تعتمد معادلة القوة السياسية في نهجها على مدّ نفوذها على المدى الإقليمي والدولي، لأنه لا يمكن لأي سياسة السيطرة الإقليمية دون غطاء من سياسة دولية تعمل على حمايتها وتكون حليفا استراتيجيا وتحقّق نوعاً من التوازن القوي.

تمثّل إيران في سياستها هذا النهج وتلك الاستراتيجية، بواسطة السيطرة الإقليمية المتحقّقة من خلال انتشار مليشياتها في كلّ من سوريا والعراق واليمن وإنتاج العديد من المشكلات الداخلية والتي تعتمد على الخطاب الطائفي، وتتخذ من هذه القوة الشيطانية مرتكزاً رئيسياً في تعامل مع الدول الجوار العربي، والاعتماد المباشر على هذه المليشيات “كورقة مساومة” في فضّ نزاعها وتحقيق تمدّدها العسكري والاستراتيجي. 

فإذا كانت إيران حققت الجزء الأول من معادلة القوة السياسية فلن يكون له قيمة دون الجزء الثاني من المعادلة هو الغطاء الدولي. وهو تماماً ما تسعى إليه إيران منذ زمنٍ بعيد ويتمثّل هذا السعي في العلاقات الإيرانية الروسية؛ فسياسة النظام الإيراني هي اللعب على كل الحِبال حتى تتحقق لها ما يتفق و طموحها الدموي ويخدم سياستها الاستبدادية.

أروقة مغلقة لصالح إيران

لقد عملت إيران على التقارب أكثر من الدّب الروسي خاصة مع بداية حرب روسيا على أوكرانيا، ففي الوقت الذي يرفض العالم الغربي ما تقوم به روسيا، نجد أن إيران حوّلت المشهد لمصالحها من تقديم الدعم العسكري لروسيا في تلك الحرب؛ ولهذا حثّت أوكرانيا طهران على التوقف عن تزويد روسيا بطائرات بدون طيار فتاكة، والتي تقول كييف إنها لعبت دوراً رئيسياً في هجمات موسكو على المدن والبنية التحتية الأوكرانية.

طائرة عسكرية بدون طيار إيرانية في المعرض العسكري الدولي الروسي معرض الجيش 2022 في حديقة باتريوت في كوبينكا، موسكو، روسيا. (الصورة لصحيفة واشنطن بوست)

وبطبيعة الحال نفت إيران في البداية تزويد روسيا بطائرات “شاهد” الانتحارية، لكنها قالت لاحقاً إنها قدمت عدداً صغيراً قبل أن تشنّ موسكو الحرب.

ففي الأسبوع الماضي، صرّح المتحدث باسم “البيت الأبيض”، جون كيربي، وأعلن عن مخاوفه من التعاون العسكري بين إيران وروسيا، حيث زوّدت إيران روسيا بطائرات مسيّرة وقنابل تُلقى من الجو وذخيرة مدفعية استخدمتها روسيا لمهاجمة أوكرانيا، وربما تستعد طهران لاتخاذ خطوة أخرى في دعمها لموسكو. 

ليس ذلك فحسب، بل أضاف كيربي، أن الإدارة الأميركية تشعر بالقلق من أن تكون إيران تدرس الآن تزويد روسيا بصواريخ باليستية لاستخدامها في أوكرانيا، ولأن الديناميكا السياسية قائمة على مبدأ التفاعل بين الأطراف فقد تستعد مجموعة “فاغنر” العسكرية الروسية الخاصة بتوجيه من موسكو لتقديم قدرات في الدفاع الجوي إما لـ”حزب الله” اللبناني أو لإيران. 

وما يعزز هذه الفرضية، هو عرض موسكو على طهران “تعاونا دفاعيا غير مسبوق” يشمل صواريخ وإلكترونيات وقدرات دفاع جوي. 

إن سياسة النظام الإيراني النفعية تدرك تماماً مدى خطورة التعاون الإيراني الروسي، لأنها تريد من خلاله إرسال رسالة إلى الاتحاد الأوروبي والعالم الغربي عن طريق تقويض مؤسساته الحاكمة للنظام العالمي، ومن ناحية أخرى تعمل على زعزعة استقرار الشرق الأوسط الذي يقف حجر عثرة أمام طموحاته في النفوذ غير المحدود. ولكن فهل يتحول الدّب الروسي إلى دمية بـ يد إيران تحقّق من خلاله مكاسبها البعيدة؟ من هنا سننطلق لتفكيك كيف أصبحت إيران قوة تستلهم من الشيطان أفكارها.

حرب الكل ضد الكل

يقول الفيلسوف السياسي، توماس هوبز، في منتصف القرن السابع عشر في كتابه “اللفياثان” والذي يعني بالعربية “التنين” متحدثاً عن الحالة الطبيعية الأولية لدى البشر فيقول: إنها “حرب الكل ضد الكل”، وهو ما تمارسه إيران بشكل معاصراً يتناسب مع مفاهيم القوة المعاصرة والحرب الاستراتيجية غير المعلنة. 

مليشيات الدم والنار كيف أصبحت إيران القوة الشيطانية في الشرق الأوسط؟ (1)
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (وسط)، والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي (يمين) والرئيس الروسي فلاديمير بوتين (يسار) (تصوير مصطفى كاماتشي/ غيتي)

فإيران التي تقود ما تسميه “محور المقاومة” في المنطقة العربية لأجل تأمين حدودها، تعمل في الوقت ذاته على تحطيم أي قوة من أجل أن تظل هي القوة الوحيدة في المنطقة ولكنها قوة تخريبية. 

أي اتفاق أو تحالف تقوم به أو تسعى إليه هو يصبّ أولاً وقبل أي شيء في مصالحها وفي دعم رؤيتها السياسية. 

فقد كانت إيران وروسيا متنافستين منذ ما يقرب من قرنين من الزمان، وكان المرشد الأعلى الإيراني السابق، روح الله الخميني، يكره “الاتحاد السوفييتي” بقدر كرهه للولايات المتحدة، إذ كان يحتقر الشيوعية الملحدة ويرى في “الاتحاد السوفييتي” قوة عدوانية تسعى إلى تقويض نظام الثورة الحاكمة في إيران. 

ولكن اليوم، تحتاج الجمهورية الإسلامية إلى قوة عظمى داعمة حتى تستطيع تحقيق حلمها في الهيمنة الدولية. ومن وجهة نظر إيرانية فإن روسيا تناسب احتياجاتها. وحتى لو كانت الأسلحة الروسية ناقصة مقارنة بنظيرتها الغربية، فإن موسكو تستطيع توفير مجموعة كاملة من الأسلحة التي تحتاجها إيران بشدة. 

هذا بالإضافة إلى شيء آخر مهم لا تغفل عنه إيران في تحالفها، هو وجود صديق في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يمنح إيران النفوذ الدبلوماسي، فضلاً عن رفضهما المتبادل للديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن افتتان إيران بروسيا يصبح أكثر قابلية للفهم.

روسيا ترقص على أنغام إيران

إن التحالف بين موسكو وطهران له العديد من المواضع التي تعمل إيران على الضغط من خلالها حتى يتسنّى لها الحصول على ما تريد:

أولاً: روسيا هي حليف دولي قوي وخاص في تلك الفترة التي يعمل الغرب وبالتحديد أميركا على استبعاد روسيا وعزلها، فاستغلت إيران تلك الأوضاع الدولية وقدمت نفسها بوصفها الصديق والحليف الذي له نفس الأهداف قائمة على التخلص من أميركا وأصدقائها هو نفس هدف روسيا. 

متظاهر يحمل لافتة عليها صورة المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مظاهرة دعماً للجالية الإيرانية في مظاهرة “المرأة والحياة والحرية” ضد الإيرانيين النظام في 8 يناير 2023 في روما، إيطاليا. (تصوير ستيفانو مونتيسي/كوربيس)

ثانياً: روسيا لديها قلق كبير إزاء الأصول الإسلامية السّنية المنتشر في آسيا الوسطى بعد سقوط “الاتحاد السوفيتي”، هو أيضاً ما تحاول إيران استغلاله بحجة أن لها نفس المخاوف والقلق من هذه الجماعات، بل أنها وبلا شك تحاول إقناع روسيا أن المليشيات الإيرانية لأجل التخلص من هذه الأصول السّنية. 

ثالثاً: إيران تسعى للوصول إلى أهدافها بأي ثمن كان، فهي لا تضع في اعتبارها الأرواح البشرية التي تُزهق كل يوم كنتيجة للصراعات الطائفية، بل إنها تحاول أن توهم روسيا أن لديها قلق إزاء الصراعات الأيديولوجية في الشرق الأوسط فهم يتقاسمون ذات المخاوف التي هي في الأصل من فعل إيران ومليشياتها. 

كما أن هناك الحليف المشترك هو الرئيس السوري، بشار الأسد، الذي تعمل إيران على المحافظة عليه كورقة ضغط لتوسع دائرة الصراعات في المنطقة. فقد دخلت روسيا إلى سوريا عام 2015 لإنقاذ حكومة دمشق المتعثرة بناءً على طلبٍ من إيران. فهذه المصالح المشتركة تكفي وبشكل كبير لتسعى إيران إلى التحالف وبقوة مع روسيا.

إيران واللعب على الحبال

تعي إيران أن دخولها مع أميركا في حرب مباشرة يعني الانتحار لها على كل المستويات، ولهذا تغازل إيران موسكو العدو المثالي لواشنطن وليس لديها مشكلة في تقديم الدعم العسكري لها على أن تكون حليف لها ومصدر من مصادر قوتها ومنطقة جديدة تمدّ لها إيران نفوذها. 

اجتماع وزراء خارجية إيران وروسيا وأذربيجان وأرمينيا وتركيا لمناقشة قضايا منطقة جنوب القوقاز في طهران في 23 أكتوبر 2023. (تصوير أتا كيناري / وكالة الصحافة الفرنسية)

فقد فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها عقوبات واسعة النطاق وشاملة على روسيا وقدمت أسلحة بمليارات الدولارات إلى أوكرانيا. ولن يقوم “الناتو” بتقليص أي من ذلك مقابل أي شيء قد تفعله روسيا مع إيران. 

كما أن الغرب ليس مستعداً لمكافأة بوتين بأي شكل من الأشكال على تقليص علاقاته مع طهران. لذا، عندما يتعلق الأمر بإيران، فإن روسيا لديها الكثير لتكسبه والقليل لتخسره. وهذا ما تفهمه إيران جيداً وتعمل على تقوية موقفها تجاه روسيا وسياستها. 

إن ما تفعله إيران في الشرق الأوسط وخاصةً على مدى السنوات الثلاث أو الأربع الماضية، بما فيها حرب غزة الأخيرة يدفع النظام الإيراني دفعاً للبحث عن شريك دولي يتفق مع برنامجه التخريبي وخططه السياسية. 

لقد أصبحت إيران أكثر عدوانية وجرأة من أي وقت مضى لأن الولايات المتحدة انسحبت تدريجياً من المنطقة في ظل إدارتي أوباما وترامب، ولهذا طهران تشعر بثقة أكبر في أن روسيا ستدعمها دبلوماسياً، وفي بعض النواحي، عسكرياً كما فعلت في سوريا. حيث كان دافع روسيا جزئياً هو زيادة نفوذها الإقليمي ومواجهة الولايات المتحدة، وكلاهما سيكون صحيحاً في مساعدة إيران. 

علاوة على ذلك، استخدمت روسيا عمليات النشر المحدودة لقواتها المسلحة وكذلك الشركات العسكرية الخاصة مثل مجموعة “فاغنر” لتصبح لاعباً في الصراعات الإقليمية، بتكلفة قليلة نسبياً. فيمكن لإيران الاستفادة من النفوذ الروسي الأكبر حتى عندما لم يكن المقصود منه في الأصل مساعدة طهران. 

الخطط الشيطانية

لا تتوانى إيران عن فعل أي شيء مدام يؤدي إلى تحقيق مصالحها، بداية من خلق ودعم المليشيات الشيطانية في كل الدول العربية المحيطة بها حتى تأمن حدودها وصولا حتى إلى حدّ التآمر على دول الجوار من أجل أطماعها في سيادة وهمية. 

القوات الإيرانية والصينية والروسية البحرية، تبدأ مناورة عسكرية مشتركة لمدة 5 أيام في المحيط الهندي في 15 مارس 2023 – غيتي

فإيران ليست مهمة لديها الوسيلة بقدر ما هو مهم النتيجة أو الغاية الدنيئة التي تصبو إليها وتسخر لها سياستها. فبالرغم من أن أميركا هي العدو المشترك لكل من إيران ورسيا، إلا أن هناك شيء آخر في الخفاء هو المملكة العربية السعودية. 

فإذا كنا في الفترة الأخيرة نشاهد تقارب سعودي إيراني وهذا يرجع إلى مقتضيات المرحلة التي تمرّ بها منطقة الشرق الأوسط من مشكلات داخلية. 

فلطالما كانت العلاقات السعودية الإيرانية متوترة بسبب الاختلافات العقائدية من ناحية، ومن ناحية أخرى بسبب محاولة كل طرف من الطرفين السيطرة على زعامة المنطقة العربية، هذا بالإضافة إلى القرب الأميركي السعودي الذي بلا شك لا ترضى عنه إيران، فمن طبيعي أن تسعى طهران جاهدة للبحث عن حليف يرمز للقوة ويتفق معها في الأهداف ويزيدها قوة على قوتها، وحبذا لو كان هذا الحليف الجديد يعاني من ضربة موجعة من المملكة السعودية هو ما يتوافر لدى روسيا. 

بوتين لم ينسَ ما فعله ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في 2020 من ارتفاع سعر النفط اضطرت روسيا إلى الانصياع للخط السعودي في “أوبك بلس”. ويشير كل هذا الركود إلى أن اعتماد روسيا على إيران من المرجح أن يتعمق أكثر من أن يتراجع. 

ومن جانبها، لا تبدو إيران قريبة من التوصل إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي، ولم تُظهِر أي ميل للنظر إلى الغرب باعتباره أي شيء سوى عدو.

الترسانة النووية هي الهدف الأسمى

إن النتيجة الأكثر خطورة من هذا التحالف ستكون إذا تجاهلت روسيا أو حتى حرضت على البرنامج النووي الإيراني – وخاصة جهود إيران لبناء سلاح نووي بنفسها، والتي تخلفت كثيراً عن جهود التخصيب، وأيضاً محاولات نقل الأسلحة إلى إيران، والتهديدات بالتصعيد العسكري في سوريا. 

مليشيات الدم والنار كيف أصبحت إيران القوة الشيطانية في الشرق الأوسط؟ (8)
أشخاص يتظاهرون خارج السفارة الإيرانية في أوكرانيا في 17 أكتوبر 2022 في كييف، بعد أن تعرضت المدينة لأسراب من الطائرات الانتحارية بدون طيار التي باعتها إيران لروسيا، مما أسفر عن مقتل ثلاثة على الأقل. (تصوير سيرجي تشوزافكوف / وكالة الصحافة الفرنسية)

فمن المؤكد أنه يتعين على الولايات المتحدة أن تفترض أنه سيكون من الصعب جداً الحصول على قرار آخر من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لمعاقبة برنامج إيران النووي. 

وحتى لو لم تؤدي العلاقة بين إيران وروسيا إلى تلك النهاية المرعبة، فإن الولايات المتحدة بحاجة إلى أن تتوقع أن تستمر القوات الروسية في العمل بشكل وثيق مع القوات الإيرانية في سوريا وربما في أماكن أخرى في المنطقة. 

من المرجح أن تتحسن ترسانة إيران الخاصة، وكذلك قدرتها على استخدام تلك الأسلحة، ومن المرجح أن تدعم روسيا إيران ضد أي محاولات تقودها الولايات المتحدة لعزل النظام الديني.

وبشكل عام، فإن إيران التي ستظهر في السنوات المقبلة ستكون أكثر قدرة ومحصّنة كلاعب إقليمي – لاعب من المرجح أكثر من أي وقت مضى. الذي يشجع وكلائه وحلفائه على الانخراط في مناورات محفوفة بالمخاطر مثل هجوم “حماس” على إسرائيل وربما الانخراط في تحركات خطيرة بنفس القدر من تلقاء نفسها.

حلم تعدد الأقطاب

أن سياسة روسيا الحالية تعتمد كما تم الترويج لها على مبدأ “عالم متعدد الأقطاب”، هي هنا تطرح هذه السياسة كبديل للسياسة الغربية ذات القطب الواحد في صنع القرار العالمي. 

هذا وجد استجابة سريعة من إيران التي تطمح في أن تكون جزء من المفهوم الجديد في السياسة العالمية، وخاصة أنها ذات تاريخ طويل من العداء مع الغرب. 

ولذلك تعمل إيران على استغلال هذه السياسة التي تسمح لها بوجود والتمدد أكثر من ذي قبل، وعلى الصعيد الآخر يمثل التحالف الإيراني الروسي موضع خطر لدول العربية، لأن إيران ستعمل على استعراض قوّتها حتى على مستوى التحالفات الدولية، وربما يصل بها الأمر لتحريك ميليشياتها لضرب دول المنطقة كما تفعل الآن مع قواعد “التحالف الدولي” في سوريا والعراق، وقرصنة “الحوثي” للسفن الدولية في الجنوب، و”حزب الله” في لبنان.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة