أطاحت عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها حركة “حماس” بأكاذيب إيران، وكشف المراقبون أسراراً وفضائح لتفاهمات وتنازلات وتعهدات لنظام الملالي في عدم التدخّل بالحرب الدائرة في قطاع غزة وضبط جبهات الأذرع العسكرية، مقابل حصوله على مكاسب منوّعة بعضها مادي (مالي) وبعضها الآخر يتعلق بالصواريخ محظّرة، وغيرها من التجارة المربحة التي لطالما احترفها هذا النظام على حساب قضايا المنطقة.

كيف سقطت ورقة التوت عن إيران بعد “طوفان الأقصى”؟ جواب هذا السؤال يتكشف من خلال متابعة سردية مخطط 7 تشرين الأول/أكتوبر الفائت، والذي كان مدروساً، وبخلاف ادعاءات المرشد الإيراني علي خامنئي، بأن إيران لم تكن على علم بعملية “طوفان الأقصى”. 

بل كان أركان نظامها يعلمون بكل شيء، ويعزز هذه الحقيقة تصريحات ومواقف مسؤولي حركة “حماس” بعد العملية عندما شعروا أنهم تُركوا وحدهم، وما كشفه أحد مسؤولي “حماس” لمقربين منه يطرح علامات استفهام عديدة حول إيران وأذرعها العسكرية، كاشفاً أن المخطط الذي نُفّذ صباح ذلك اليوم في غلاف غزة كان مدروساً مع قوى “الممانعة والمقاومة”. 

ليس ذلك فحسب، بل كان مقرّراً له أن يؤدي إلى الإطباق على إسرائيل من الشمال عبر دخول “حزب الله” من جنوب لبنان إلى الجليل ودخول الميليشيات الإيرانية في سوريا إلى الجولان ومنه إلى تخوم إسرائيل الشمالية الشرقية، فيما “حماس” و”الجهاد الإسلامي” يتولّيان المواجهة المباشرة ضد الجيش الإسرائيلي لفتح ممر يربط قطاع غزة بالضفة فيتكرّس بذلك رسم معالم دولة فلسطينية بقوة النار والسلاح.

إيران خانت؟!

لم يكتفِ مسؤول “حماس” بالمعلومات التي سُردت سابقا، بل أبدى أسفه لفشل هذه الخطة بسبب خذلان حلفاء “حماس والجهاد” من قِبل محور “المقاومة والممانعة” في الانخراط الكامل والحقيقي في المعركة، ما أدى إلى فشل الهجوم – الحمساوي الجهادي – وتراجعهما إلى داخل غزة. 

منذ طوفان الأقصى حتى اليوم حماس تكشف فضائح إيران وأسرار تفاهماتها؟ (3)
الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي يتحدث خلال تجمع حاشد خارج السفارة الأميركية السابقة في العاصمة طهران، بمناسبة الذكرى 43 لبدء أزمة الرهائن في إيران. (تصوير أتا كيناري / وكالة الصحافة الفرنسية)

وهناك تحوّل خطة ما كان يُفترض أنها هجومية وتحريرية إلى خطة دفاعية عن قطاع غزة، فاستعاد الإسرائيليون رويداً رويداً زمام السيطرة على المناطق التي خدعت “حماس” و”الجهاد” يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر بحملهما على الظنّ بحصول خرق داخل إسرائيل، فيما تل أبيب كانت على علم بعملية عسكرية يتم الإعداد لها. 

ولكن التقارير والإخباريات وضعت في درج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لاقتناص أكثر من عصفور بحجر واحد؛ وهذا ما يجيب عن السؤال المنطقي: ألم تكن “حماس” تعرف أن ردة فعل إسرائيل ستكون كاسحة بعد الساعات الأولى لاختراق غلاف غزة؟ وهل تهوى “حماس” الانتحار؟

من البديهي أن الخطة الموعودة لإطباق الأذرع العسكرية لإيران على إسرائيل لم تطبّق بقرار إيراني، وهنا فعل الخيانة الكبرى، لأن تلك الأذرع لا تتحرّك إلا بناءً على أوامر وتوجيهات الولي الفقيه في طهران، ووفقاً لأجندة طهران الإقليمية والدولية، مما يعني أن النظام الإيراني لم يُصدِر قراراً بالانخراط في طوفان الأقصى إلى ميليشياته، وفي الوقت نفسه سمح لها، حفاظاً على ماء وجهها وعلى رأسها “حزب الله” في لبنان، بالقيام بمناوشات حدودية مع الجيش الإسرائيلي من دون تصعيد أو توسيع رقعة المواجهات، ومن أجل إسكات الحلفاء الفلسطينيين والغزاويين.

وما كشف المستور أكثر، كانت تصاريح وزير الخارجية الإيرانية، حسين أمير عبد اللهيان، الذي لا يكاد يُطلق من بيروت أو دمشق أو بغداد تحذيرات وتهديدات لإسرائيل حتى تأتيه البيانات المناقضة من ممثلي دولته، كما المندوب الإيراني في الأمم المتحدة والذي نفى أي نيّة لبلاده بالتورّط في حرب غزة. 

وبالتالي ذاب الثلج وبان المرج، ولم تكن إيران سوى مزايدة على العرب في موضوع فلسطين بالمقاومة ومقاتلة العدو، وعندما تحين المناسبة للانقضاض على هذا العدو تتراجع إيران وتمتنع عن استغلال لحظة ضعف أو ضعضعة إسرائيلية أو إرباك داخلي في إسرائيل للقضاء على كيان مضى أكثر من أربعين عاماً تتوعّد وتهدّد وتزبد بأنها ستقضي عليه وتنهيه. فإذا لم تستخدم إيران فيلق القدس وصواريخها الباليستية في أم المعارك، وأثناء إبادة الشعب الفلسطيني في غزة، فمتى ستستخدمها إذاً؟

بين الكذب والفضائح

أبرز المواقف التي فضحت النظام الإيراني مؤخراً أتت من وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف قائلاً: “ما لنا وغزة”.

منذ طوفان الأقصى حتى اليوم حماس تكشف فضائح إيران وأسرار تفاهماتها؟ (5)
قائد “الحرس الثوري الإيراني” حسين سلامي (في الوسط) يحضر مراسم تشييع اثنين من قوات الحرس قتلا في سوريا بغارة إسرائيلية عندما أطلقت إسرائيل عدة صواريخ من هضبة الجولان المحتلة على مواقع للجيش السوري قرب دمشق. (تصوير أتا كيناري / وكالة الصحافة الفرنسية)

واللافت أن ظريف يعلم بخلفيات وخفايا السياسة الإيرانية ومهندس المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة، كشف بصراحته المعهودة منذ تخليه عن السلطة حقيقة الموقف الإيراني من قضية فلسطين. وهو لا يعبّر عن رأي شخصي عندما يخرج إلى الإعلام بتصاريح من العيار الثقيل الذي خرج به، إذ بذلك يعبّر عن وجهة نظر النظام الحاكم في طهران. 

وثمة تصريح آخر أكثر وضوحاً كان قد صدر عن قائد القوات “الجو-فضائية” في “الحرس الثوري” الإيراني، قال فيه إن إيران لا يمكنها أن تتدخّل بشكل مباشر لإنقاذ الوضع في غزة؛ لأن تدخّلها بشكلٍ مباشر يعني العودة عشرين سنة إلى الوراء، وبالتالي إيران ترفع شعارات لإحداث صخب إعلامي وسياسي ليس إلا، وأمثال ظريف والقادة الإيرانيين وحدهم القادرين على فضح النوايا الإيرانية.

سلسلة الأكاذيب الإيرانية المخادعة، استمرت طويلاً، رغم أنها سلّحت ومولّت ودرّبت “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ورفعت شعارات القدس وزوال إسرائيل من الوجود وسمّت كتائب من ميليشياتها بالقدس وسواها من عبارات وشعارات.

لكن الصحيح أيضاً أن كل هذا كان مزيّفاً وكاذباً وخديعة إيرانية لحلفاء طهران الإقليميين والفلسطينيين أولاً، أثبتت بموجبه ضعفها وتراجعها عندما يصل الأمر إلى حد المواجهة والحسم، لإن إيران وبكل بساطة وهذا ما يفرقها عن العرب “تتاجر” بالقضية الفلسطينية لتركب الموجة الشعبوية الإيرانية كسباً لأوراق تبادل وتفاوض مع الغرب وأميركا لتأمين مصالحها.

بينما العرب عندما دافعوا عن فلسطين حاموها، وعندما دعموا سلطتها الشرعية أحيوها وعندما موّلوا فلسطين عمرّوها، وعندما صدقوا مع أشقائهم الفلسطينيين طرحوا السلام وفق خطة مدروسة هادفة أقرّوها في قمة بيروت عام 2002، معلنين اعتماد استراتيجية سلام وتنمية لفلسطين بدل خطة الحروب وسفك الدماء والخراب والدمار! 

أيضا بدليل أن أول من هبّ لمساعدة أهل غزة هي الدول العربية عبر كمية من المساعدات الإنسانية والطبية من الرياض والقاهرة والجسر الجوي السعودي، إلى ما هنالك من حملات مساعدة ومساندة. 

فيما تكرّ سبحة الأسئلة حول المساعدات الإيرانية لشعب غزة أو من “الحوثي” أو “الحشد الشعبي” أو من الأسد وحكومته أو من “حزب الله”، والنتيجة لا شيء سوى المزايدات والاستعراضات الكلامية من محور الممانعة المخادع.

وراء الستار

واهمٌ كل مَن يتصوّر أن إيران ستتدخّل في فلسطين أو في أي جبهة أخرى من جبهات دول الاحتلال الإيراني أو أنها ستشعل من خلال ميليشياتها وعملائها جبهات مع إسرائيل لأنها ليست مستعدة لحرق أوراقها من أجل مكون إسلامي ينافس استراتيجيتها ولو كان مقاوماً لإسرائيل ولو سحقوا في غزة، فأولوية إيران تبقى سلامة نظامها واستمراريته بحثاً عن صفقة مع الأميركيين والإسرائيليين، ولا يهمّها لا فلسطين ولا غزة ولا إبادة إسرائيل!

منذ طوفان الأقصى حتى اليوم حماس تكشف فضائح إيران وأسرار تفاهماتها؟ (2)
شباب فلسطينيون من فصائل مختلفة يشاركون في عرض عسكري في مخيم اليرموك للاجئين في جنوب دمشق الذي تعرض لأضرار بالغة في 14 أبريل 2023، بمناسبة يوم القدس. (تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)

لا شك في أن الحرب الدائرة في غزة لن تقتصر تداعياتها على منطقة النزاع فقط، بل هناك مشروع لإعادة تشكيل المنطقة ككل، لكن هذه المرة على نار تحديد المصير الحامية.

ما حصل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر أسقط قدرة المملكة العربية السعودية على التحكّم بأوراقها في المنطقة، حيث فقدت اتفاقاً كان سيحقق للفلسطينيين أكثر بكثير مما حلموا به، فجاء “الطوفان” ليغرقهم ويحرمهم من حقوقٍ أين منها الحقوق التي يمكنها بعد اليوم الحصول على فتاتها.

ولمزيد من التأكيد على متاجرة إيران بالقضية الفلسطينية وغيرها من قضايا المنطقة، ومقابل ضبط إيران الجبهات في محور ما يُسمّى “المقاومة” في المنطقة إزاء ما يحصل في غزة، كانت مشاركة إيران في قمة الدول الإسلامية في الرياض بشخص الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، وموافقة إيران على البيان الختامي للقمة لجهة حل الدولتين ومبادرة السلام العربية، وهي مواضيع كانت طهران حتى الأمس القريب ترفضها أقله علنياً، فإذا بها توافق عليها في القمة الأخيرة، وإن بادر وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان في اليوم التالي لاستلحاق “الفضيحة” بالإعلان عن تحفّظات إيرانية أُضيفت في اليوم التالي على البيان الختامي، في وقت كان بإمكان إيران التحفّظ أثناء القمة وأثناء تلاوة البيان من دون انتظار اليوم التالي.

أما لبنان الضعيف فقد يكون ضحية الصفقة الجديدة بمزيد من الوصاية الإيرانية عليه، مع طغيان “حزب الله” على مفاصل الدولة وقرار الحرب والسلم والتحكّم بالأمن والقضاء العسكري والاستخباراتي، وحتى النواحي الاقتصادية والمالية.

من جهته، العراق قد يكون الضحية الثانية للصفقة التي يريدها النظام الإيراني، فواشنطن كانت تدعم القوى الديمقراطية في العراق باتجاه قيام دولة حديثة وديمقراطية، لكن حالياً هذه القوى تتراجع ما أعاد “الحشد الشعبي” إلى سابق عهده من توسّعٍ لنفوذه وسيطرته، وبالتالي فإن إراحة الحشد من الضغط قد يكون ثمناً لإيران.

فلسطين.. التجارة المربحة

بازار البيع والشراء لدى إيران لا ينتهي، ويهمّها أن تبقى حاضرة في قضية فلسطين كونها تعلم أن مَن يُمسك بزمام هذه القضية إنما يتحكّم بكل طاولات التفاوض والحوار الإقليمي والدولي، ولذا نرى أن الإيرانيين في موضوع ما يحصل في غزة يراقبون موازين الحرب من دون أن يتورّطوا عسكرياً، إلا أنهم يريدون إنهاء موضوع غزة بأسرع وقت تجنّباً لمزيد من الإحراج لدى محور إيران الذي يستعيض عنه “حزب الله” ببعض المناوشات على الحدود الجنوبية بوتيرة مقبولة وتحت سقف قواعد الاشتباك.

وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان (على اليمين) يلتقط صورة مع نظيره السعودي فيصل بن فرحان. (تصوير متين قاسمي/ بورنا نيوز)

الإيرانيون مستعدون للتفاوض على كل الأوراق بمنطق الربح والخسارة وإتمام الصفقات والبازارات، وهم يحسبون كل خطوة أو هجوم ليبقى الأمر مضبوطاً ضمن الخطوط الحمر وقواعد الاشتباك الإقليمي مع إسرائيل وواشنطن، فتبقى الردود المتبادَلة مضبوطة الطبيعة والقوة والإيقاعات لا سيما وأن واشنطن من جانبها لا تريد في الوقت الراهن تحوّل الحرب بين حماس وإسرائيل إلى حرب إقليمية، علماً أن مصلحة “حماس” في تورّط الحزب وإيران لإخراج الحرب من إطارها الضيق إلى إطار إقليمي تلتقط من خلاله أنفاسها وتحصل على دعم ومؤازرة مباشرة تساعدها على متابعة المواجهة مع التوغّل الإسرائيلي في القطاع، لكن لا إيران ولا “حزب الله” في وارد الانغماس في الحرب.

ومن الآن فصاعداً، بات معروفاً أن كلام القادة الإيرانيين عن القضية الفلسطينية ليس هدفه إسرائيل، إنما المزايدة على العرب، وتبرير تطوير صناعتهم العسكرية زاعمين أنهم ضد إسرائيل، فيما الحقيقة أنهم يستهدفون الدول العربية.

حتى أنهم في مسألة الدستور الإيراني عندما يتكلمون عن المظلومين ونصرتهم فإنما يتكلمون عن الطائفة الشيعية التي يستخدمونها لزعزعة الأنظمة المتواجدة في المنطقة، وقد نجح النظام الإيراني مرحلياً في استخدام القضية الفلسطينية كذريعة للدخول إلى العالم العربي وضرب نسيجه الاجتماعي الثقافي والسياسي من الداخل.

في المقابل، هناك معادلة واضحة كشفتها على نحو جليّ الحرب في غزة: إيران لا تريد ضرب إسرائيل ومحوها من الوجود، بل إن فضيحة “وحدة الساحات” تبيّن بالدليل القاطع أن كل ساحة لها خصوصياتها ولا “محور مقاومة” متماسك طالما أن راعيه يُمسك به لتجارته لا لصالح الشعوب التي يحتلها ويدّعي تجسيد طموحاتها بالتحرّر ومحو إسرائيل من الوجود.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة