في زاوية مظلمة ومهملة من عالم الأعمال تتخفى أسرار مريبة، تنبثق من ظلال الليل والصمت، لتختبئ خلف غموض لا يُفهم سوى بحكايات تجمع بين البؤس والتحدي. إنها تجارة القمامة في سوريا، عالم مظلم يعج بالصراعات والتضحيات، حيث يتجاوز الحديث عنها حدود النكران والإدانة، ليكشف عن قصص مؤثرة يُراوح فيها النبّاشون بين دور الضحية والجلاد.

إن الوضع الراهن يبدو مختلفا تماما عما كان عليه قبل الزمن الذي ابتُدِعَ فيه مهنة “النبيش”، فلم تعد النفايات هي مجرد تجاوز بيئي يعوّق البيئة والمدن، بل أصبحت هي المصدر الوحيد لأمل يومي بالحياة للكثيرين. إذ يبدو أن النبش في قلب القمامة أصبح ملاذا يجمع بين الألم والأمل، حيث يجد النبّاشون ثروتهم اليومية.

داخل المدن السورية، تتزاحم العجلات والدراجات النارية المعدة بحرفية فائقة على ضفاف الحاويات، محاولة للاستحواذ على غنيمتهم اليومية. فكيف انتهى بهم المطاف إلى هذا المصير، وهل هم فعلا الجلادون الذين يُستنكَر عملهم، أم أنهم ضحايا نظم متهالكة أجبرتهم على البحث عن لقمة عيشهم بأي ثمن.

نبش الحاويات .. مهنة لها قوانينها

خلف الكواليس تظهر حقيقة هذه الظاهرة المعقدة، وتكشف أسرارا لطالما غطّتها الستارة السوداء لتبقى خفية عن أعين الجميع. فمن خلال شهادات حية من النبّاشين أنفسهم لـ”الحل نت”، تروى قصص قد يرفض البعض الاعتراف بها، ولكنها حقيقة مرة واقعة.

مهنة نبش القمامة منتشرة في كل سوريا وليس في منطقة محددة - إنترنت
مهنة نبش القمامة منتشرة في كل سوريا وليس في منطقة محددة – إنترنت

بحسب حديث أبو محمد الذي يعمل في مهنة نبش القمامة بحي الميدان في دمشق، لـ”الحل نت”، فإن مهنة النبّاشة تجلب معها فوائد عديدة تجذب العديد من الناس من فئة محدودي الدخل لاحترافها. فهو كغيره من النبّاشين، يستفيد بشكل كبير من هذه المهنة المترددة بين أوجه النكران والاحترام. 

طبقا لحديث أبو محمد، فهو يجمع كل يوم بين يديه كميات هائلة من القمامة، تشمل الكرتون والعلب البلاستيكية والمعدنية، ويتم نقلها عبر سيارته الصغيرة من نوع “سوزوكي”، التي أصبحت أداة أساسية له في هذه المهنة.

فوائد مهنة النبّاشة تعتمد بشكل كبير على الطلب المتزايد على مواد القمامة المعاد تدويرها. حيث يقوم أبو محمد بتسليم ما جمعه من القمامة إلى سمسار أو وسيط يعمل في مجال تدوير المواد، وفي المقابل يحصل على مقابل مالي يشكل مصدرا رئيسيا لدخله اليومي. وهذا الدخل اليومي يعتبر أمرا ضروريا للبقاء على قيد الحياة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يواجهها الكثيرون في سوريا، حسب وصفه.

إضافة إلى الفوائد المادية، تتيح مهنة النبّاشة لأبو محمد ومن مثله الفرصة لممارسة مهنة توفر لهم شعورا بالفخر والاعتزاز. فعلى الرغم من أن النبش في القمامة قد يبدو عملا مهينا ومحطا للانتقاد من قبل البعض، إلا أنه يشعر النبّاشون بأهمية دورهم في إعادة تدوير المواد والحفاظ على البيئة.

مهنة نبش القمامة في سوريا ليست اختيار وعمل، بل هي مخاطرة، ففي آذار/مارس 2022، كشف مدير البيئة في ريف دمشق، المثنى غانم، أن مهنة نبش القمامة غير مرخصة، وفي حال تم إلقاء القبض على من يعمل بها، يتم تغريمه بمبلغ 3 آلاف ليرة سورية.

المثنى بيّن حينها، أن مهنة نبش القمامة منتشرة في كل سوريا وليس في منطقة محددة على وجه الخصوص، مفضلا تسميتها بـ “فرز للقمامة” لأن العاملين فيها ينتقون المواد الممكن بيعها واستثمارها.

 ظاهرة “النبيّشة” أخذت بالازدياد

بات مشهد النبّيشة صباحيا على حاويات القمامة أمرا مألوفا، حيث يتنافس هؤلاء العمال على جني ثمار تلك الأكوام المرتفعة من النفايات. ولقد شكلت هذه الظاهرة مصدر قلق واستياء لأهالي المدن على مدى السنوات السابقة.

