بعد حوالي شهر من الهزّة التي أرخت بظلالها على الساحة الدولية بسبب تمرد مجموعة “فاغنر” في روسيا، تبقى الأسئلة تتوالى والتساؤلات تتفاقم حول مصير أحد أكثر الدول تأثيرا في العالم. فبينما كان العالم يتابع بتوتر شديد تطورات “فاغنر” المصنفة منظمة إجرامية، انتشرت الأخبار العسكرية عن تغييرات دراماتيكية تعيشها الساحة الروسية الداخلية.

تزدان عناوين الصحف والمواقع الإخبارية بتقاريرٍ متناقضة، ترصد بوضوح تجاذبات الأحداث وتشوش التوجهات. من جهة، تتساءل بعضها إن كان الفشل في كبح “فاغنر” سيكون الشوط الأول نحو تحولات أكبر على الساحة الروسية. وهل انعكست هذه التغيرات على هيكل القيادة العسكرية، والتي ستكون نتيجتها تطهير جيش روسيا من جنرالاته الأكثر تأثيرا.

الأحداث الأخيرة في روسيا تبقى ذات أبعاد معقدة. حيث يتزايد الاستفهام حول ماهية هذا التمرد الذي اندلع في عروقها وأسفر عنه إجهاض “فاغنر” عن سياقها العسكري ومهامها الاستراتيجية؛ وعليه ما الآثار المتوقعة لفشل بوتين في كبح نفوذ “فاغنر” وتطوراته الأخيرة على الساحة الداخلية والدولية، وكيف يمكن تفسير استبدال مرتزقة “فاغنر” للخنادق الأوكرانية بالموارد الطبيعية في إفريقيا، وماذا يعني هذا بالنسبة للعلاقات الروسية الدولية.

اختفاء وموت بظروف غامضة

المثير للاهتمام هي التقارير العسكرية الأخيرة التي تفيد بإقدام القيادة الروسية على نعي جنرالات مرموقين من الجيش، ما يدل على تلميحات بوجود مخططات لانقلاب يخدم موقف بوتين إزاء تلك التحولات والتداعيات المحتملة، لا سيما بعد أن أصبحت إفريقيا ومواردها الطبيعية الأهداف الرئيسية لـ”فاغنر”.

في غضون ذلك، وما يلفت الأنظار أن القائد السابق للعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، الجنرال سيرجي سوروفيكين، المعروف أيضا باسم “الجنرال هرمجدون” لم يُشاهد علنا منذ تمرد مجموعة “فاغنر” في حزيران/يونيو الفائت، وتشير التقارير الأخيرة إلى وضعه تحت الإقامة الجبرية أو قيد الاعتقال.

سوروفيكين، الذي حصل على لقبه في وسائل الإعلام الروسية بسبب تكتيكاته العسكرية العدوانية في الشيشان وسوريا، شوهد آخر مرة عبر مقطع فيديو يدعو إلى إنهاء تمرد “فاغنر” بقيادة رئيس مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين، حيث أشارت التقارير التي صدرت الشهر الماضي بناء على إفادة استخباراتية أميركية إلى أن الجنرال كان على علم مسبقا بخطط بريغوجين للتقدم إلى موسكو.

بعد أيام قليلة من التمرد، نقلت النسخة الروسية من صحيفة “موسكو تايمز” عن مصادر بوزارة الدفاع الروسية قولها إن سوروفيكين قد اعتُقل لوقوفه إلى جانب بريغوجين بينما كان يخطط لتمرده، في حين لم يؤكد المسؤولون الروس اعتقال سوروفيكين، ورفضوا التعليق على مكان وجوده.

كذلك لا يُعتبر اختفاء سوروفيكين هو الخبر الأبرز، إذ إن إعلان وفاة الجنرال الروسي، الكولونيل جنرال جينادي تشيدكو، الذي حمل وسام بطل روسيا، وهذا هو أعلى لقب في البلاد، وشغل سلسلة من المناصب العسكرية العليا، يعتقد أن بوتين هو من أصدر أوامر بتصفيته. وذلك رغم قيادة تشيدكو لفترة وجيزة الغزو الروسي لأوكرانيا قبل إفساح المجال أمام سوروفيكين. 

علاوة على ذلك، أعلنت موسكو  أيضا منذ أيام موت الجنرال غينادي لوبيريف، الرئيس السابق لجهاز الأمن في القوقاز بروسيا، دون أي توضيحات حول سبب الوفاة، ما يعزز فرضية أن من كان يُصنّف أقوى الزعماء العسكريين في العالم بدأ فعليا بتطهير جيشه من الجنرالات الأكثر تأثيرا.

“الكرملين” أمام جملة مشاكل

الآثار المتوقعة لفشل بوتين في كبح نفوذ “فاغنر” وتطوراته الأخيرة على الساحة الداخلية والدولية، بحسب حديث المحلل السياسي الروسي، فاتسلاف ماتوزوف، لـ”الحل نت”، عديدة لكن أبرزها هو زيادة التوتر والاضطراب في روسيا، حيث يمكن أن يشعر الجيش والاستخبارات بالغضب والإحباط من تدخل “فاغنر” في شؤونهم وتحدي سلطتهم.

أيضا ضعف موقع بوتين كزعيم قوي داخل البلاد بعد أكثر من 20 عام من شغله لمراكز السلطة، حيث يمكن أن يظهر تمرد “فاغنر” كدليل على عدم قدرته على السيطرة على القوى المسلحة في بلاده والحفاظ على الانضباط والولاء.علاوة على ذلك، وطبقا لحديث ماتوزوف، فإن تدهور العلاقات الروسية مع دول أخرى، خاصة في أوروبا وإفريقيا، يمكن أن تثير أنشطة “فاغنر” المزعزعة للاستقرار والمخالفة للقانون الدولي ردود فعل سلبية وانتقادات حادة من الدول المعنية والمجتمع الدولي.

يمكن تفسير استبدال مرتزقة “فاغنر” للخنادق الأوكرانية بالموارد الطبيعية في إفريقيا؛ بأنها محاولة من “فاغنر” لتوسيع نطاق نفوذها وزيادة أرباحها، حيث تستغل الفراغ الأمني والسياسي في بعض الدول الإفريقية للحصول على حصص من الموارد الطبيعية مثل الذهب والألماس والنفط.

أيضا هو مؤشر على تغير استراتيجية “فاغنر” بعيدا عن القيادة الروسية في المنطقة، حيث تحاول المجموعة العسكرية الروسية تعزيز نفوذها في إفريقيا من خلال دعم بعض الحكومات والجماعات المسلحة الموالية لها، وتقديم خدمات عسكرية وأمنية مقابل امتيازات اقتصادية حتى مع عدم موافقة موسكو.

دليل على خروج “فاغنر” عن سيطرة الدولة الروسية برأي ماتوزوف، هو تصرّفها بشكل مستقل وغير مسؤول، ومخالفة توجهات روسيا السياسية والدبلوماسية في إفريقيا، مما يثير المخاطر على مصالح روسيا وسمعتها.

بوتين يعيد سياسة “التطهير الأعظم”

يمكن تفسير العثور على جنرالات الجيش الروسي موتى وفقا للخبير في الشؤون السياسية الروسية، أنها نتيجة لصراع دام بين “فاغنر” والجيش الروسي، حيث يقوم “الكرملين” بأوامر رئاسية باغتيال بعض الجنرالات الذين كانوا معارضين له أو متورطين في الهجوم على معسكراته في أوكرانيا أو داخل روسيا، أو بالتعاون مع جهات خارجية معادية لروسيا.

جزء من حملة التطهير الداخلية أمر بها بوتين وفق توقعات ماتوزوف، حيث قام بوتين بالتخلص من بعض الجنرالات الذين كانوا يشكلون تهديدا لسلطته أو يحملون معلومات حساسة عن تمرد “فاغنر” ودورهم فيه، أو بالتّستّر على فشله في التعامل مع الأزمة.

جميع الحوادث حول اعتقال أو موت الجنرالات الروس غامضة لم تُحسم بعد، حيث لا توجد أدلة قاطعة على مقتلهم ضمن المعارك الدائرة في أوكرانيا حاليا، لكن القيادة الداخلية لبوتين ودائرته الضيقة تلعب دورا في الموضوع، وهو المستفيد من هذه الحادثة.

إن تمرد مجموعة “فاغنر” بلا شك حسب وصف ماتوزوف يزعزع استقرار روسيا، حيث يفتح الباب أمام احتمال اندلاع حرب أهلية أو انقلاب عسكري ضد نظام بوتين، ويثير القلق والخوف بين المواطنين والمؤسسات من تفاقم الأزمة وانهيار الأمن والنظام.

كما أنه يُضعف مكانة روسيا لدى الشعب الذي نشأ على جملة “روسيا قوة عظمى”، حيث يظهر تمرد “فاغنر” كفشل لبوتين في إدارة شؤون بلاده وحفظ سيادتها وكرامتها، ويفقد روسيا ثقة حلفائها وشركائها، ويجعلها عرضة للضغط والعقاب من قبل خصومها.

فضلا عن ذلك فإنه يغيّر مسار السياسة الداخلية والخارجية لروسيا، حيث قد يضطر بوتين إلى اتخاذ إجراءات صارمة لإحباط أي تمرد محتمل لـ “فاغنر” أو قيادات أخرى داخل الجيش الروسي وإظهار قدرته على التصدي لأي تحدي، أو إلى التفاوض مع “فاغنر” وإبرام صفقات معها لإنهاء الصراع، أو إلى التخلي عن “فاغنر” والبحث عن بديل عنها لتحقيق أهداف روسيا في المنطقة.

بشكل عام، يمكن القول أن تمرد مجموعة “فاغنر” وتصاعد الأحداث المتعلقة بها يشيران إلى وجود توترات وصراعات داخلية في روسيا، وإلى انخفاض مستوى الثقة والولاء بين بوتين وبعض القوى العسكرية والأمنية في بلاده. كما يمكن أن يعكس ضعف قدرة بوتين على التحكم في السياسة الخارجية لروسيا، وإلى تعرّضه لانتقادات وضغوط من قبل المجتمع المحلي قبل الدولي.

إن ما يجري في روسيا ليس مجرد سلسلة من الأحداث؛ بل هي دلائل على تحولات كبيرة في السياسة والجيش والنفوذ، والتي قد تنعكس بدورها على الأمن الدولي والتوازنات الإقليمية. وعمق التغييرات التي تشهدها روسيا والعواقب التي يمكن أن تترتب على تلك التحولات ستظهر في المستوى القريب خصوصا مع توالي إعلان اختفاء أو موت أبرز الجنرالات الذين اعتمد عليهم بوتين في حروبه الأخيرة سواء في سوريا أو ليبيا أو أوكرانيا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات