فوضى وغلاء غير مسبوق في الأسواق السورية خلال الشهرين الماضيين. يعود هذا التخبط والتفاوت في الأسعار إلى عدة أسباب أساسية، لعل أبرزها غياب الدور الرقابي والتمويني الحكومي، وكذلك استغلال كبار التجار للأوضاع والظروف المتردية في البلاد.

لذلك فإن هذه الفوضى بالترافق مع غياب دراسات حقيقية عن التكلفة، تلعبان دورا مهما في فلتان الأسعار وفقا لبعض المختصين، فعند ارتفاع سعر أي سلعة رئيسية، مثل المازوت والبنزين والغاز والإسمنت، يُلاحظ أن أسعار المواد المرتبطة بهذه السلع قد ارتفعت بنفس النسبة أو أكثر، وهذا ما يجري بالفعل حاليا في الأسواق في ضوء القرار الحكومي الأخير برفع أسعار المواد الأساسية الآنفة الذكر.

تهرب حكومي من مسؤولياته

أكثر ما يهم المستهلك بالدرجة الأولى هو موضوع الأسعار وليس مدى مطابقة السلعة للمواصفات، وإذا ما تجرأ أحدهم وتقدم بشكوى بحق أي تاجر فغالبا ما تكون حول تسعيرة السلعة وليس نوعيتها وطبيعة المواد الداخلة بتصنيعها ونسبتها.

الأسواق السورية- “سانا”

ليس هذا وحسب بل إن المخالفة لا تأخذ مجراها إلا في حال عدم الإعلان عن السعر وبغض النظر عن سقفه بالنسبة للمواد المحررة، أما تلك غير المحررة والبالغ نسبتها 10 بالمئة تقع عليها مخالفة رفع تسعيرتها إلى جانب عدم الإعلان عن السعر، ما يعني أن الكرة في ملعب المستهلك الذي غالبا لا يبلّغ عن المخالفات وفي حال تبليغه يُسارع إلى إسقاط حقه، فأين إذا الحماية الفعلية للمستهلك، وفق ما يتساءل تقرير لصحيفة “البعث” المحلية، نُشر يوم أمس الثلاثاء.

معادلة تحتاج لمن يفسّرها من المعنيين بوزارة “وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك السورية” خاصة “مديرة حماية المستهلك”، التي تكتفي بالقول دائما إن الأسعار محددة للمستهلك من قبل الوزارة لكل السلع والمواد غير المحررة، وفي حال الارتفاع تبرر المديرية أنها مرتبطة بالسعر العالمي وتمّ تحديد السعر للمستهلك بناء على بيانات ومعطيات إجازات الاستيراد، وسبب التضارب بين سوق وآخر يعود حسب كل إجازة وأخرى.

أما في حال عدم التزام التجار بلائحة الأسعار المحددة من قبل الوزارة، ترمي الكرة في ملعب “مديرية حماية المستهلك” على اعتبار أنها المسؤولة عن مراقبتها وضبط المخالفات. وهكذا تتهرب الجهات الحكومية من مسؤولياتها تجاه ارتفاع الأسعار وعدم تقيّد الباعة بالنشرة التموينية، وبالتالي تحدث فوضى وتباين في الأسعار. 

ثمة فوضى غير منطقية في الأسعار ولا يتحملها عقل المواطن السوري الذي يعيش على كفّ عفريت في بلده المنكوب منذ أكثر من عقد، ويكاد يستطيع تأمين رزقه بشق الأنفس. وتبريرات الجهات الحكومية كالمعتاد، لا تزال تتمحور حول تدهور سعر الصرف، إلى حقيقة أنها أزمات ومشاكل اقتصادية عالمية، وأنها ليست مقتصرة على دمشق فقط.

لا دراسات حقيقة للتكلفة

في المقابل، فإن مجريات ما يحدث تؤكد أن الفوضى عارمة في الأسواق السورية ولا سيما في العاصمة دمشق، مترافقة مع غياب دراسات حقيقية عن التكلفة، الأمر الذي يلعب دورا مهمّا في فلتان الأسعار.

الأمر الآخر الذي ساعد على هذه الفوضى هي العوامل النفسية المرتبطة بالبائعين والمستهلكين، وهي من بين الأسباب الرئيسية لزيادات الأسعار في الاقتصاد السوري، فالبائعين والمنتجين مثلا لا يوفرون أي فرصة لرفع الأسعار إلا ويتم استغلالها بسبب الرغبة في أرباح إضافية.

تغيرات الأسعار في سوريا لا تخضع للنظريات الاقتصادية أو لمتغيرات السوق العالمية إلا في اتجاه الصعود، فاستقرار الأسعار يتطلب تقوية دور الدولة في الأسواق بحيث يمكن التدخل بإجراءات اقتصادية فعاّلة وليس بإجراءات إدارية تطلب فيها من التجار تخفيض أسعارهم، حسبما يوضح التقرير المحلي.

لذلك لابد على الأقل من وجود تقديرات للعرض والطلب على السلع والتحرك قبل حدوث الأزمة، إضافة إلى ضرورة وجود سياسات على المدى الطويل تركز على استقرار الأسعار فأثار أي سياسة مالية ونقدية لن تظهر قبل ثلاث سنوات من بدء التطبيق، إلى جانب ضرورة تشجيع المنافسة من خلال تفعيل قانون المنافسة ومنع الاحتكار بحيث يضمن حماية المستهلكين، وعدم حصر القوى الاقتصادية بأيد قلة، ويشجع على توزيع فعال للموارد في الاقتصاد لتأمين خيارات أكبر للمستهلكين، وأن يكون هناك تطبيق فعلي وشامل لهذا القانون على الصناعة والتجارة.

التقرير يشير إلى أن ارتفاع أسعار الثوم هذا الموسم إلى مستويات قياسية خلال فترة وجيزة عقب إصدار “رئاسة الوزراء السورية” قرارا يسمح بتصديره، يدل على مدى التخبط الحكومي ليس لجهة التعاطي مع مسألة التسعير بشكل صحيح فحسب، بل لجهة التخطيط السليم الكفيل بتحقيق توازن يضمن ربح الفلاح وعدم غبنه، ويضمن كذلك حق المستهلك بالحصول على سلعة بسعر يتوافق مع القدرة الشرائية وتكاليف الإنتاج.

معادلة غير منطقية

في الإطار، فإن وصول عدد الضبوط إلى 1250 ضبطا تموينيا خلال الربع الأول من العام الجاري في محافظة اللاذقية، وبغرامات تجاوزت 30.5 مليار ليرة سورية، وفق التقارير المحلية مؤخرا، يكشف مدى ضعف وغياب دور الحكومة الرقابي، وانفلات التجار بالتلاعب في رفع أسعار السلع على أهوائهم.

أحد اسواق الخضار في سوريا- “إنترنت”

على إثر الغلاء والتباين في الأسعار اشتكى بعض الأهالي من تفاوت أسعار المواد الغذائية والأساسية في الأسواق، مطالبين بتشديد رقابي لضبط عمليات البيع والحد من عشوائية التسعير بين محلّ وآخر، حسبما أوردته صحيفة “الوطن” المحلية، مؤخرا.

كما وذكر مواطنون أن الأسعار تحلّق بين ساعة وأخرى لمعظم المواد من دون استثناء، مع وصول أسعار المواد الغذائية لأرقام فلكية بذريعة ارتفاع سعر الصرف من دون حسيب ولا رقيب. إن خروج الأسواق عن سيطرة الجهات الرقابية، بجانب فوضى الأسعار حسب مزاج الباعة، غير منطقي وفي الواقع لا يوجد هكذا أمر في أي دولة في العالم، وهذا يقود المرء إلى فهم أمر واحد، وهو إما أن ثمة عجز حكومي حقيقي يقف وراء كل هذه الفوضى أو أن الأجهزة الحكومية نفسها فاشلة في ضبط التجار والبائعين فيما يخص فوضى وتباين الأسعار، وبالتالي يصبح المواطن فقط هو من يدفع الضريبة مقابل كل ذلك، وهو في الوقت نفسه يتأرجح بين غلاء المعيشة من جهة وانخفاض مستوى الرواتب والأجور من جهة أخرى.

في سياق متّصل، إذا ما تمت مقارنة الأسعار في سوريا مع أسعار الدول الأخرى، لا سيما دول الجوار، فإن الأسعار غير منطقية بسوريا، حيث أن أسعار العديد من السلع، وخاصة المواد الغذائية الأساسية هي الأغلى في البلاد مقارنة بلبنان أو الأردن أو العراق. كما جاءت في العديد من التقارير المحلية وعلى لسان مسؤولين حكوميين بدمشق الذين أقرّوا بأن الأسعار في سوريا، مقارنة مع الدول العربية هي الأغلى، وأن الفروق تزيد عن النصف. وفي الواقع، هذا أمر مثير للاستغراب ويدعو للتساؤل.

“جمعية حماية المستهلك السورية” في وقت سابق اعتبرت أن أسعار المواد في الدول المجاورة أرخص من الأسواق السورية. وهذا يعود لوجود السوق السوداء الموازية لمؤسسات “السورية للتجارة”، والاحتكار الموجود وخاصة المواد الاستراتيجية من سكر وزيت وأرز.

الخبراء يُرجعون ذلك إلى أنها نتيجة طبيعية لعدم فتح الحكومة لباب الاستيراد لمن يرغب وخصوصا المواد الأساسية والضرورية.

كما أن نسبة كبيرة من المواد المتوفرة في السوق أسعارها أغلى من دول الجوار، وبدون فتح باب الاستيراد أمام جميع التجار وعدم حصرها بأشخاص محددين، التابعين بشكل غير مباشر لمسؤولين كبار بالحكومة، لن يتراجع هذا الفارق الموجود بين سوريا والدول المجاورة.

هذا بالإضافة إلى ضعف الإنتاج المحلي الذي لا يغطي حاجة السوق، ومن ثم اللجوء إلى الاستيراد، وهذا ما يتسبب برفع تسعيرة المنتج، فضلا عن أن تكاليف النقل المرتفعة جدا بسوريا مقارنة بالدول المجاورة التي لا تعاني من أزمة محروقات مثل سوريا، بجانب ضعف استقطاب التجار والمستثمرين، نظرا لعدم توافر البيئة الملائمة لهم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات