مع تعزيز علاقاتهما السياسية والاقتصادية والتجارية، تسعى روسيا والإمارات لتعزيز علاقاتهما الثقافية والسياحية، في إطار جهودهما لتوثيق روابط العلاقة والارتقاء بها لما يتناسب مع الشراكة الاستراتيجية الموقّعة بينهما عام 2018. ومؤخرا، بدأت فعالية “أيام الثقافة” الإماراتية في ساحة الماينج في موسكو، فلماذا أبوظبي وجهة موسكو الأولى عربيا؟ وما سرّ العلاقة بينهما؟
بدءا، وفي تعقيبها على الفعالية الثقافية، قالت نائبة عمدة موسكو، ناتاليا سيرغونينا، إن “علاقات الشراكة بين روسيا والإمارات تتطور في العديد من المجالات، بما في ذلك السياحة”. مضيفة: “في عام 2023 زار موسكو أكثر من 42 ألف زائر إماراتي، أي أكثر بـ 8 أضعاف عن عام 2022”. ما يثير التساؤل عن تسارع تطور العلاقة بين الدولتين، في ظل الاستقطاب الدولي بين موسكو والعالم الغربي بقيادة واشنطن.
“دائما هناك ما هو مهم وما هو متطور في العلاقة التي تربط روسيا الاتحادية والإمارات العربية”، قال الشيخ عبد الله بن زايد. وأضاف وزير الداخلية الإماراتي خلال اجتماعه بنظيره الروسي: “لا شك في أننا نتطلع إلى تطوير العلاقة بين بلدينا ونعمل على تنويع مجالات ترابط العلاقة بين مواطنينا ومؤسساتنا وحكوماتنا”.
وتعود علاقات الدولتين لبداية عام 1972، خلاله، اتفق الجانبان، أثناء زيارة وفد من الاتحاد السوفييتي للإمارات، على إنشاء بعثات دبلوماسية على مستوى السفراء، وأعلنا إقامة علاقات ثنائية أواخر عام 1985، فافتتح الاتحاد السوفييتي سفارته في أبو ظبي عام 1986، وفي العام التالي افتتحت الإمارات سفارتها في موسكو. وفي عام 2018، وقّع الجانبان اتفاقية شراكة استراتيجية، ذكرها الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الإماراتية بالقول: تربط الدولتين علاقات استراتيجية قوية وراسخة ومتطورة ويجمعهما شراكة استراتيجية مثمرة تجسد الإرادة المشتركة للارتقاء بالعلاقة. وشكلت الشراكة نقلة نوعية، تطورت بموجبها أوجه التعاون بينهما في العديد من المجالات ذات الاهتمام المشترك، وبرعاية واهتمام من قيادتهما.
إنه الاقتصاد!
الإمارات الشريك التجاري العربي الأول لروسيا، وتحتضن أكثر من 4 آلاف شركة روسية، وتمتلك 60 مشروعا في روسيا، حسب “العين الإخبارية“. وفي عام 2023 تجاوز التبادل التجاري غير النفطي بين الدولتين 10 مليارات دولار. وفي عام 2022، دخلت الإمارات قائمة أكبر 20 شريكا اقتصاديا أجنبيا لروسيا. فالشركات الروسية تعتبر الإمارات مركزا مناسبا للإنتاج والخدمات اللوجستية لتنظيم إمدادات التصدير واستيراد المواد المطلوبة لدى “الكرملين”. وعليه، بلغت قيمة صادراتها إلى الإمارات 8.5 مليارات دولار، ووارداتها منها 500 مليون دولار.
بدوره، ذكر “موقع الخليج“، استحواذ الإمارات على 55 بالمئة من إجمالي التجارة الروسية الخليجية، و80 بالمئة من إجمالي الاستثمارات العربية في روسيا. وتعتبر أول وجهة عربية لاستثمارات موسكو، بنسبة تقارب 90 بالمئة من إجمالي هذه الاستثمارات. كما تأتي بالمرتبة الثانية عربيا في التجارة الروسية.
من وجهة نظر الدكتور محمد باهارون، وهو أكاديمي ومدير “مركز دبي لبحوث السياسات” (بحوث)، فإن رؤية الإمارات إلى روسيا والصين والولايات المتحدة وأوروبا والهند واليابان وكوريا وإفريقيا وأميركا الجنوبية، هي نظرة استراتيجية تقوم على مفهوم “أجندة الارتباط العالمية”. ويفسرها باهارون في حديثه لـ “الحل نت”، بأنها أجندة تدعو لتعظيم المصالح المشتركة كأساس للتبادل التجاري والإنساني وتجنّب الاستقطاب السياسي لصالح سلاسة تدفق الدورة الدموية لاقتصاد العالم.
خلال منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي الدولي لعام 2023، قال رئيس اتحاد غرف التجارة والصناعة الإماراتي، عبد الله محمد المزروعي، “نرى نموّا كبيراً في التبادل التجاري، بلغت قيمة الاستثمارات الروسية 10 مليارات دولار بزيادة 4 مليارات دولار”. متابعاً بدعوة الشركات الروسية إلى زيادة استثماراتها في الإمارات، “نرحب بكم والأبواب مفتوحة لكم”، والصناعات الروسية قد تجد سوقاً جيدةً في الإمارات.
ومن جانبه، قال نائب رئيس الوزراء الروسي مارات خوسنولين، إن “تدفق رؤوس الأموال الروسية إلى الإمارات يتزايد، ويُظهر اهتماما كبيرا من قبل رجال الأعمال لدينا في تشييد خطوط إنتاج في الإمارات. وتُعد الإمارات واحدة من أكثر 5 دول أجنبية شعبية بين السياح الروس”.
أحمد دهشان، وهو باحث في التاريخ والعلاقات الدولية، ومتخصص بالشؤون الأوراسية، يتلاقى مع باهارون، بقوله لـ “الحل نت”، سبق وأن أعلنت أبو ظبي عن نهجها بشكل واضح، رفض عملية المركزية الاقتصادية ودعم وتأييد إقامة نظام عالمي “متعدد الأقطاب الاقتصادية”، تتعدد به المراكز والكيانات الاقتصادية من شرق وجنوب شرق آسيا إلى إفريقيا إلى الشرق الأوسط والخليج. لذا، تتعامل سياسيا بمبدأ الانفتاح على الجميع، وبنجاح ملحوظ في إدارة التناقضات بين هذه العلاقات. حيث تبتعد عن الصراع السياسي، وتسعى للتفاهم والتعاون مع الجميع، عبر علاقة جيدة ومتوازنة مع كل الأطراف.
الإمارات ملاذ آمن لـ روسيا؟
ردّاً على سؤال بخصوص إنشاء مراكز لوجستية في الشرق الأوسط، قال النائب الأول لوزير الصناعة والتجارة الروسي، فاسيلي أوسماكوف، خلال منتدى “روسيا – العالم الإسلامي، منتدى قازان 2023″، إنه “يتم مناقشة إنشاء تلك المراكز في الإمارات”. ووفقا لوكالة “سبوتنيك”، تنشط وزارة الصناعة بتطوير ممرات النقل والخدمات اللوجستية الرئيسية وإنشاء مراكز للنقل والخدمات اللوجستية بهدف زيادة إمدادات المنتجات الروسية إلى أسواق التصدير الجديدة “للدول الصديقة”.
ومنذ الغزو الروسي لأوكرانيا، زاد تدفق أموال الأثرياء الروس الهاربين من تأثير الغزو اقتصاديا إلى الإمارات، حسب وكالة “CNN“. وخلال العامين الماضيين، زار مسؤولون غربيون الإمارات عدة مرات، لتحذيرها بأن مساعدة موسكو على التهرّب من العقوبات لن يمرّ دون عواقب. حيث تسير الدولة الخليجية منذ الغزو الروسي لأوكرانيا على خيط رفيع بين واشنطن وموسكو، اختارت الحياد، بإدانتها للغزو، لكنها وسعّت علاقاتها الاقتصادية مع موسكو.
مصالح اقتصادية مشتركة تجمع البلدين، حسب دهشان، لاسيما بعد تحوّل الإمارات إلى مركز للأثرياء الروس، بما توفرّه لهم من حياة رفاهية بالمستوى الموجود في الغرب وأفضل، وبنفس الأسعار أو أقل، والأهم من ذلك، غياب الخلط بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي. مما زاد من قوة المصالح الاقتصادية بين البلدين، إلى جانب دخول الإمارات في تطوير عدة استثمارات روسية بعد خروج الشركات الغربية من روسيا. كذلك فإن وجود الإمارات بجانب الوجود الروسي في إفريقيا، مع علاقات موسكو الوثيقة مع إيران وإسرائيل وحكومة دمشق، تستدعي علاقة أقوى، وتنشيط مشترك لعلاقة الدولتين.
رغم الرقابة المصرفية، نقلت “الأوليغارشية” الروسية أموالها إلى الإمارات، وأسست 1600 شركة واستثمرت 6.3 مليارات دولار في العقارات، 2.4 مليار دولار في العقارات الجاهزة و3.9 مليارات دولار في عقارات قيد الإنشاء، حسب “العربي الجديد” نقلا عن “مرصد الضرائب الأوروبي”، ما يمثل زيادة بنسبة 940 بالمئة و 1500 بالمئة تقريبا في قيمة المبيعات خلال العامين الماضيين للعقارات الجاهزة والعقارات قيد الإنشاء، وهنا قال الخبير المستقل في مجال الاستثمار العقاري، دميتري غريغورييف، إن “دبي وجهة للاستثمارات العقارية طويلة الأجل، وتشهد ارتفاعا مستديما لأسعار العقارات سواء للبيع أو الإيجار”.
كذلك نقلت عدة شركات متعددة الجنسيات موظفيها من روسيا إلى الإمارات، وانتقل شباب روس للمدينة الجذابة بحثا عن فرص عمل، حسب “BBC”. وفي السياق، قالت كاتي بورنيل، وهي مديرة مساعدة في “سافيلز الشرق الأوسط”، ومقره دبي: “هناك قيود كثيرة على الروس بشأن مكان إقامتهم أو شرائهم للعقارات. لكنهم لا يواجهون مثلها في الإمارات. هنا تمكنوا من القيام بأعمال تجارية والعمل ماليا، وبسبب هذه الراحة، لا يركزون على نقطة السعر في سوق العقارات، وهم على استعداد لدفع الثمن”. وفي شباط/ فبراير 2023، أصدر مصرف الإمارات المركزي، ترخيصاً لبنك “إم تي إس” الروسي. مع ذلك، يواجه الروس صعوبات في فتح حسابات مصرفية وتحويل الأموال بالإمارات، نتيجة عقوبات الغرب على عدد من البنوك الروسية.
ما بين العولمة وبناء الجسور
المقرضون الإماراتيون الرئيسيون بدأوا إغلاق حسابات المواطنين الروس المصرفية والحدّ من التسويات مع روسيا بعد تهديدات واشنطن بفرض عقوبات ثانوية، حسب صحيفة “موسكو تايمز“، إذ هددت واشنطن مطلع 2024 بقطع الوصول إلى نظامها المالي أمام البنوك الأجنبية التي تتعامل مع شركات تدعم صناعة الدفاع الروسية. وفي مواجهة ذلك، توقفت البنوك الإماراتية عن معالجة المدفوعات من وإلى روسيا، مع إغلاق تدريجي لحسابات المواطنين الروس.
مع ذلك، يشير موقع “Sade Car” لممانعة أبو ظبي استبعاد موسكو من الحصص الشهرية لـ “أوبك بلس” وتصدّر دبي طائرات بدون طيار وأشباه الموصلات إلى روسيا، مع سماحها للسبائك والماس الروسي المنشأ بالمرور عبر بورصة الذهب والسلع. إلى جانب توفير سوق العقارات والأرصفة في دبي للروس الذين يحتاجون إلى مكان لإخفاء ثرواتهم، وهنا لم تبدِ واشنطن معارضة جدّية، ضمن حسابات العولمة النيوليبرالية التي تقودها. فإدراكاً منها لنقص الإمدادات وتأثيرها على التضخم، جعلت واشنطن عقوباتها المتعلقة بالطاقة سهلة بما يكفي للتحايل عليها.
النظرة لروسيا أو للصين ليس لها علاقة بتراجع نفوذ الولايات المتحدة كما يشاع، ولا تُعد استبدالاً لها، ولا هي نظرة معتمدة على التماهي الأيديولوجي السياسي ولا الخطوط الحمراء، حسب باهارون. وهو الطرح الذي وصفه رئيس الدولة، الشيخ محمد بن زايد، بأنه “بناء الجسور” وهو بالضبط ما تفعله جهود الوساطة الإماراتية الحالية، وهي جهود لخفض التصعيد، تأخذ شكل تبادل أسرى، لكنها في الواقع تسعى لفتح قنوات اتصال ومنع الاستقطاب الكامل بين الدول، بحيث تكون مع هذا الفريق أو ذاك، وهو نفس المبدأ الذي اتخذته دول مثل السعودية وتركيا والهند. كما أن التعاون الاقتصادي متواجد في قضية أمن الطاقة وأمن الغذاء العالمي، وهما قضيتان تمسّان العالم ككل، ولا تمسّان مصالح الإمارات فحسب.
ليس هذا فحسب، فروسيا بلد مهم وقوة نووية وعسكرية عظمى وقوة جغرافية كبيرة، ولديها تأثير مباشر في قضايا الشرق الأوسط، قال دهشان لـ “الحل نت”. وأضاف، لذا فإن التباعد بين روسيا والإمارات غير مفيد لروسيا ولا لدول الخليج وسواها من منتجي النفط، ولا للاقتصاد العالمي أيضا. وبحكم أن كلتا الدولتين من منتجي النفط الكبار، فإن التنسيق فيما بينهما أمرٌ بالغ الأهمية.
كذلك فإن الإمارات وفي إطار سعيها لنظام عالمي متعدد الأقطاب الاقتصادية، تعتقد أنه من الخطأ التعامل مع روسيا على غرار تعامل أميركا والغرب مع الدول المارقة. فالعقوبات الاقتصادية غير مسبوقة على روسيا، وتجميد أصولها المالية، مع محاولة طردها من النظام الاقتصادي العالمي، تراها أبو ظبي أمور ضارة بالاقتصاد العالمي.
وخلال زيارته الأخيرة إلى الإمارات، نهاية عام 2023، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في اجتماع مع رئيس الإمارات، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، إن العلاقات بين روسيا والإمارات وصلت إلى مستوى غير مسبوق. وتتعاون روسيا والإمارات في إطار تحالف “أوبك بلس” وتُشاركان في مشروعات كبرى للنفط والغاز.
سعيا منها لتقوية مركزها الجيوسياسي العالمي، تعمل الإمارات على تعزيز علاقاتها مع روسيا، ومع الصين وغيرهما أيضا، ضمن جهودها لحجز مقعد في عالم متعدد الأقطاب قيد التشكّل، وإلى جوار المحفّزات الوطنية وتراخي واشنطن تجاه أمن حليفتها الخليجية، والتي تعرضت لهجمات عدة من فصائل موالية لإيران دون ردّ أميركي فاعل، ساهم في تعزيز نهج أبو ظبي بتنويع شراكاتها الدولية.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.