ظاهرة النبيشة ازدادت وتصاعدت في الآونة الأخيرة - إنترنت
ظاهرة النبيشة ازدادت وتصاعدت في الآونة الأخيرة – إنترنت

بالرغم من حداثة ظاهرة نبش القمامة في المحافظات السورية، إلا أنها أصبحت ظاهرة لا يمكن تجاهلها. حيث تتنامى يوما بعد يوم، وهو ما دفع الباحثين عن رزقهم ومصدر دخلهم اليومي للتوجه نحوها مستعجلين لجمع كل ما يمكن من مواد بلاستيكية وكرتونية. 

ثم يلهفون إلى بيع هذه المواد للتجار بأسعار تتجاوز الـ 50 ألف ليرة، وهو مبلغ مالي يساعدهم على تأمين احتياجاتهم اليومية وتلبية متطلبات حياتهم.

في سياق يتعلق بالقلق البيئي، أوضح مدير شؤون البيئة، رفعت خضر، لموقع “غلوبال نيوز” المحلي، أمس الخميس، أن ظاهرة النبيشة ازدادت وتصاعدت في الآونة الأخيرة، مع تجاهل العمال للأخطار الصحية المحدقة بهم. بدءا من نبش النفايات داخل الحاويات أو على المكبات، فإن هذا النشاط المستمر يجعلهم عُرضة للإصابة بأمراض عديدة نتيجة استنشاق غازات التخمر والهواء الملوث وغيرها. 

علاوة على ذلك، عدم ارتدائهم وسائل الوقاية الشخصية يزيد من خطر الإصابة بالأمراض خاصة إذا كانت أجسادهم تحمل جروحا، حيث يُسهِّل ذلك انتقال الأمراض مباشرة عبر الدم في أجسامهم.

بالإضافة إلى ذلك، أشار خضر إلى أن إلقاء النفايات خارج الحاوية بهدف تسهيل عملية النبش يُسبب تشتيتها على جوانب الطرق العامة بشكل عشوائي، ما يعيق جهود عمال النظافة، مبينا أن رمي النفايات وتفريقها عشوائيا يُعد مخالفة صريحة وواضحة لقانون النظافة رقم “49”. 

مدير البيئة في ريف دمشق، كشف في تصريحات سابقة أن العملية تتم من خلال مجموعات يديرها أشخاص، ويعمل تحت أيديهم أطفال ورجال، يفرزون القمامة ويعطوهم إياها والرؤوس الكبيرة هي من تقوم بالبيع، مؤكدا أن “الفقر ليس له علاقة بالموضوع فلو لم تكن تجارة مربحة لما عمل فيها أحد.

مافيات تجنّد الفقراء

الحديث في عالم النبّاشة يلفّه ما يلفّه من السرية والحذر من قبلهم، إذ يبدي هؤلاء العمال قلقا كبيرا من الكشف عن هوياتهم وممارستهم لهذه المهنة. وفي أفضل الأحوال، يمكن أن يصل التحقيق إلى الورش الصغيرة التي تعمل خلف النباشين، أما التجار الكبار فيظلون أكثر حذرا واحتياطا حتى لا يتعرضوا للكشف.

الحديث في عالم النبّاشة يلفّه ما يلفّه من السرية والحذر - إنترنت
الحديث في عالم النبّاشة يلفّه ما يلفّه من السرية والحذر – إنترنت

عمل النبّاشين ينظم في قطاعات، حيث يتولى كل قطاع رئيس نبّاشين له مكانة بارزة وسيطرة قوية، ويتحكم في عدد العمال الذين يعملون تحت قيادته. فتجد نبّاشا يمتلك ثلاثين عاملا، وآخر يملك عشرين، وهكذا تتوالى القطاعات، بالإضافة إلى عمال يعملون بمفردهم دون التبعية لأي قائد قطاع. 

هؤلاء العمال يتعرضون للمضايقات والتضيقات حتى يكونوا خاضعين لأوامر زعيم القطاع، وإذا اخترق أحد النباشين قطاعا آخر، فقد يواجه عواقب وخيمة، إذ إن القطاعات مستقلة تماما عن بعضها البعض.

تمثل هذه المهنة قوة لا ينبغي التهاون بها، ويكمن قوتهم في عددهم الكبير. ويمكنهم بذلك السيطرة على عدد كبير من المكبات، ويُعتبر الأطفال الركيزة الأساسية لمعظم هذه الشبكات. حيث يُنظِّم النبّاشون مكاسبهم النهائية وتوجه إلى المافيا المنظمة والتي تتحكم بكامل هذا المجال.

النبّاشون يرتبطون بأصحاب ورش صغيرة، وبالمقابل يرتبط أصحاب الورش بالتجار الكبار. وجميع هؤلاء المتورطين مرتبطون في دورة مداورة للبضائع سواء بطريقة شرعية أو غير شرعية. فالدوير وإعادة تعبئة بعض المواد البلاستيكية لبيعها كشامبو أو عطور أو منظفات على البسطات تُعد جزءا من هذه الشبكة التجارية.

حديث أبو محمد وحتى غيره، يعكس أهمية المهنة وكيفية كسب العيش منها لمحدودي الدخل، لكن مثل هذه المهن تحمل في طياتها حكايات وحقائق لا يُدركها الكثيرون، تظهر عالم مظلم وغامض، حيث تتقاطع فيه مصائر البشر وتبدأ حكاية النبّاشين، الذين أصبحوا الضحية والجلاد في آن واحد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات