بعد شهر من “التطبيع” العربي مع دمشق، يبدو أن دول المنطقة التي اختارت السير على هذا المسار لن تجني الكثير من الفوائد. فالبيان المشترك للرئيس الجمهوري للجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي والعضو الديمقراطي في اللجنة، يشير إلى أن إعادة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية “خطأ استراتيجي فادح” سيشجّع الرئيس السوري بشار الأسد وروسيا وإيران، على الاستمرار في زعزعة استقرار الشرق الأوسط.

مع تلاشي غمامة “التطبيع” المفترض مع دمشق، بدأ الواقع القاسي بالظهور، فقد تجد الدول العربية التي تسعى إلى إقامة علاقات مع الحكومة السورية نفسها خالية من المكاسب، خصوصا أن الانتهاء مؤخرا من الانتخابات الرئاسية في تركيا أدى إلى تعقيد الموقف، حيث يبدو أن أنقرة مهيأة لإعطاء الأولوية لمصالحها، تاركة المفاوضات لعودة علاقتها مع سوريا على الهامش ما يشير إلى أن حفلة الانتصارات السريعة حول إعادة دمشق لـ”الجامعة” العربية التي قد تنتهي بنتائج عكسية وخطيرة.

في عالم مليء بالتعقيدات الجيوسياسية، تثار تساؤلات حول كيف بات الوضع الحالي لجهود “التطبيع” مع دمشق خاصة فيما يتعلق بالأسد، وما هي العوامل الرئيسية التي تؤثر على نجاحه وكيف ينظر الفاعلون الإقليميون والدوليون إلى مفهوم عودة العلاقات مع سوريا، وكيف يتماشى مع مصالحهم الاستراتيجية.

وهم “التطبيع” مع دمشق

في 19 مايو/أيار الفائت، شارك الأسد في قمة قادة “جامعة الدول العربية” بمدينة جدة السعودية للمرة الأولى منذ نحو 12 عاما؛ لكن على الرغم من المصالحة العربية مع الرئيس السوري، إلا أن الولايات المتحدة لا تزال تتبع سياستها السابقة تجاه سوريا، وتفرض العقوبات دون تغيير. وهذا يشير إلى أن العلاقات العربية السورية لم تجرِ بعيدا عن نظر الولايات المتحدة، ما يعني أن هناك تقييما دقيقا للمصالح والآثار المحتملة لأي قرار يُتخذ في هذا الصدد.

بشار الأسد خلال قمة جامعة الدول العربية في جدة السعودية - "فرانس برس"
بشار الأسد خلال قمة جامعة الدول العربية في جدة السعودية – “فرانس برس”

القمة العربية تم تنظيمها في جدة وحضرها الأسد، ولكنها لم تكن أكثر من تتويج للاجتماعات السابقة التي عقدت في عمّان و”الجامعة العربية” بشأن سوريا. لكن لا يمكن التنبؤ بتعامل الدول العربية مع الرئيس السوري بشار الأسد خلال الأشهر الستة القادمة، ولكن بالنظر إلى المشكلات الكبيرة التي تواجهها سوريا، فمن المرجح أن الدول العربية ستواصل الضغط على الأسد لتحقيق المزيد من التقدم في العملية السياسية والحد من تدخلات إيران في سوريا. 

في ذات الوقت يُعتقد أن الأسد لن يستطيع الإيفاء بتعهداته للدول العربية، فهو لن يوقف تدفّق “الكبتاغون”، ولن يُخرج الميليشيات الإيرانية من سوريا، وهو ما يعزز الخطاب المشترك الصادر عن نواب أميركيين، بأن التداعيات واضحة بشأن “التطبيع” مع دمشق ويمكن أن يثبت أنه خطأ استراتيجي.

الاختلافات بين الدول العربية والولايات المتحدة حول إعادة العلاقات مع سوريا لا يمكن أن تقوم على مبدأ النّدية، ولا يمكن تقسيم الدول إلى مع دمشق أو مع الولايات المتحدة. ومن المحتمل أن تسعى الدول العربية إلى العمل بشكل يحقق مصالحها ويجنّبها الصراع مع الولايات المتحدة، وهذا يعني أنها ستتحرك في الحدود التي لا تخالف المصالح الدولية، وهذا عكس تطلعات دمشق التي تصر على علاقتها مع المحور الإيراني الروسي الصيني.

فوز أردوغان وتأثيره على مسار “التطبيع”

يمكن أن تثير ولاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الجديدة بعض النقاشات خاصة فيما يتعلق بالقضية السورية وملف اللاجئين، و”تطبيع” العلاقات بين تركيا وسوريا، لا سيما أن القضية السورية التي كانت حاضرة في برامج المرشحين الرئاسيين في تركيا.

وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في اجتماع عمّان - إنترنت
وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في اجتماع عمّان – إنترنت

الأكاديمي والخبير في الشؤون السياسية العربية، أشرف الزعبي، أوضح في حديثه لـ”الحل نت”، أنه “قد يكون إغراء التطبيع قد أعمى البعض عن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، لا يزال سجل الحكومة السورية في التعامل مع المخاوف العربية قائما؛ لذا هنالك تشكيك في المكاسب لمن يسعون إلى التقارب مع دمشق”.

الزعبي بيّن أنه وبعد شهر من جملة التفاهمات مع الحكومة السورية فإن إعادة تقييم مسار “التطبيع” مع دمشق وهل المنافع تفوقها التكاليف، سواء من حيث التداعيات الأخلاقية أو المصالح الاستراتيجية للدول العربية المعنية، من الواضح أن “حفلة الانتصارات” انتهت.

الوضع الحالي لجهود “التطبيع” مع دمشق، خاصة فيما يتعلق بالأسد، طبقا لحديث الزعبي محفوف بالشكوك والقلاقل، حيث لا يزال الأسد يشجع روسيا وإيران على إدامة تدخلهما في المنطقة، من خلال استمرار توقيع الاتفاقيات الاقتصادية وتشجيع روسيا على حربها في أوكرانيا والاعتراف بالجمهوريات التي احتلتها موسكو، فضلا عن بقاء وصول المقاتلين والأسلحة والمخدرات عبر الحدود السورية.

الانتخابات الأخيرة في تركيا ومتابعتها لموقف الدول التي فتحت علاقتها مع سوريا، من المتوقع طبقا للزعبي أن تعطي تركيا الأولوية لمصالحها الوطنية على عملية إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. حيث سيتحول تركيز أنقرة نحو معالجة التحديات الداخلية وتعزيز أهدافها الاستراتيجية في المنطقة، مما قد يقلل من رغبتها في إعطاء الأولوية لجهود “التطبيع” مع سوريا.

أيضا إصرار الحكومة السورية وعلى لسان وزير خارجيتها، فيصل المقداد، بعدم المضي في إصلاحات سياسية بمبدأ “خطوة مقابل خطوة”، يزيد من تآكل الثقة في نوايا دمشق. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للديناميكيات الإقليمية، بما في ذلك نفوذ الجهات الخارجية مثل روسيا وإيران، أن تؤثر على آفاق جهود “التطبيع” الناجحة.

هل سيبقى الأسد معزولا؟

وجهات نظر الفاعلين الإقليميين والدوليين حول “التطبيع” مع سوريا تتباين بحسب مصالحهم الاستراتيجية. قد تنظر بعض الدول إلى التعامل مع الأسد على أنه وسيلة لتأمين مصالحها الخاصة أو وسيلة للتأثير السياسي. ومع ذلك، قد يتعامل آخرون مع المفهوم بحذر، مع الأخذ في الاعتبار تصرفات دمشق السابقة والعواقب المحتملة لإضفاء الشرعية على حكومة مسؤولة عن معاناة المنطقة بشكل كامل. 

الرئيس السوري بشار الأسد - إنترنت
الرئيس السوري بشار الأسد – إنترنت

طبقا لحديث الزعبي، فإنه مع إصرار دمشق على ديناميكيتها في التعامل مع العرب وعدم تطبيق الاتفاقيات التي وقّعت في قمّة جدّة واجتماع عمّان، يبدو أن الدول العربية التي اجتمعت مؤخرا على إعادة سوريا إلى الجامعة العربية لن تحقق أية مكاسب.

أيضا إذا ثبت أن “التطبيع” مع سوريا غير قابل للتطبيق لهذه الدول، فيمكن أن تفكر في مناهج أو استراتيجيات بديلة، بحسب الأكاديمي والخبير في الشؤون السياسية العربية، مثل إعطاء الأولوية للمساعدة الإنسانية ودعم جهود المصالحة السياسية والمساءلة عبر المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة، وتأهيل المعارضة سياسيا بشكل جديدا يضم قسمي سوريا شرقا وغربا للتركيز على استقرار المناطق المتضررة من النزاع، ومعالجة أزمات اللاجئين، فضلا عن دعم المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان كسبل بديلة للمشاركة والتأثير على الأسد.

أيضا يمكن أن يؤثر مفهوم استعادة العلاقات السعودية الأميركية على آفاق “التطبيع” مع الأسد والديناميكيات في المنطقة، إذ يمكن للتحالف السعودي الأميركي بنفوذه وموارده، تشكيل الديناميكيات الإقليمية وربما التأثير على النهج تجاه سوريا، ويمكن أن يكون لمواءمة المصالح بين الرياض وواشنطن أن يؤثر على المشهد الدبلوماسي وبشكل كبير على احتمالات جهود “التطبيع”.

في الساحة الكبرى للسياسة الدولية، لا تُقاس القوة بالعناد أو المطالب الثابتة، ولكن بالقدرة على التكيف والسعي وراء أرضية مشتركة. بينما تفكر الحكومة السورية في فرض شروطها لاستكمال “التطبيع”، عليها أن تدرك حقيقة واقعية؛ أن التمسك بمواقف غير مرنة لن يؤدي إلا إلى خسارتها. 

لا تزال الحكومة السورية، التي أضعفها عدم سيطرتها على جميع الأراضي السورية، نفسها في وضع غير مستقر وسط وجود القوات الأميركية والتركية، إلى جانب نفوذ الفصائل المدعومة من أنقرة و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في شمال وشمال شرق سوريا. لذا فإن الإصرار على شروط بسقف عالٍ لن يؤدي إلا إلى مزيد من العزلة لدمشق، وهذا سيؤدي أيضا إلى ضياع مكاسب الدول التي كافحت من أجل إعادة علاقاتها معها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات