منذ إطلاق برومو فيلم “الملحد” للكاتب والروائي الإعلامي المصري إبراهيم عيسى، وثمة هجمات عنيفة تطاول الفيلم عبر مواقع التواصل الاجتماعي. الهجوم الذي تشنّه قوى سلفية وأصولية، وكذا لجان وذباب إلكتروني تابعين لجماعات الإسلام السياسي، بالتزامن مع الإعلان عن الفيلم المزمع عرضه في دور العرض منتصف آب/ أغسطس الجاري، يكشف عن أهداف مقصودة وأجندة تستهدف النيل من الفيلم لمجرد موضوعه أو حتى العنوان من دون الاشتباك مع مضمونه، ومناقشة الفكرة، كما أن العدوان قبل العرض في صالات السينما هو لمجرد أن كاتبه الإعلامي المثير للجدل والمعروف بمواقفه المعادية للفكر الأصولي السلفي.
ليس ثمة شك أن الإعلامي المصري إبراهيم عيسى له مواقف إشكالية، وصاحب رؤى وأفكار تجديدية، في السينما كما في الإعلام والدراما، وقد سبق له وعرض عدة قضايا جدلية في فيلم “مولانا” و”الضيف” و”صاحب المقام”.
وفي أفلامه سعى إلى طرح مقاربته التثويرية بخصوص القضايا الدينية، حيث إن النسخة المتشددة التي تطرحها القوى الراديكالية منذ فترة الصحوة في سبعينات القرن الماضي، وتقوم على تحريم الفن وتكفير المبدعين، والترويج للكآبة والحزن، لا تمثل الدين الصحيح الذي من شأنه ملء حياة البشر بالهدوء والاستقرار، ويمكنه من تحسين شروط حياتهم، كما أن الإيمان هو قرار شخصي لا يخرج عن نطاق الفرد إلى المجال العام، بهدف التسييس ليؤدي أدواراً مجتمعية أو في السياسة والحكم.
بالتالي، فإن محاولات الخصومة بين الإنسان والإبداع، هي وسيلة تقع ضمن آليات الإسلامويين لجهة إسكات أي صوت يفضح أغراضهم أو انتهازيتهم، ويمنع من فضحهم والسخرية منهم، في حين تظل هذه القوى هي التي تملك الحقّ الحصري للحديث باسم “الدين”.
تعدد وجهات النظر داخل الدين نفسه
وفي فيلم “الضيف” من تأليف إبراهيم عيسى، عرج الأخير على فكرة مواجهة جيل جديد من الإسلامويين عبر الشاب، أسامة، وقام بأداء دوره الفنان المصري أحمد مالك، والذي يتسلل إلى بيت المفكر والكاتب يحيى الذي قام بأداء دوره خالد الصاوي من خلال إيقاع ابنته في الحب، بينما يبدأ بمجرد حلوله ضيفاً في منزل الكاتب و”حبيبته” إلى تفريغ سموم الكراهية التي راكمها من دون معرفة حقيقية لأفكار الكاتب وقد تأثر بها من وسطاء “الشر”.
واستعار عيسى هذا المشهد وعبّر عنه بشكل فني وتيمة جديدة من حوادث عديدة تكررت في سيرة الاعتداء على المفكرين، ومنهم فرج فودة، الكاتب المصري الذي اغُتيل في تسعينات القرن الماضي، وبمجرد توقيف المتهمين والتحقيق معهم، اكتُشف أن القاتل لم يقرأ له حرف من كتابه ليس لشيء إلا أنه أمي لا يقرأ أو يكتب، وقد كان القاتل مجرد أداة في يد عقل تكفيري أصدر فتوى لينفّذ آخر.
وفي فيلمه “مولانا” الذي أثار هو الآخر جدلاً واسعاً، سعى إلى هدم نموذج الدُعاة الجُدد المنتشرين عبر الفضائيات والمواقع الافتراضية، للدرجة التي جعلت عديد من رجال الدين يصفون الفيلم بأنه “إساءة لرجل الدين”.
غير أن الفيلم تخطى ما يمكن وصفه بـ الخطوط الحمراء، عندما كشف عن تعدد وجهات النظر داخل الدين نفسه، وذلك من خلال الرؤى المتناقضة بين الفقهاء والمدارس المختلفة كالمعتزلة والأشعرية، في حين تسعى تيارات الإسلام السياسي إلى فرض نموذج أحادي وشمولي ضيّق ومنغلق، لتمكين السيطرة على المجتمع وأفراده.
ومن بين الأمور أو بالأحرى الخطوط الحمراء التي تخطّاها الفيلم، كان في حوار البطل الذي قام بأداء دوره عمرو سعد، في هيئة رجل دين أمام شاب مغاير دينياً، فقال له الأول: “أنا مش ضامن أنك هتدخل الجنة لو بقيت مسلم ولا هتروح النار لو بقيت مسيحي، لأنه ربنا بتشمل رحمته كل الناس: مسلمين مسيحيين يهود ملاحدة..”.
وعقّب على حديثه بأن الأفكار الجامدة التكفيرية هي التي يروّج لها البعض لاعتبارات براغماتية تخدم مشاريع سياسية، الأمر الذي يضّطر بعض رجال الدين من أصحاب الرؤى المختلفة إلى التخوّف من الإفصاح عن آراءهم خشية من “قطع أرزاقهم” كما يقول البطل. وأوضح لمّا سأله الشاب عن تفاديه الكشف عن أفكاره التنويرية الجريئة بأن: “أنا حمار أو عبيط دا كلام يقطع العيش ويهيج عليا المتخلفين..”.
الاشتباك مع الدين وإشكالياته
إذاً، يمكن القول إن فيلم “الملحد” هو ضمن ثلاثية أعمال تدور في الفلك ذاته بعدّة ثيمات مختلفة، تشتبك مع فكرة الدين وإشكالياته سواء على مستوى الإيمان أو التمرّد على الدين، فضلاً عن أنماط التديّن المختلفة، بخاصة التدين الشعبي والقبول بالأولياء والقديسين، ثم أزمة توظيف الدين في السياسة وتكفير الغرب والمختلفين دينياً تمهيداً للحكم باسم الدين على حساب القيم المدنية والمواطنية.
بعيداً عن الأفكار المسبقة والهجوم الجاهز والعِداء التلقائي المباشر لأغراض مشبوهة تعادي الفن والرؤى المنفتحة للحياة، فالفيلم يفترض ضرورة القبول بعوالم رحبة لا تعلق فيها المشانق للإنسان.
غير أن الأزمة تلك المرّة، أن الهجوم بدأ قبل حتى ظهور الفيلم ومشاهدته، وهو ما يعكس حالة التحفّز ضد الفيلم من مجرد اسمه وعنوانه، والتشنيع عليه لمجرد ارتباطه باسم الإعلامي المصري الذي لطالما اتخذ موقفاً عنيداً من الإسلامويين حتى كفروه واعتبروه خصماً للإسلام ذاته على خلاف الحقيقة.
كما يفضح الموقف من الفيلم ما يسعى المؤلف إبراهيم عيسى مكاشفته، وهي أن المواقف الأصولية تتسارع إلى التشنج والهجوم من دون عقل وروية أو حتى محاولة الفهم. بل إن المواقف تبدو جاهزة وتلقائية تجاه الأفراد من بعيد وعن جهل بهم وبإنتاجهم الفني والمعرفي لطالما التصق بهم وصف “الكفر” و”مروجي الفتنة في الأمة”.
هذا المنطق الذي يشلّ الإرادة ويلغي العقل، يسعى الفيلم نحو تبديده بهدف أن لا تكون الحياة مغلقة على كتلة متجانسة والإيمان بالتعدد والاختلاف.
فيما أوضح منتج الفيلم أحمد السبكي على إحدى الفضائيات المصرية، أن الهجوم المبكّر على الفيلم وفي مراحل سابقة منذ الإعلان عنه إنما يعزى بسبب أن مؤلفه هو الكاتب إبراهيم عيسى، لافتاً بالقول: “أنا عاوز اسأل سؤال لو حد تاني كان كاتب الفيلم غير إبراهيم عيسى، هل الفيلم كان هيتعرض للهجوم؟، اللي بيهاجموا دول معروفين ومش هنقول أساميهم، هما مش بيهاجموا الفيلم بيهاجموا المؤلف نفسه، والعمل لا يهاجم الدين الإسلامي، طيب يا جماعة ما تشوفوا الفيلم الأول وبعدين هاجموه”.
كما انخرط أستاذ الفقه المقارن أحمد كريمة، المعروف بـ سوابقه الهجومية على إبراهيم عيسى في الهجوم على الفيلم، وقال عبر إحدى القنوات الفضائية : “الإلحاد هو جحود المخلوق لخالقه عز وجل، كما أنه جريمة منكرة تتصادم مع الفطرة الإنسانية وتناقِض الشرائع السماوية. أسباب جريمة الإلحاد التي تضمنتها قصة الفيلم، هو تصدر دعاة خوارج جهلاء قال عنهم أبو حامد الغزالي إن تسعة أعشار جريمة الإلحاد يتحملها دعاة فشلة، بغضوا الخالق إلى الخلق، ولذلك يجب التنبيه الاقتصاد في الطاعة”.
وقال كريمة: “الدعاة الجهلة مثل المتسلفة أو الدواعش يتحملون جريمة كره البعض للتدين، وقياس الدين على تصرفاتهم وأخلاقهم وعلى سلوكياتهم من التكفير والتشريط والجباه العابسة والألفاظ النابية وذلك موجود عند السلفية والدواعش ومن على شاكلتهم”.
فكرة فيلم “الملحد”
بحسب ما هو متوفر من معلومات رئيسية عن الفيلم، طرحها المنتج والمؤلف في الصحافة والإعلام، تتمثل في أن الفيلم لا يتعاطى مع الإلحاد على أنه جريمة، أو وصمة عار، أو حتى انحراف فكري وسلوكي، بل هو مجرد خيار فكري وقناعة فلسفية وإيمانية تخضع للعقل والإرادة الإنسانية وليس إلى أي تصنيف أخلاقي، ومن ثم، عمد الفيلم من خلال البطل “يحيى” الطبيب المتخرج حديثاً إلى إظهار موقفه أو جهره بالإلحاد على اعتبارها صيحة أو صرخة تمرّد ضد بيئته الأسرية التي ترمز للمجتمع وأفراده المتشددين، ممثلاً في والده المنتمي لإحدى الجماعات الإسلاموية.
هذا الأب الذي سيصل به الحال إلى محاولة فرض عقوبة شرعية على ابنه بالقتل، وتطبيق “حدّ الرّد” بحق ابنه.
الفيلم مصنّفٌ من الرقابة على أنه للكبار فقط +16. وهو من إخراج محمد العدل وبطولة أحمد حاتم ومحمود حميدة وحسين فهمي وشيرين رضا وصابرين وتارا عماد ونجلاء بدر.
وبعيداً عن الأفكار المسبقة والهجوم الجاهز والعِداء التلقائي المباشر لأغراض مشبوهة تعادي الفن والرؤى المنفتحة للحياة، فالفيلم يفترض ضرورة القبول بعوالم رحبة لا تعلق فيها المشانق للإنسان لأنه مسّ ثوابت أو خرق التابوهات المصنوعة في الدين والسياسة والمجتمع.
- فصائل المعارضة تواصل التقدم في حماة وحلب.. ماذا أحرزت؟
- فرح في الشمال وحذر في الوسط: كيف يرى السوريون تغير الخارطة العسكرية؟
- بعد نفي “الحشد الشعبي” الدخول لسوريا.. بيان غربي لـ”خفض التصعيد”
- التطورات في شمالي سوريا: كيف انعكست على المحافظات الأخرى؟
- دبلوماسي تركي: العملية العسكرية تمهد لحل سياسي.. هل يستجيب الأسد؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.