوذ الروسي؛ فإنه سيكون عامل إزعاج كبير لتحركات روسيا هناك، أي قد لا يمكن لموسكو استعادة نفوذها المطلق على المنطقة كما في السابق، والذي ترجمته في مفاوضات 2020.

من جانبه، قال الباحث في الشأن السياسي محمود أبو حوش في حديث مع موقع “الحل نت”، إن التحركات الأميركية في منطقة القوقاز ومحاولة التوفيق بين أذربيجان وأرمينيا، تأتي في سياق مزاحمة النفوذ الروسي في منطقة القوقاز، وهذا ما تعوّل عليه الولايات المتحدة الأميركية في محاولة خفض التصعيد بين أرمينيا وأذربيجان.

هذا وخاضت أرمينيا وأذربيجان حربين، الأولى مطلع تسعينيات القرن الماضي، والثانية عام 2020، سيطرت خلالها العاصمة الأذرية باكو على أراض في منطقة ناغورني قره باغ، التي تقطنها غالبية أرمينية وانفصلت أحاديا عن أذربيجان قبل 3 عقود، قبل أن توقّع باكو ويريفان وقفا لإطلاق النار بوساطة موسكو.

التوتر الذي كان شديدا بالأساس تجدّد حين أعلنت باكو قبل أكثر من شهر، أنها أقامت أول نقطة تفتيش عند مدخل ممر “لاتشين”، الرابط البري الوحيد بين أرمينيا ومنطقة ناغورني قره باغ التي خضعت لحصار لعدة أشهر تسبب بنقص في السلع واقتطاعات في التيار الكهربائي، وهي خطوة اعتبرتها أرمينيا خرقا لوقف إطلاق النار الأخير المعلن بين الجانبين.

تراجع التأثير الروسي

بالتالي إن هذه المفاوضات التي تجري بوساطة أميركية تأتي بعد أيام على جولة في المنطقة قامت بها الأسبوع الماضي وزيرة الخارجية الفرنسي كاترين كولونا، حضت خلالها أذربيجان على إعادة الحركة بدون عراقيل على طول ممر “لاتشن” الشريان الحيوي لمنطقة ناغورني قره باغ.

المحادثات بين أرمينيا وأذربيجان في واشنطن/ إنترنت + وكالات

وسط ذلك، جدير بالذكر، أن من المرتقب عقد لقاء جديد بين باشينيان وعلييف في الأول حزيران/يونيو القادم في مولدافيا، بحضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتس، ورئيس “المجلس الأوروبي” شارل ميشال على هامش القمة الثانية للمجموعة السياسية الأوروبية، وذلك ضمن الجهود الغربية في التوصل إلى اتفاق سلام شامل بين الجانبين.

لكن اللافت في كل ذلك، أن روسيا التي ساعدت في إنهاء الحرب بين أذربيجان وأرمينيا عام 2020، وقامت قواتها بمراقبة وقف إطلاق النار، عندما توسط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لإنهاء الحرب، ووضع 2000 جندي حفظ سلام روسي بين الجانبين، وبدا الأمر وكأنه انتصار استراتيجي كبير لموسكو، يبدو أنّها قد فقدت تأثيرها مع احتدام الأزمة الجديدة في جنوب القوقاز، حيث لم تتدخل موسكو، بسبب حربها على كييف التي تُشتت انتباهها وتُضعفها. 

بناء على ذلك، بات النفوذ الروسي في أرمينيا وأذربيجان يتضاءل، كما قال زاور شيرييف، المحلل في “كرايسس غروب” في باكو، خلال حديثه لصحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، بإن الغزو الأوكراني في أذربيجان دفع الرأي العام أكثر ضد روسيا وفرقة حفظ السلام التابعة لها.

حيث ظهر الدعم العسكري الروسي في أرمينيا أقل فائدة، فلم تعد روسيا مصدرا غزيرا للأسلحة التي باتت تحتاجها في أوكرانيا، إضافة إلى حرص بوتين على الحفاظ على علاقات وثيقة مع تركيا، الحليف الرئيسي والداعم لأذربيجان.

الأمر الذي على ما يبدو قد دفع رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، مطلع العام الحالي، إلى إلغاء التدريبات العسكرية المخطط لها في أرمينيا هذا العام من قبل التحالف الذي تقوده روسيا، ووفقا لوكالة “أسوشيتد برس”، قال باشينيان إن الوجود العسكري الروسي في أرمينيا لا يفشل فقط في ضمان أمنها، ولكنه يثير تهديدات أمنية لأرمينيا.


هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات