في ظل ظروف انخفاض جودة وكفاءة الخدمات الصحية المُقدَّمة للسكان، وارتفاع تكاليف الأدوية والعلاجات بشكل كبير، اضطر كثير من السوريين إلى البحث عن بدائل أرخص وأسهل للحصول على رعاية صحية مقبولة. وهنا دخلت في المشهد الأدوية التقليدية، التي كانت تشكّل جزءا من التراث والثقافة السورية قبل تطور العلوم الطبية.

من دهاليز الزمن، حيث تختبئ العلاجات القديمة والتي باتت في أوراق الذاكرة بسبب تقدّم الطب وانتشار المستشفيات، عاد العلاج البديل، والأدوية التقليدية، لتمثّل الملاذ الأول لملايين السوريين. ففي عالم مليء بالتقنيات الحديثة والابتكارات الطبية، لا تزال هذه الأدوية تلقى رواجا بسبب السياسات الاقتصادية التي تنتهجها مؤسسات الدولة والتي عادت بالسّلب على المواطنين.

عبر تاريخ الإنسانية، كانت الأدوية التقليدية تجسّد رمزا للتمازج بين الطبيعة والإنسان، حيث انبثقت من معرفة تُعتبر ملكةً للأجداد. وهذا التراث العريق يحمل في طياته الخبرات والحلول التي كانت تُعدّ محور تجربة البشرية في التعامل مع الأمراض والصحة. من خلال مزيج من الأعشاب الطبية والزيوت العطرية والعلاجات الطبيعية، إلا أن امتهان البعض لها دون دراية وعلم، جعل منها بوابة للموت والمرض لتختفي وكذلك عزوف الناس عنها.

مهنة الطبابة التقليدية تنتعش

العديد من الأُسر السورية التي تحدّث معها “الحل نت”، تواجه صعوبة في الوصول إلى الرعاية الصحية المُقدَّمة من الحكومة أو الخاصة على حد سواء بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة والانقطاعات في الرعاية الطبية بسبب السياسات الاقتصادية في البلاد. لذلك، يلجأ الكثيرون إلى العلاجات والأدوية التقليدية كوسيلة للحفاظ على صحتهم وعلاج بعض الأمراض والآلام الشائعة.

أحد المعالجين الذين تحدّث معهم “الحل نت”، يصف نفسه منقذ أرواح الآلاف في سوريا، بسبب لجوء الناس إليه وعلاجهم بالأدوية التقليدية التي يراها عمقا للترابط الثقافي والاجتماعي وجزءا من الهوية الوطنية والتراث الثقافي التي تحمل أسرار الأجداد وتجاربهم قبل تطور الطب الكيميائي.

على السفراني، المعالج في مدينة الكسوة بريف دمشق، لفت خلال حديثه إلى أنه لا يأخذ كشفية مثلما يفعل أطباء هذا الزمن، ولكن ما يتقاضاه هو ثمن الوصفة التي يرشد بها المريض وعائلته لاستخدامها، وغالبا ما تكون من الأعشاب الطبيعية، حيث لا تكلّف وصفته أكثر من 7 آلاف ليرة سورية أي أقل من نصف دولار أميركي، وهو مبلغ زهيد في هذا الوقت بالنسبة للسوريين.

رغم عدم إلمام السفراني، بالعلوم الطبية وحتى بتأثيرات بعض الوصفات على المرضى، إلا أنه يصف دوره بـ”المخلّص”، وأن هذا العلم الذي استقاه من أجيال متعاقبة ينجد العديد من العائلات والأطفال الذين تركتهم الحكومة على قارعة الطريق بسبب رفع أسعار كشفيات الأطباء والمشافي العامة والخاصة، فضلا عن نقص الأدوية المستمر. 

لكن في عالم تغلب عليه التحديات، يجد الكثيرون أنفسهم أمام مفترق طرق حين يتعذر عليهم الوصول إلى الرعاية الصحية الحديثة. فالأسعار المرتفعة والصعوبات الاقتصادية تمنع كثيرين من الحصول على العلاجات التقليدية الحديثة. وهنا يبرز دور الأدوية التقليدية كبديل يساهم في تلطيف الآلام والأمراض الشائعة.

بسبب الفقر لا الثقة

 ازدهار سوق الأدوية التقليدية في سوريا، حيث يقصده الملايين لشراء مستحضرات طبية تساعدهم على معالجة بعض المشكلات الصحية، مثل نزلات البرد والسعال والصداع وآلام المفاصل وغيرها، ليس بسبب فعاليتها كما يصف طبيب الباطنية، وليد التوتنجي، لـ”الحل نت”.

حول سؤاله عن فعالية الأدوية التقليدية، هل هي آمنة للاستخدام، وما هي مزاياها وعيوبها مقارنة بالأدوية الحديثة، قال التوتنجي، إن الإقبال على هذا النوع من الأدوية في سوريا حاليا ليس لثقة الناس فيها، بل بسبب الفقر لدى العائلات، وتراجع خدمات الحكومة في المستشفيات العامة.

بالاستناد إلى الأدلة العلمية والشهادات الحية والمصادر الموثوقة، يؤكد طبيب الباطنية، أن الوصفات الشعبية لا تعالج المرض بل هي تخفف من أعراضه، لذلك في الطب الحديث لا يتم وصف هذه الأدوية التقليدية، وما تفرضه الأوضاع الاقتصادية في سوريا أدى للترويج لهذه الأدوية بهدف تحسين الوضع الصحي للسوريين من ذوي الدخل المعدوم.

الأدوية التقليدية المروّج لها حاليا بحسب التوتنجي، هي تلك التي تستند إلى المعرفة والخبرة والممارسات التي تم تطويرها عبر التاريخ من قبل الشعوب والثقافات المختلفة، وتُستخدم شعبيا في الوقاية من الأمراض أو علاجها أو تخفيف أعراضها. وتشمل الأدوية التقليدية استخدام الأعشاب الطبية والزيوت العطرية والمكمّلات الغذائية والتقنيات العشبية والعلاجات الطبيعية الأخرى، مثل الحجامة والكي والخزعة وغيرها.

الطب العربي يغلق الصيدليات

في 10 آب/أغسطس الجاري، استجابت الحكومة السورية لمطالب شركات تصنيع الأدوية، بعد وقف المستودعات توزيع الأدوية على الصيدليات واستمرار نقصها، ما دفع وزارة الصحة، لرفع أسعارها بنسبة 50 بالمئة بعد زيادة “البنك المركزي” سعر الدولار الرسمي، مطلع العام الجاري، من 3015 إلى 4522 ليرة سورية، وتعديل سعر دولار الحوالات المستمر ليتوازى مع سعر السوق السوداء.

مديرية الشؤون الصيدلانية في الوزارة، أصدرت قائمةً بتعديل أسعار المنتج محليا، ما أدى إلى ارتفاعات بأسعار نحو 12826 دواء، مبررة السبب بارتفاع التكاليف بعد زيادة أسعار المشتقات النفطية وزيادة سعر الصرف، وفق بيانات رسمية. لفت رئيس “المجلس العلمي للصناعات الدوائية”، نبيل القصير، أن نسبة رفع أسعار الأدوية وصلت إلى 50 بالمئة لجميع الأصناف الدوائية.

طبقا لحديث التوتنجي، فإن التحول إلى الطب البديل أجبر بعض الصيدليات على الإغلاق في بعض المناطق ولا سيما الريفية، ورغم أن وزارة الصحة لا تجيز العمل كمعالج بالطرق البديلة، إلا أن العديد من هؤلاء المعالجين يمارسون المهنة حتى داخل بيوتهم.

وفقا للمرجع الدوائي السوري، يتم تسجيل وتنظيم الأدوية التقليدية في سوريا، التي تستخدم في الطب التقليدي أو البديل أو المكمل، وتشمل الأعشاب والزيوت والمستخلصات والمكملات الغذائية وغيرها من المستحضرات التي تحتوي على مواد طبيعية أو نباتية أو حيوانية أو معدنية؛ ولكن بشروط وضوابط محددة.

لتسجيل هذه الأدوية في سوريا، يجب على المصنع أو المستورد أن يقدم طلبا إلى مديرية الشؤون الصيدلانية في وزارة الصحة، مرفقا به بعض الوثائق والمستندات، مثل شهادة تسجيل المصنع أو المستورد في وزارة الصحة، وشهادة تسجيل المستحضر في بلد المنشأ أو بلد آخر، وشهادة تحليل المستحضر من مختبر معتمد، وشهادة ممارسات التصنيع الجيدة “جي إم بي” للمصنع، فضلا عن نسخة من التركيبة الكاملة للمستحضر، وعبوة ونشرة المستحضر، وأيضا نسخة من دراسات الفعالية والسلامة للمستحضر إن وجدت.

بعد تقديم هذه الوثائق، يتم فحصها من قِبل لجنة خاصة في وزارة الصحة، تتألف من خبراء في مجالات الطب والصيدلة والكيمياء والأحياء. وهذه اللجنة تقوم بتقييم المستحضر من حيث جودته وفعاليته وسلامته، وتصدر قرارها بالموافقة أو الرفض أو طلب مزيد من المعلومات.

إذا تمت الموافقة على تسجيل المستحضر، يتم إصدار رخصة تسجيل له، تسمح بإنتاجه أو استيراده أو تسويقه في سوريا. كما من المفترض أن يتم إخضاع المستحضر للرقابة والإشراف من قِبل مديرية التجهيزات والمستلزمات الطبية، التي تقوم بأخذ عينات منه وإرسالها إلى مختبرات مركزية لإجراء التحاليل اللازمة لضمان جودته وفعاليته.

إذا تبين أن المستحضر غير مطابق للمواصفات أو يحتوي على مكونات ضارة أو محظورة، يتم سحبه من الأسواق وإتلافه، ويُتخذ الإجراء القانوني ضد المصنع أو المستورد.

إن موضوع الأدوية التقليدية في سوريا هو موضوع حيوي ومهم، فهو يعكس حالة الصحة العامة في البلاد، ويظهر مدى تأثير السياسات الاقتصادية على حقوق الإنسان، ويبرز دور الترويج والحاجة المادية، في انتشار المعالجين والمستحضرات غير العلمية بين المواطنين من ذوي الدخل المحدود أو المعدم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات