أخيرا، وبطريقة دراماتيكية كما صعد فيها إلى المشهدَين العالمي والروسي الداخلي، أُسدل الستار على قصة يفغيني بريغوجين، قائد جماعة “فاغنر” الروسية، بعد إعلان مقتله إلى جانب عدد من قيادات الصف الأول للجماعة شبه العسكرية، بتحطم طائرة خاصة بالمجموعة أمس الأربعاء، شمال العاصمة الروسية موسكو، لكن مقتله فتح الباب على العديد من الملفات المهمة، منها مستقبل روسيا الخارجي، والذي اعتمدت في السنوات الأخيرة على “فاغنر” في مدّه عالميا.

فمقتل بريغوجين زعيم “فاغنر” المصنفة عالميا كمجموعة “إجرامية”، وقائدها ديميتري أوتكين، المعروف أيضا باسم العميل “09”، والعميل “201”، لم يكن أمرا مفاجئا، بل لربما لحظة مؤجلة منذ أن قادا تمرّدا عسكريا على القيادة العسكرية الروسية والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حزيران/يونيو الماضي، ووصلا على أعتاب العاصمة موسكو في غضون ساعات، وهو ما أكدته ردة فعل الرئيس الأميركي جو بايدن، بأن الواقعة لم تفاجئ أحدا.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كان قد أكد سريعا في أعقاب التمرد الذي قاده بريغوجين الذي يُعرف سابقا “بطباخ بوتين” وهو أحد أصدقائه المقربين، بأن ردا قاسيا ينتظر من حاول دفع روسيا إلى أتون حرب أهلية، وغدر برفاق السلاح وطعنهم في الظهر، وهو ما ترجحه تقارير عدة، بأن حادث تحطم الطائرة الخاصة من طراز “إمبراير ليغاسي” قرب قرية كوجينكينو بمنطقة تفير شمال موسكو، بُعيد إقلاعها باتجاه سان بطرسبورغ، غالبا ما تكون قد أُسقطت بصاروخ.

مقتل بريغوجين ليس مفاجئا

لذا أنه منذ الانقلاب الفاشل لـ “فاغنر” على موسكو، كانت التكهنات تشير إلى أن يفغيني بريغوجين يعيش في الوقت الضائع، وأن التفكر بمصيره أنتهى فعليا، ولم يبقى سوى التفكير بكيفية سيكون رد فعل الرئيس بوتين على تلك الخطوة التي وصفها بالخيانة العظمى، رغم كل المحاولات التي أبداها بريغوجين من استعادة نفوذه من خلال العملية العسكرية في إفريقيا التي طلبها منه “الكرملين”، لكن على ما يبدو أن كل ذلك لم يشفع له أمام حدفه المؤجل، خصوصا وأن المعلومات المتواردة تشير إلى أن تحطم طائرته الخاصة جاء إثر استهدافها من قبل الدفاعات الجوية الروسية.

لكن مع تزايد التكهنات حول دور بوتين في الحادث، فإن مقتل أمير الحرب سيزيد بالتأكيد التوترات داخل القيادة الروسية، إلى جانب التساؤلات حول مستقبل روسيا الخارجي، لما تعكسه الواقعة من تداعيات وتأثيرات على التوازن الدولي، بخاصة في ظل ما يشهده العالم من متغيرات وإعادة رسمٍ للتحالفات، والذي مثلت “فاغنر” فيه رقما جدليا، بالنظر إلى أنشطتها في القارة الإفريقية وحتى بدورها في الحرب على أوكرانيا، وبما يجري في سوريا.

كذلك مع تأكيد مقتل مؤسس مجموعة “فاغنر” الحقيقي وقائدها العسكري الأساسي، الذي حملت المجموعة لقبه الحركي، ديمتري أوتكين، تطرح العديد من التساؤلات حول مرحلة ما بعد بريغوجين، سواء في ما يتعلق بالداخل الروسي أو بمصير شركته التي نشطت على مدى السنوات الثماني الماضية في كلٍّ من أوكرانيا وسوريا وعدد من الدول الإفريقية، واتُهمت مرارا بارتكاب جرائم حرب وانتهاكاتٍ لحقوق الإنسان.

حول ذلك، يقول المختص بشؤون أوروبا الشرقية ميكولا باستون، إن مقتل بريغوجين هو محاولة من الـ “كريملين” لفرض سيطرته على مجموعة “فاغنر” المتمردة، حيث أصبح قائدها شخصية مستقلة وذات نفوذ كبير، مشيرا إلى أنه خلال الشهرين الماضيين شهدنا جهود وخطوات القيادة الروسية من أجل السيطرة على “فاغنر” ودمجها في هيكل الجيش الروسي، لذا أنه بعد مقتل بريغوجين ستستمر هذه المحاولات، من خلال إقامة مجموعات مرتزقة بديلة، وتشتيت قوات “فاغنر” وتوزيع عناصرها بين وحدات روسية مسلحة مختلفة.

علاوة على ذلك، أضاف باستون في حديث لموقع “الحل نت”، إلى أن مقتل بريغوجين يمثّل عمل انتقامي من قبل الرئيس الروسي بوتين، الذي شعر بإهانة كبيرة في يوم ثورة بريغوجين ضده، لافتا إلى أن ذلك سيؤدي إلى خفض دور “فاغنر” الاستثنائي، وستصبح وحدة بين وحدات مماثلة لها، حسب تصميمات بوتين، مشيرا إلى أن أفراد “فاغنر” ما زالوا قادرين على تمرد جديد، وسنرى كيف سيتصرّفون مع الحادثة.

تصرفات سرية وتداعيات دولية

باستون، بيّن أن بوتين يفضل التصرفات السرية لأسباب مختلفة، وأن مجموعة “فاغنر” أما ستصبح ضعيفة وغير مؤثرة، أو ستحاول القيام بثورة جديدة وانقلاب، وبكلتا الحالتين سينعكس ذلك على نفوذ روسيا في إفريقيا الذي سيضعف عموما، وذلك بمقابل زيادة سيطرة بوتين على القوات الروسية العاملة هناك.

الطائرة التي كانت تقل قائد “فاغنر” يفغيني بريغوجين/ إنترنت + وكالات

من جهته، قال خبير العلاقات الدولية رائد المصري، أنه كان من المتوقع مقتل بريغوجين خصوصا بعد محاولة الانقلاب التي قام بها، والتي هددت سلطة بوتين وقبضته الحديدية على البلاد، لذلك الكل كان متوقع تصفيته وهذا ما جرى، إذ إن بصمات القيادة الروسية واضحة في مقتله خصوصا في ضوء خلافه مع وزارة الدفاع والجيش وأصحاب النفوذ في الداخل الروسي.

المصري أضاف في حديثه لموقع “الحل نت”، أنه بالنسبة لقوات “فاغنر” حتى قبل مقتل بريغوجين، كانت أمام عدة خيارات؛ منها توقيع عقود مع وزارة الدفاع الروسية والاندماج فيها وأن تأتمر بأوامرها، وهذا من المعتقد أن يتم العمل عليه، واستيعابها وبحث إمكانية تحويلها لوحدات خاصة داخل الجيش الروسي تتّبع لأوامر القيادة الروسية، مع عدم ترك ظهور أمثلة مشابهة لبريغوجين بقيادة وسيطرة مطلقة، بحيث يمكنه القيام بمبادرات شخصية.

خبير العلاقات الدولية لفت إلى أن الوضع في الداخل الروسي، يعكس مدى الثقة المتزعزعة، حيث بدأت الأسئلة تُطرح حول القيام بالاغتيالات والتصفيات وغير ذلك، مثل ما مصير هذه الحرب الدائرة، بحيث أن جميع هذه التساؤلات تُثار داخل القيادة الروسية.

الجدير بالذكر، أن جميع السيناريوهات المطروحة والتي يُتوقع أن تنعكس على مستوى النفوذ الروسي في إفريقيا، ستشكل جميعا فرصة كبيرة للدول الأوروبية لتعويض الحيّز الذي تشغله الجماعة في القارة السمراء، بخاصة فرنسا الباحثة على إعادة تعويض نفوذها العسكري في الجانب الاقتصادي بمناطق مستعمراتها التاريخية، ما يعني أن ذلك سيمثل اهتزازا لمستقبل الجماعة الروسية.

في تاريخ تدخلات “فاغنر” الخارجية

يشار إلى أنه، منذ التدخل العسكري الروسي بسوريا عام 2015 ارتبط اسم “فاغنر” بأعمال ونشاطات “قذرة” بحسب مسؤولين غربيين وتقارير محلية سورية، كون عناصر هذه المجموعة من المرتزقة انتشروا على الأرض، وكان لهم دور في حرف دفة الصراع هناك، قبل أن ينتشر اسم الجماعة في إفريقيا عام 2017، عندما وقّعت جنوب إفريقيا الوسطى اتفاقية عسكرية مع الجماعة.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع قائد “فاغنر” يفغيني بريغوجين/ (رويترز)

منذ ذلك الحين، أسس بريغوجين “إمبراطورية اقتصادية”، رسمت معالمها عقودا واتفاقيات مُنحت لشركاته في قطاع النفط، فيما تحدثت تقارير وسائل إعلام أميركية سابقا عن قروض قُدّمت باسمه للسلطة في دمشق، في محاولة من موسكو للالتفاف على العقوبات الغربية، وهو ما حصل في إفريقيا أيضا.

إذ بدأ النفوذ الروسي المتنامي في إفريقيا عندما لجأ رئيس إفريقيا الوسطى فوستان آرشانج تواديرا، في العام 2017، إلى موسكو من أجل تأمين الأسلحة والمدربين العسكريين لتعزيز جيش جمهورية إفريقيا الوسطى، وهو ما مهّد إلى نجاح مجموعة “فاغنر”، في العام 2020 في دعم بقاء تواديرا، في الحكم بعد محاولة تحالف متمرد الإطاحة بنظامه مما عزز فرصة النفوذ الروسي في إفريقيا الوسطى.

نجاح الاستراتيجية الروسية في إفريقيا الوسطى، فتح شهية موسكو على توسيع دائرة نفوذها، فتكرّرت التجربة في مالي، عقب انقلاب الكولونيل أسيمي غويتا، في 2020، من خلال دعم روسيا المجلس العسكري الحاكم في بماكو بالأسلحة، ووجود مرتزقة “فاغنر“، لتتبع ذلك بوركينا فاسو ومؤخرا النيجر.

في البداية كانت موسكو ترفض الاعتراف بوجود “فاغنر” أساسا، ثم تحولت إلى نفي علاقة الحكومة بها، قبل أن تغيّر الحرب الأوكرانية هذا الخطاب، وفيما بعد اعترف بوتين بتمويل الدولة لشبكة المرتزقة هذه، قبل أن تحاول موسكو الآن إدارة الشبكة بشكل مباشر ليفجّر ذلك صراعا بين الجماعة والجيش.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات