في تطور لافت فيما يخص مسار “التطبيع” بين أنقرة ودمشق، طرحت طهران عبر وزير خارجيتها خطةً تفضي لإخراج القوات التركية من الأراضي السورية، في مقابل حماية الحكومة السورية لأمن الحدود مع تركيا، وبالتالي تحقيق شروط إعادة العلاقات بين تركيا وسوريا، حيث قال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، إن دمشق أكدت لطهران أنها تتمتع بالجاهزية الكاملة للحفاظ على أمن الحدود مع تركيا من داخل أراضيها. وفي مقابلة مع صحيفة “الوفاق” الإيرانية، أضاف عبد اللهيان، أن بلاده قدمت اقتراحا خلال اجتماعات مشتركة بأن تتعهد أنقرة بإخراج قواتها من سوريا مقابل تعهّد دمشق بمنع أي تعرض للأراضي التركية.

هذه الخطة الإيرانية لا شك أنها تحمل في طياتها خبايا ودلالات عدة، يفسرها بعض المحللين على أنها تعني أن إيران تسعى إلى تقليص أو إنهاء الوجود التركي في سوريا والتمدد على الأراضي السورية من خلال قوات الحكومة السورية في المقابل.

لذلك فإن خطة طهران ستصطدم بلا شك بعدد من العقبات والصعوبات، أولها من الجانب التركي والثانية من الجانب الروسي الذي لا يريد أي تمدد إيراني جديد في سوريا، بل على العكس من ذلك تريد إضعاف وجوده والضربات الإسرائيلية المستمرة حتى الآن على النقاط الإيرانية وميليشياتها، وعدم وجود أي اعتراض روسي حتى الآن والتزامها بالاتفاق المشترك مع إسرائيل لتنسيق العمليات الجوية فوق الأجواء السورية يعزز من هذه الفرضية.

من هنا تطرح عدة تساؤلات حول معاني وأهداف خطة إيران لإخراج القوات التركية من سوريا مقابل تعهّد دمشق بمنع أي هجوم على الأراضي التركية وتأمين الحدود من الإرهابيين كما يدّعي الأخير، فضلا عن المواقف الروسية والتركية المتوقعة من هذه الخطة، وما إذا كانت هذه الأطراف الأربعة قد توصّلت في وقتٍ لاحق إلى اتفاق يؤدي إلى إعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق، وشكل هذا الاتفاق في حال عقده.

سوريا ورغبة إيران بالتمدد فيها

وزير الخارجية الإيراني أشار في مقابلته الصحفية إلى أن الاقتراح المقدّم لسوريا وتركيا يتضمن أن تكون روسيا وإيران ضامنين للاتفاق، وأن تضع دمشق قواتها على الحدود مع تركيا، مضيفا “اقترحنا أن تلتزم تركيا أولا بسحب قواتها من الأراضي السورية، وثانيا أن تلتزم دمشق بوضع قواته على الحدود حتى لا تتعرض الأراضي التركية للتهديد”.

خطة إيرانية لإخراج القوات التركية من سوريا- “إنترنت”

ثمّة جمود في مسار “تطبيع” العلاقات بين أنقرة ودمشق منذ أشهر رغم حديث عن وساطة روسية وتفاؤل سابق بعقد لقاء بين الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان والسوري بشار الأسد.

الجانب التركي يُرجع سبب عدم التقدم في التقارب بين البلدين إلى غياب موقف إيجابي من الجانب السوري، وكذلك تمسّك أنقرة بشروطها المتمثلة في أمنها القومي على الحدود، بينما حكومة دمشق ترفض هذا التقارب دون تحقيق شرطها الحتمي، وهو انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية.

في هذا الصدد يقول الباحث السوري والمتخصص في الشأن الإيراني مصطفى النعيمي، إن ما تفعله طهران اليوم من فتح مسارات جانبية ثنائية لن يجد صدىً إقليميا كان أو دوليا، حيث تسعى طهران إلى توسيع مناطق النفوذ التي تسيطر عليها الحكومة السورية التي تعتبرها مناطق نفوذها بشكل أو بآخر، نظرا لأن دمشق لم تعد تمتلك أدنى درجات مقومات الدولة.

بالتالي يرى الباحث في الشأن السوري في حديثه لموقع “الحل نت”، أن التحرك الإيراني يأتي ردا على ما يتمّ تداوله من تحركات أميركية بشأن قطع الطريق الدولي الرابط بين بغداد وتحديدا في المرحلة الأولى التي سيتم السيطرة على معبر “البوكمال – القائم” الحدودي ومن ثم ستتجه عمليات التحالف الدولي تجاه السيطرة على ضفة الفرات التي تسيطر عليها الميليشيات الإيرانية والفصائل الموالية بما فيها قوات الجيش السوري، وفق ما يتم توارده.

لكن فتح هذا المسار من المباحثات أمرٌ غير ممكن بالنسبة للجانب التركي، على اعتبار أن الادعاءات والرؤية التركية ترتكز على أن تواجد قواتها يأتي في سياق التهديدات المنبثقة مما تصنّفه أنقرة بتنظيمات إرهابية على حدودها مع سوريا، إضافة إلى حسابات أخرى، وبالتالي لا يتوقع الباحث السوري أن يتغير الموقف التركي في هذه المرحلة، رغم وجود رسائل مطمئنة من الجانبين الإيراني والسوري.

قبل نحو أكثر من شهر كانت الاستعدادات للقاء المرتقب بين الرئيسين شبه مكتملة، لكن فجأة تغير كل شيء، وعاد الأسد إلى التمسك بمطالبه رغم حاجته الماسة لهذا التقارب.

في المقابل، تخشى تركيا و”الاتحاد الأوروبي”، موجات جديدة من الهجرة نحوهما في حال تم ترحيل اللاجئين السوري قسرا ودون شروط حقيقية وآمنة تؤمن عودتهم إلى سوريا. ولذلك فإن القضية معقدة بين المسارات السياسية والإنسانية والدولية. وحتى الآن لم يتم التوصل إلى خطوط أولية للتوصل إلى حلّ سياسي شامل في سوريا، وبالتالي فإن وجهة النظر الإيرانية غير ممكنة التحقيق، على حدّ تعبير الباحث السوري.

من جانب آخر، قال وزير الخارجية الإيراني إن هناك تقارير إعلامية تحدثت عن أن أميركا تقوم بتصعيد عسكري بهدف إغلاق حدود البوكمال بين سوريا والعراق، مضيفا “لكن تحقيقاتنا تبيّن أنه لا توجد أي تحركات على الأرض”. لكنه أضاف أن الولايات المتحدة “لديها النّية في ذلك.. وسيُقدمون عليها إذا سنحت لهم الفرصة”، مشيرا إلى أن سوريا والعراق “لن يسمحا لأي طرف بأن يقوم بذلك”، وفق تعبيره.

موقف دمشق

قبل نحو أكثر من شهر كانت الاستعدادات للقاء المرتقب بين الرئيسين شبه مكتملة، لكن فجأة تغير كل شيء، وعاد الأسد إلى التمسك بمطالبه رغم حاجته الماسة لهذا التقارب، خاصة حين قال الأسد في مقابلة تلفزيونية أخيرة حول اللقاء مع أردوغان وطلب تركيا بعدم وضع شروط مسبقة للقاء، “كلمة من دون شروط مسبقة للقاء يعني من دون جدول أعمال، من دون جدول أعمال يعني من دون تحضير، من دون تحضير يعني من دون نتائج، فلماذا نلتقي أنا وأردوغان، لكي نشرب المرطبات مثلا. نحن نريد أن نصل لهدف واضح”.

ردا على الأسد، واشتراطه بانسحاب القوات التركية قبل الحديث عن أي خطوات لـ”تطبيع” العلاقات بين أنقرة ودمشق، أعلنت تركيا أن انسحاب قواتها هو خط أحمر في ظل الوضع الراهن، مؤكدة أن الجيش السوري لا يملك القدرة حاليا على تأمين الحدود.

لقاء سابق ما بين الأسد وأرودغان- “رويترز”

وزير الدفاع التركي يشار غولار، عبّر عن اعتقاده بأن الأسد سيتصرف بعقلانية، قائلا إن صياغة دستور جديد لسوريا واعتماده، يعدان أهم مرحلة لإحلال السلام هناك، وأن الجيش التركي لن يغادر سوريا دون ضمان أمن حدوده وشعبه، و”أعتقد أن الرئيس السوري سيتصرّف بعقلانية أكثر في هذا الموضوع”.

حتى الآن لم يصدر أي تعليق رسمي في أنقرة على تصريحات الوزير الإيراني، وكذلك لم يصدر من دمشق أي تعليق رسمي على المقترح الإيراني، حيث يأتي بعد نحو أسبوعين من تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بأن موسكو قدّمت اقتراحا مماثلا لدمشق وأنقرة لعقد اتفاق يقضي بـ”شرعنة” بقاء القوات التركية على الأراضي السورية. وقال لافروف في اجتماع مع طلاب وأعضاء هيئة التدريس في “معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية”، مطلع الشهر الحالي، إن موسكو عرضت على دمشق وأنقرة العودة إلى اتفاق يسمح للقوات التركية بمحاربة “الإرهابيين على الأراضي السورية” ولكن بالاتفاق مع دمشق، استنادا إلى مرجعية اتفاق أضنة 1998.

في إطار المواقف المنتظرة من الجانبين التركي والروسي، يرى الباحث السياسي أن الجانبين غير معنيين بالرؤية الإيرانية ولن يقدّما لها الدعم، على اعتبار أن التمثيل العسكري الإيراني في سوريا لا يزال ضمن نطاق الرؤية الإيرانية، المتمثلة بالميليشيات وليس بقوى منظمة، واستخدام واستثمار جهود إيران يأتي في سياق فهمهم العميق لطبيعة مشروعها داخل سوريا وما شكلته من مخاطر ديموغرافية من خلال عمليات النزوح والتهجير التي قادتها على مدى 13 عاما من عمر الأزمة السورية.

رغم أن من أهم مخرجات عودة دمشق إلى “جامعة الدول العربية” ومسار عمّان المتمثل في مبادرة “خطوة مقابل خطوة” لم تلتزم به دمشق بخصوص تموضع الميليشيات الموالية لإيران ولم تقم بأي خطوات عملية من شأنها إنهاء التمثيل الميليشياوي في سوريا، ولذلك يرى الباحث في الشأن الإيراني بأن تركيا تدرك تماما تداعيات سيطرة دمشق على منطقة “خفض التصعيد” الأخيرة في المنطقة الشمالية ومناطق العمليات التركية الأربعة، “درع الفرات – نبع السلام – غصن الزيتون – درع الربيع”.

اعتراضات روسيا

في المقابل، تسعى موسكو، منذ كانون الأول/ديسمبر 2022، إلى إعادة “تطبيع” العلاقات بين دمشق وأنقرة، وتحقيق لقاء بين الرئيسين السوري والتركي، من خلال سلسلة اجتماعات بدأت بلقاءات أجهزة الاستخبارات والدفاع. ثم اجتمع نواب وزراء الخارجية أولا، تلاها اجتماع لوزراء الخارجية في 10 أيار/مايو الماضي، “وزراء خارجية تركيا وسوريا وإيران وروسيا”، إلا أن المفاوضات توقفت عند نقطة إعداد خطة عمل لتضارب الأولويات بين دمشق وأنقرة بخصوص انسحاب القوات التركية من سوريا، وفق العديد من التقارير الصحفية.

بحسب تصريحات المسؤولين الروس، فإن الاتصالات لا تزال مستمرة للتوصل إلى اتفاق على خطة عمل مقبولة من الطرفين. وقال المبعوث الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، إن الأطراف التي شاركت باجتماع “أستانا” في الماضي، ناقشت مسودة خطة عمل لا تزال تتطلب المزيد من إضفاء الشرعية.

بالعودة للباحث في الشأن الإيراني، فإن موسكو وطهران من أهم الدول التي ساهمت في إطالة عمر الحكومة السورية، خاصة من خلال الدعم السياسي والعسكري الذي قدمته لها على مدى 13 عاما تقريبا، لذا حتمية ووقوفهم إلى جانب دمشق يرتكز على تحقيق مصالحهم.

لكن المصالح الروسية ربما تقتصر على النفوذ والاقتصاد بينما المشروع الإيراني يعتمد على التغيير المذهبي كأساس لبناء مشروعها في سوريا، وبالتالي في حال تبلور الحل السياسي سيكون أصعب المشاريع في التعامل معها دوليا، هو المشروع الإيراني وما مثله من تداعيات تغلغلها وبناء المستوطنات في جنوب العاصمة السورية دمشق وريفها، وتحديدا في محيط المقامات وأضرحة من يعتقدون بأنهم أتوا لحمايتها، في حين كانت تلك الشعارات بوابة للوصول إلى الهيمنة شبه الكاملة على حكومة دمشق القائمة، بدلالة أن إيران باتت من تتحدث باسمها في المحافل الدولية سواء كان من خلف الستار أو من خلال المشاركة المباشرة في فتح مسارات مع الدول المعنية بالملف السوري، وبالتالي يرى الباحث السياسي بأن المسار الإيراني الروسي للضغط على أنقرة لن ينجح بـ”التطبيع” مع دمشق، نظرا للتداعيات المحتملة ما بعد تلك التفاهمات التي لن تساهم سوى في زيادة الخراب والتدهور للسوريين، فضلا عن موجات كبيرة من اللجوء السوري تجاه تركيا ودول “الاتحاد الأوروبي”.

اجتماعي رباعي ما بين روسيا وسوريا وتركيا وإيران- “إنترنت”

تلعب روسيا، حليفة البلدين، دور الوسيط الفعّال من أجل تقريب وجهات النظر بين أنقرة ودمشق، وهي اليوم تقف في الوسط بينهما. فهي من ناحية تريد إضعاف الوجود التركي، ومن ناحية أخرى، لا ترغب أن يكون ذلك على حساب توسع إيران بالأراضي السورية، وبالتالي رفض المقترح الإيراني من الجانب الروسي سيكون أمرا واردا، وإن كان بشكل غير مباشر، ومن ثم سيقوم بدفع مقترحه للطرفين، بغية الانفراد بالقرار السوري واستخدامه كورقة ضغط في المسارات الدولية، ولذلك تعتبر موسكو مسألة “التطبيع” بين أنقرة ودمشق مكسب استراتيجي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة