البيئة التعليمية تعتبر إحدى أهم ركائز التنمية والاستقرار في أي مجتمع، فهي المكان الذي تتجلى فيه مستقبل الأجيال، ويتشكّل فيه القادة والعلماء والمهنيين؛ ومع ذلك، تواجه المدارس الحكومية في سوريا تحديات هائلة تهدّد وجودها وتقودها نحو مصير مجهول. فتأجير المدارس الحكومية لأغراض تجارية يُعدّ ظاهرة مثيرة للقلق، تمتاز بخطورتها وتأثيرها السلبي على المستقبل الوطني.

لطالما تجلى تأثير الاستثمارات الخاصة في القطاع التعليمي على مستوى عالمي، ولكن ما يجري في سوريا يتجاوز هذا الإطار إلى حد غير مسبوق. إذ يبدو أن هناك جماعات وأفرادا يسعون إلى استغلال الظروف الصعبة التي تمر بها البلد، وتحويل المدارس الحكومية إلى مشروع تجاري مربح. حيث تنتقل تلك المؤسسات من مراكز لتعزيز العلم والمعرفة إلى مراكز لتحقيق الربح، مما يفتك بجودة التعليم ويحرم الأجيال الصاعدة من فرصها.

ما يثير الدهشة هو تطور هذه الظاهرة، حيث يتم تأجير المدارس بقرار حكومي لأغراض تجارية غير متوافقة مع طبيعة المؤسسة. ففي بعض الحالات، يتم تحويل المدارس إلى مراكز للمنافسة، في مناطق محرومة من أي مدرسة حكومية كضاحية الشام الجديدة.

تأجير المدارس الحكومية لحيتان الأموال

إذا تجاوزنا تأثير حيتان الأموال وتسللهم إلى مفاصل وصانعي القرار في الهياكل الحكومية، فسنجد قليلا من الإمكانيات البارزة لرجال الأعمال وأصحاب الأموال الضخمة. حيث يجب عدم إغفال ما كشفه مسؤول سابق في الحكومة خلال اجتماع في وزارة المالية. إذ تجسّدت جرأة نادرة في تصريحه الواضح بأن “كبار رجال الأعمال يتمتعون بحماية خاصة”.

 تمكن حيتان المال من السيطرة على جملة من المدارس الحكومية. إلا أن هذه القضية لن تقتصر على عشرين مدرسة فقط في السنة الدراسية القادمة “2023-2024”. حيث أشارت وزارة التربية إلى توسيع نطاق مشروع تأجير مدارسها لتشمل مؤسساتها التعليمية خلال السنوات القادمة. والبداية كانت في دمشق على سبيل التجربة، لكنها ستمتد إلى محافظة ريف دمشق بحلول عام 2025، وستمتد بعد ذلك إلى محافظات أخرى.

مدير الشؤون القانونية في الهيئة العامة لأبنية التعليم أبدى مبررا لعملية تأجير المدارس الحكومية. وجاء في تصريحه، “وفقا لقانون العقود رقم 51 لعام 2004، يُسمح للجهات العامة بتنفيذ عمليات بيع أو تأجير أو استثمار بالتراضي أو بالوسائل المباشرة لتحقيق عوائد لصالح الجهات العامة. وتنظيم هذه العمليات يشمل أيضا بيع وتأجير واستثمار العقارات الحكومية ضمن إطار محدد”.

القطاع الخاص بدأ في استغلال فكرة استثمار المدارس الحكومية منذ أكثر من عشر سنوات. ففي تاريخ 10 آذار/مارس 2012، بدأت وزارة التربية بفتح باب لاستقبال طلبات المستثمرين، ومن ضمن هؤلاء أصحاب مؤسسات تعليمية خاصة، كانوا يهدفون للاستثمار في بعض العقارات المدرسية التابعة للوزارة. وتم تبرير هذا الاستثمار بحاجة تلك المدارس لأعمال ترميم وتجديد تقدر تكلفتها بأكثر من 200 مليون ليرة سورية لكل مدرسة.

مدير الهيئة العامة لأبنية التعليم في وزارة التربية أعلن حينها أن مشروع استثمار بعض العقارات المدرسية يهدف إلى استثمار مجموعة من العقارات التي تضررت جراء الأحداث أو التي لا يمكن تجديدها حاليا من قبل الوزارة، بهدف تأمين الموارد من خلال شراكة مع القطاع الخاص لتحسين وضع المنشآت التعليمية.

الجدير بالذكر أن تجارب حيتان المال في استثمار المدارس الرسمية ليست جديدة، حيث تمت محاولات سابقة لتسويق مشاريعهم من قبل أفراد يساندونهم من الداخل. وصولا إلى نجاحهم في الحصول على عقود استثمار لأكثر من عشرين مدرسة بموافقة وزير التربية السابق.

خصخصة التعليم الرسمي

رغم أن وزارة التربية نفسها هي وزارة خدمية وليست ذات طابع اقتصادي كي تبحث عن الموارد لتغطية إنفاقها أو جزء منه، فاحتياجاتها تأتي من الموازنة العامة للدولة، وبالتالي لا يمكنها الاستناد إلى قانون العقود أو سواه من أجل تحقيق هذه الغاية.

لا يقتصر دور مدير الهيئة العامة لأبنية التعليم على كشف معلومات أساسية فقط، بل أيضا على الإفصاح عن خطوات ملموسة في هذا السياق، لكن الوزارة قامت مؤخرا ودون إعلان بعرض خمس مواقع تمثل بداية لعمليات الاستثمار. وتشمل هذه المواقع المدارس المتضررة التي تحتاج إلى إعادة تأهيل بتكلفة محددة.

من المقرر أن تقوم الوزارة بتقدير قيمة بدل الإيجار السنوي للقاعات الصفية، والتي سيتم تحديدها من قبل لجان مختصة. علاوة على ذلك، ستكون هناك التزامات للجهة المستثمرة تشمل قبول 25 بالمئة من الطلاب وفقا لإلزامية التعليم، والمحافظة على الأثاث والتجهيزات في المدارس عند انتهاء العقد، كمساهمة من المستثمر، بالإضافة إلى الالتزام بالصيانة الدورية المطلوبة للمحافظة على مستوى فني ممتاز في المدرسة عند التسليم.

مدير الشؤون القانونية في الهيئة العامة لأبنية التعليم قدم توضيحا للسياق القانوني الذي يمكن من خلاله استثمار المدارس الحكومية. وأشار إلى أن قانون العقود رقم 51 لعام 2004، يمنح الجهات العامة إمكانية القيام بعمليات البيع أو التأجير أو الاستثمار سواء بالتراضي أو من خلال طرق أخرى، بهدف تحقيق عوائد للجهات العامة. وهو أيضا ينص على ضرورة تنظيم هذه العمليات وتحديد إطار لها، بما في ذلك عمليات بيع أو تأجير أو استثمار العقارات التابعة للجهات العامة وفقًا لضوابط محددة ومعينة.

من الواضح أن وزارة التربية تستند إلى قانون العقود لتبرير تأجير المدارس الحكومية للقطاع الخاص. لكن هل يفسح قانون العقود الباب لمثل هذا السلوك الغريب والمثير للشكوك.

أيضا إذا كانت وزارة التربية حريصة على الالتزام بما أشارت إليه بأن الاستثمار يتوجب أن يتعلق بالمدارس التي تعاني من الإهمال وتحتاج للترميم، فإن الواقع يظهر الصورة العكسية. 

فعقود استثمار المدارس الحكومية مع القطاع الخاص شملت مدارس حديثة مجهزة بأحدث التقنيات، مثل المدرسة المجاورة للجزيرتين 23 و24 في ضاحية الشام، ومدرسة حكومية في منطقة المغتربين تم تغيير اسمها لتصبح “سوا”، ومدرسة في منطقة المهاجرين بالجادة الثالثة، ومدرسة أخرى في ركن الدين، ومدرسة بالقرب من جامع “الماجد” في منطقة الزاهرة.

بحسب ما ذكره موقع “غلوبال نيوز” المحلي، أمس الخميس، فإن آلاف الأسر السورية تنتظر من وزير التربية الجديد، محمد مارديني، بأن يلغي عقود تأجير أكثر من 20 مدرسة حكومية لحيتان المال، قبل بدء العام الدراسي 2023 2024، ولاسيما أن بعض هذه المدارس جديدة، تقع في مناطق محرومة من أي مدرسة حكومية كضاحية الشام الجديدة، وتحديدا الجزر “16، 22، 23، و24”.

حيتان الأموال يطوعون القانون السوري

إن أثر تأجير المدارس الحكومية للقطاع الخاص يتجلى في تراجع جودة التعليم وارتفاع معدلات الأمية. فالتركيز على الأرباح يتسبب في تقديم تعليم غير كاف وغير متكافئ، مما يعرقل تطور المجتمع ويزيد من التفاوت الاجتماعي.

الملفت للنظر هو أن وزارة التربية قدمت تسهيلات لحيتان المال تفتقر إلى توازن مع التسهيلات المقدمة لهؤلاء الحيتان من قبل المؤسسات المصرفية. فالوزارة لم تشترط دفعة أولى أو دفعات دورية خلال العام كمقابل لتأجير المدارس الحكومية. 

بدلا من ذلك، وافقت بسهولة على تلقي المبالغ المتفق عليها لكل مدرسة من حيتان المال، بناءً على جداول زمنية متفاوتة تعتمد على مدة العقد. والسؤال الذي يطرح نفسه، ما هو الدافع وراء هذه التسهيلات التي تفتقر إلى التبرير.

هذا يعني أن حيتان المال لن يضطروا لدفع مبالغ كبيرة من رأس المال الخاص بهم مقدما. بل سيعتمدون بشكل رئيسي على إيرادات الطلاب كمصدر لتلك المدفوعات. ومن الممكن أن يتأخروا في السداد، وبالإضافة إلى ذلك، قيمة المبالغ الفعلية المنصوص عليها في العقود غير الرسمية وغير المشروعة ستنخفض بسبب التقلبات في أسعار الصرف. 

سيؤدي ذلك أيضا إلى تقليل القيمة مقابل استثمار المدارس مع مرور الوقت، بالطريقة نفسها التي تؤدى بها قيمة القروض التي يسددها تلك الحيتان إلى المصارف، حيث تتلاشى بسبب التراجع المروع في القيمة الشرائية.

من الواضح أن تأجير المدارس الحكومية لأغراض تجارية في سوريا يمثل تهديدا خطيرا يجب مواجهته بجدية. فالحفاظ على جودة التعليم وتوجيه جهود الاستثمار نحو مصلحة الأجيال القادمة هو أمرٌ لا يُساوم فيه، حتى لو كان حيتان الأموال في سوريا محميّن كما تقول الحكومة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات