منذ أسبوع، خرج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنبرة جديدة تجاه الرئيس السوري بشار الأسد، ليصفه بـ”السيد الأسد” بعد أن وصفه سابقا بـ”القاتل” وتعهد برحيله عن الحكم.
أردوغان على مدى الأيام الفائتة لم يفوت مناسبة ليجاهر بدعوته للأسد من أجل لقائه سواء في تركيا أو في بلد ثالث كما قال، مبينا أنه عهد إلى وزير خارجيته بالتواصل مع دمشق من أجل ترتيب هذا اللقاء، وإطلاق عملية جديدة وتجاوز السلبيات في العلاقات مع سوريا.
لكن دمشق كان لها رأي آخر، حيث أعلنت وزارة الخارجية السورية، السبت الفائت، شرطا لـ”تصحيح العلاقات” ما بين دمشق وأنقرة، بعد نحو أسبوع من تصريحات الرئيس التركي، وطلبت لعودة العلاقة الطبيعية مع تركيا أن تكون قائمة على عودة الوضع الذي كان سائداً قبل عام 2011، وانسحاب الجيش التركي من الأراضي السورية.
رغم بيان دمشق الواضح والصريح، أعاد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، أمس الأحد، الحديث حول التطبيع مع دمشق، مشيراً إلى أن نقرة تنتظر من حلفائها في روسيا وإيران لعب دورهم وممارسة الضغط على دمشق، لكن هذه المرة تحدث فيدان بالنبرة القديمة حيث جدد وصف حكومة الأسد بـ”النظام”.
سلسلة الأحداث السابقة، و إصرار تركيا على عدم تضييع مناسبة للحديث عن طلبها للجلوس مع الأسد على طاولة واحدة تثير تساؤلا واحدا: لكن لماذا يصرُّ أردوغان الآن على لقاء الأسد؟
“توك شو” تركي
على مبدأ “التوك شو” وإعلام الأزمات، بدأ أردوغان منذ أيار/مايو الفائت، بالحديث عن دعوته للرئيس السوري، الأسد، لعقد لقاء في إطار تحرك يستهدف استعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق، وأنه لا يوجد أي سبب لعدم إقامة علاقات بين بلاده وسوريا.

تصريحات أردوغان كانت إما ضمن خطاباته أمام جمهوره في تركيا، أو على متن الطائرة خلال عودته من العاصمة الألمانية برلين بعد حضوره مباراة منتخبي تركيا وهولندا، ضمن منافسات ربع نهائي بطولة أوروبا لكرة القدم (يورو 2024)، أو حتى خلال العودة من العاصمة الأميركية واشنطن، عقب مشاركته في قمة “حلف شمال الأطلسي” (ناتو).
منذ أول تصريح لأردوغان حول عزمه لبدء حقبة جديدة مع سوريا، نجد أنفسنا أمام مشهد متغير يتحدى المفاهيم التقليدية للعلاقات الدولية. فمصطلح “تقاطع المصالح”، الذي طالما اعتُبر قاعدة راسخة في الدبلوماسية، يشهد اليوم تحوّلاً جذرياً في تفسيره وتطبيقه.
هذا التحول يبرز بشكل خاص عندما نتناول الدول ذات الإرث السياسي العريق. فبدلاً من الاعتماد على القواعد الثابتة، نجد أنفسنا ننتقل إلى عالم أكثر سيولة، حيث تُعاد صياغة المفاهيم وفقاً لمقتضيات اللحظة السياسية الراهنة.
وفي خضم هذا التحول، نشهد ظاهرة مثيرة للقلق: تحول الخطاب السياسي إلى ما يمكن وصفه بـ “سياسة التوك شو”. هذا النمط الجديد من التواصل السياسي، الذي يميل إلى التبسيط المفرط والإثارة على حساب العمق والتحليل، أصبح سمة بارزة لدى العديد من السياسيين الأتراك.
هذا التحول في الخطاب السياسي يثير تساؤلات عميقة حول إصرار تركيا على الجلوس مع دمشق ضمن طاولة واحدة بعد عقدٍ من سلسلة التصريحات العدائية المتبادلة، والتأكيد على ضرورة تدخل حلفائها (إيران وروسيا) وحتى السعودية – كما طلب فيدان في آخر تصريح له – لإنجاح هذه المهمة.
دوافع تركيا للتفاوض مع الأسد
يشير الباحث السياسي، محمد الزعبي، إلى أن مساعي وإلحاح تركيا للتفاوض مع الأسد بعد سنوات من العِداء والمواجهة غير المباشرة، له دوافع جيوسياسية.
تُعتبر مسألة الشرعية الدولية ركيزة أساسية لأردوغان حاليا وفق حديث الزعبي لـ”الحل نت”، فبعد عودة العلاقات العربية مع دمشق شيئا فشيئا، وخمول الحسم العسكري للملف السوري دوليا، تريد أنقرة بالجلوس مع دمشق إضفاء الشرعية على وجودها العسكري في شمال سوريا.
إن الحصول على اعتراف أو موافقة ضمنية من الحكومة السورية من شأنه أن يمنح تركيا غطاءً قانونيًا وسياسيًا لعملياتها العسكرية في المنطقة؛ خصوصا أن أردوغان حاول منذ عام 2019 شنّ عملية عسكرية في شمال شرق سوريا، لكنه لم يحصل على موافقة روسيا وإيران أو حتى الحلف الغربي لهذه العملية.
هذا الأمر يتماشى مع مفهوم “الشرعية الدولية” كما طرحه إيان كلارك، حيث تسعى الدول للحصول على قبول دولي لأفعالها لتجنب العزلة والعقوبات المحتملة.
كما أن القضية الكردية تمثّل تحديًا أمنيًا وسياسيًا مستمرًا لتركيا. ويمكن فهم محاولات تركيا للتفاوض مع دمشق كاستراتيجية لمواجهة نفوذ “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).
أنقرة تدرك أن الحل السياسي في سوريا قد يؤدي إلى اعتراف دولي بسلطات الأمر الواقع، بما في ذلك “الإدارة الذاتية” وذراعها العسكري “قسد”. هذا السيناريو يُربك تركيا من وجهة نظرها فقط. لذلك، تسعى تركيا من خلال التفاوض مع دمشق إلى تقويض الشرعية المحتملة لـ”قسد” وضمان مصالحها.

وأيضا في إدارة قضية اللاجئين تهدف استراتيجية تركيا إلى تحقيق هدفين رئيسيين:
1. إعادة اللاجئين: من خلال التنسيق مع دمشق، تأمل أنقرة في تسهيل عودة اللاجئين السوريين، مما يخفف الضغط الداخلي ويعزز موقفها التفاوضي مع أوروبا.
2. جذب التمويل لإعادة الإعمار: تسعى تركيا لتصوير نفسها كبوابة لإعادة إعمار سوريا، مما قد يجلب استثمارات كبيرة ويعزز نفوذها الإقليمي.
“تانغو” معقّد
العلاقة بين دمشق وأنقرة هي تفاعل معقد من العداء التاريخي والمصالح الجيوسياسية وصراعات القوى الإقليمية. وفي حين أن احتمال إعادة التقارب يبدو منطقياً بالنسبة للعديد من المراقبين الخارجيين، فإن الواقع أكثر دقة بكثير. ولفهم سبب عدم رفض دمشق الصريح للتعامل مع أنقرة، من الضروري الخوض في العوامل المتعددة الأوجه التي تشكل السياسة الخارجية السورية.
يتّسم أساس العلاقة السورية التركية بعداء تاريخي عميق الجذور. فقد خلّف حكم الإمبراطورية العثمانية لسوريا إرثاً مريراً، ولم يُسهم تشكيل الجمهورية التركية الحديثة لاحقاً في تهدئة المشاعر القومية السورية. وقد أدى الصراع على إقليم هاتاي، الذي ضمته تركيا في عام 1939، إلى تفاقم التوترات. وقد ألقت هذه المظالم التاريخية بظلالها على العلاقات الثنائية بين البلدين، مما خلق مناخاً من عدم الثقة والشكوك المتبادلة.
كذلك، أدى اندلاع الحرب السورية في عام 2011 إلى تصعيد التوتر بين دمشق وأنقرة بشكل كبير. فقد دعمت تركيا، بقيادة رجب طيب أردوغان، المعارضة السورية بنشاط، وشنّت في وقت لاحق غارات وحملات عسكرية على سوريا.
وكانت هذه الإجراءات تهدف إلى منع إقامة منطقة حكم ذاتي بقيادة كردية على طول حدودها الجنوبية ودعم القوات المناهضة للأسد. من وجهة نظر دمشق، يُنظر إلى تورط تركيا في الصراع على أنه تهديد مباشر لسيادة سوريا ووحدة أراضيها.
كل من سوريا وتركيا لاعبان رئيسيان وغالباً ما تكون قرارات سياستهما الخارجية مدفوعة بصراعات القوى الإقليمية والسعي لتحقيق المصالح الوطنية. فتركيا، بصفتها عضوًا في حلف “الناتو” وقوة إقليمية صاعدة، تسعى إلى توسيع نفوذها في المنطقة، بينما تسعى حكومة دمشق، التي أضعفتها الحرب إلى استعادة سيادتها. هذه التطلعات المتنافسة تخلق حتماً احتكاكاً بين البلدين.
وبالمثل، تلعب السياسة الداخلية أيضًا دورًا حاسمًا في تشكيل العلاقة بين سوريا وتركيا. ففي كلا البلدين، هناك شعور قومي قوي يجعل من الصعب على القادة تقديم تنازلات للطرف الآخر. بالنسبة للأسد، فإن أي ضعف متصور تجاه تركيا يمكن أن يستغله المعارضون المحليون ويقوض سلطته. وبالمثل، يواجه أردوغان ضغوطاً داخلية للحفاظ على موقف صارم ضد سوريا وحماية مصالح الأمن القومي التركي.

وبالنظر إلى هذه العوامل المعقّدة، من المفهوم لماذا كانت دمشق حذرة في مقاربتها لأنقرة. وفي حين أن الانخراط في الحوار يمكن أن يؤدي إلى تطبيع العلاقات، إلا أن هناك مخاطر كبيرة تنطوي على ذلك. فالاتفاق السابق لأوانه يمكن أن يقوّض موقف سوريا بشأن القضايا الرئيسية، مثل مسألة الوجود العسكري التركي ورغبة أنقرة في شنّ عمليات عسكرية داخل سوريا، وهذا ينفّر الدوائر المحلية.
وعلاوة على ذلك، أدت تصرفات تركيا في سوريا إلى تآكل الثقة وخلق عداء عميق الجذور سيستغرق سنوات للتغلب عليه.
إن سعي تركيا المستميت للتفاوض مع الأسد، يتضح أن دوافعه متعددة الأبعاد، تتراوح بين السعي للشرعية العسكرية تحت ذريعة مواجهة التحديات الأمنية، وإدارة قضية اللاجئين، وإعادة تموضعها إقليميا ليس أكثر، مستخدمة جزرة رغبة الحكومة السورية بالخروج من عزلتها وانهيار الوضع الاقتصادي التي تعاني منه.
- الهلال الأحمر الكُردي يجهز قافلة مساعدات لأهالي الساحل السوري
- أحداث الساحل ومشاركة دمشق بمؤتمر بروكسل.. خطوة غربية للوراء لتحديد مسار سلطة الشرع
- ليس هناك شيك على بياض للسلطات الجديدة في دمشق
- هل يساعدنا التحليل النفسي على فهم السياسة السورية؟ نور حريري وسامي الكيال
- مظاهرة أمام البيت الأبيض تضامناً مع ضحايا أحداث الساحل السوري
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة

تجميد إضافي على أصول بشار الأسد ودائرته المقربة في سويسرا.. هل يتم تسليمها لدمشق؟

روسيا تسعى لإبرام صفقة مع سوريا للاحتفاظ بقواعدها العسكرية.. ما مصير الأسد؟

بعد نفي روسيا وجودها لديها.. أين هرّب “الأسد” أموال سوريا المنهوبة؟

الشرع يُطالب بإعادة الأموال التي أودعها الأسد في البنوك الروسية.. كيف جاء رد موسكو؟
الأكثر قراءة

وصول نحو 7 شاحنات قيل إنها محمّلة بالأموال إلى “مصرف سوريا المركزي”

هنا يتمركز الجيش الإسرائيلي في القنيطرة.. كاميرا جوية تفضح وجوده

هل رمم السيف الدمشقي ببلاستك؟ جدل حول أشهر معالم دمشق

هجوم على مسلسل “بالدم”.. واتهام الكاتبة بسرقة الفكرة من قصة فتاة لبنانية!

نادين نجيم تشيد بمسلسل تيم حسن وكاريس بشار.. ما تفاصيل فيلمها الجديد؟

من قلب حمص: جولة في شوارع وأسواق حي “بابا عمرو”
المزيد من مقالات حول سياسة

إطلاق نار على متظاهرين بدرعا: هل يعيد الشرع سوريا إلى 2011؟

دمشق تضع شروطا لحضور مؤتمر بروكسل: مقامرة سياسية وعودة إلى المربع الأول

تواصل مباشر بين الجيش الأميركي ومكتب الشرع.. والعقوبات لن ترفع قريبا أو تُعلّق

استطلاع رأي: سوريون يرون الإعلان الدستوري تمهيداً لديكتاتورية جديدة!

اعتماد 15 آذار عيدا لانطلاقة الثورة بشكل غير رسمي.. ودرعا: تهميش متعمّد وسرقة للتاريخ

وسط انقسام درزي.. زيارة تاريخية لنحو 60 رجل دين دروز من جنوب سوريا إلى إسرائيل

المبعوث الأممي إلى سوريا: حان الوقت لتشكيل حكومة لا تقصي أحدا
