منذ مقتل إسماعيل هنية في طهران، اتسعت منصات التواصل الاجتماعي للعديد من المواقف المتباينة، وقد سادت أجواء من التعاطف والتعزية، فضلاً عن محاولات تضخيم البطولة في شخص القيادي الحمساوي، لا لشيء سوى لكونه اغتيل من قبل إسرائيل التي تمثل سردية العداء ضدها بوصلة سياسية لتحديد المواقف. 

هذه البوصلة لطالما استغلها قوى الإسلام السياسي. ورغم تحالفات عديدة جمعت إسرائيل وقوى الإسلام السياسي تحديداً “حماس”، والتي جاء تشكيلها ضمن إطار هيكلي تنظيمي وسياسي لتقويض السلطة الفلسطينية وحركة “فتح”، إلا أن المقابل الذي حظى به القادة الإسلامويون وهو حكم قطاع غزة، تحول إلى ارتكاز تهديد استراتيجي، إقليمياً ودولياً.

وبحسب صحيفة “نيويورك تايمز”، بخاصة أحد أعدادها ويرجع لمطلع ثمانينات القرن الماضي، فقد وثق مراسلها ومدير مكتبها بالقدس ديفيد ك شيبلر ما كشفه حاكم غزة وقتذاك يتسحاق سيغيف، بأنه كان هناك ثمة تعاون كبير بين إسرائيل و”الإخوان” بتسميتها قبل أن تصبح “حماس” الفرع التنظيمي المحلي للجماعة الأم للإسلام السياسي بالمنطقة، بل توافرت لهم مخصصات مالية وميزانية خاصة لدعم المساجد بهدف تقويض وضرب “منظمة التحرير الفلسطينية”. 

يكرر التاريخ نفسه مع اغتيال هنية الذي تحاول أطراف يسارية! صناعة بطل قومي منه على غرار ما حدث مع حسن نصر الله لا سيما بعد حرب تموز 2006. في حين أن كل منهما (هنية ونصر الله) ينتمي إلى إطار شمولي آخر هو الأممية الإسلامية و”أستاذية” العالم، ويسخر الاثنان من الأرصدة المجانية التي تتحول إلى فائض قوة يتوجه ضدهم في لحظات التمكين.

والشاهد في ذلك أن الحركة الإسلاموية لضمان صعودها السياسي وتمكينها في الحكم، لم تجد أي غضاضة في التعاطي مع الطرف الذي تعتبره “عدواً” أو “محتلاً” والتحالف معه لضرب عدو رئيسي لا ينافسها في شي سوى بالسلطة، في حين أن الطرف التي تزعم أنها تسعى لتحرير الأرض منه، لا تقف منه موقف العداء أو الخصومة كما هو الحال مع “المنظمة الفلسطينية”. وفي عبارة واحدة، فإن الحركة التي زعم البعض بفعل الدعاية السياسية والأيديولوجية لمحور ما يعرف بـ”المقاومة” ومنهم قطاع من اليسار القومي والماركسي أنها مثلها مثل حركات التحرر العالمي، لا تعدو كونها أكثر من جماعة انتهازية تفتش عن الثروة والنفوذ.

أدوار هنية بـ “حماس”

بعيداً عن الوجه السياسي والدبلوماسي الذي صنعته أطراف إقليمية عن هنية الذي ظل في منفاه الاختياري بالعاصمة القطرية الدوحة، إلى أن تم اغتياله في طهران، فقد لعب عدة أدوار في إطار تمكين الحركة بقطاع غزة، لا سيما مع انقلاب حزيران/ يونيو 2007، والذي يوصف بـ”الانقلاب الأسود”، وتورطت فيه الحركة بعمليات عنف وحشية، منها الاغتيالات، كما ساهمت في تأزيم الوضع الفلسطيني، عبر زرع الشقاق والفرقة والانقسام. 

وتقول “هيومان رايتس ووتش” في تقرير سابق، إن قوات “حماس الأمنية استخدمت العنف ضد أعضاء من حركة “فتح”، خاصة من كانوا يعملون في الأجهزة الأمنية التي تديرها “فتح” في إطار السلطة الفلسطينية. 

ومما يثير القلق على الأخص تفشي ممارسة تشويه الأشخاص بإطلاق الرصاص على أرجلهم، وهو الأسلوب الذي لجأت إليه “حماس” في يونيو/حزيران 2007، حين استولت على السلطة في غزة من “فتح”. وطبقاً للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، وهي المنظمة الحقوقية الرقابية في السلطة الفلسطينية، فقد تعمد رجال مسلحون مقنعون غير معروفي الهوية إطلاق النار على أرجل 49 شخصاً على الأقل بين 28 ديسمبر/كانون الأول 2008 و31 يناير/كانون الثاني 2009.

هـ. س.، كانت أسرته نشطة في “كتائب شهداء الأقصى” التابعة لـ”فتح”، قال إنه تعرض للضرب المبرح في يونيو/حزيران 2007 على يد أعضاء من “كتائب القسام” في خان يونس. وحتى سبتمبر/أيلول 2007 كانت ساقه ما زالت داخل جبيرة. © فريد آبراهامز/هيومن رايتس ووتش 2007

وتردف: “ومنذ يونيو/حزيران 2007، حين استولت حماس بالقوة على السلطة في غزة، قامت بممارسة سياسة الاعتقال التعسفي بحق خصومها السياسيين، وتعذيب المحتجزين وقامت بتقييد حرية التعبير وحرية التجمع وانتهاك حق المحاكمة العادلة المنصوص عليه في القانون الفلسطيني. وكان الضحايا في الأغلب هم من قادة وناشطي ومناصري حركة فتح خاصة أولئك الذين يشتبه بعلاقتهم بالأجهزة الأمنية التي سعت لتقويض سلطة حماس بعد انتصارها في انتخابات يناير/كانون الثاني 2006”.

هنية كان أحد مهندسي هذا الانقلاب بل ساهم في إنجاحه، وقد كان وقتذاك رئيساً للحكومة الفلسطينية، وبعد إعلان الحكم قسراً، لم تتوان عن تنفيذ جرائمها. ووفق التقارير الحقوقية التي وثقت ميدانياً مجريات ما حدث في تلك الفترة، فإن ميلشيات “حماس” قامت بتنكيس الأعلام الفلسطينية وتنصيب أعلام الحركة الإسلاموية، بينما جرى الاعتداء على أعضاء والمنتسبين لـ”فتح” فضلاً عن اعتداءات مماثلة طاولت المدنيين، ناهيك عن سرقة ونهب وتخريب العديد من المؤسسات. وقد قضى في هذا الاقتتال من 700 شخص.

وتشير وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية “وفا” إلى أنه “من الأحداث المفزعة التي ارتكبتها حماس، كان عناصرها عندما يختطفون أبناء حركة فتح يقومون بإطلاق النار من نقطة الصفر من خلف ركبة المصاب مع ثني قدمه للخلف، حتى تطير العظمة الأمامية للركبة ما يؤدي إلى ترك المصاب في إعاقة مدى الحياة. استخدمت حماس في جرائمها بحق أبناء شعبنا في قطاع غزة، الرشاشات الثقيلة، والقذائف الصاروخية، والقنابل، كما قتلت المئات تحت التعذيب الوحشي، فيما قتلت عائلات بأكملها بعد محاصرة منازلها وإمطارها بالصواريخ، وكأنها تقاتل شعباً غير شعبها! استشهد عدد كبير من أبناء حركة فتح والأجهزة الأمنية وحرقت مقراتهم ومنازلهم وهدمت فوق رؤوسهم ورؤوس عائلاتهم، وهم يدافعون عن الحركة وشرعيتها”.

وتقول: “يعيش أبناء قطاع غزة منذ الانقلاب الدموي في نكبات متجددة، فشعبنا هناك يقبع تحت حصار إسرائيلي مشدد، إضافة إلى حالة الظلم والقمع ومصادرة الحريات، والاعتقالات والاستدعاءات المستمرة”.

إذاً، يحفل سجل الحركة بهذا التاريخ الدموي العنيف الذي لم يكن إسماعيل هنية منفصلاً عنه، بل أحد صناعه والمشاركين فيه والمتورطين في فصوله وأحداثه وملابساته. 

“صناعة بطل قومي”

ولهذا، يكرر التاريخ نفسه مع اغتياله الذي تحاول أطراف يسارية! صناعة بطل قومي منه على غرار ما حدث مع حسن نصر الله لا سيما بعد حرب تموز 2006. في حين أن كل منهما (هنية ونصر الله) ينتمي إلى إطار شمولي آخر هو الأممية الإسلامية و”أستاذية” العالم، ويسخر الاثنان من الأرصدة المجانية التي تتحول إلى فائض قوة يتوجه ضدهم في لحظات التمكين، كما حدث ضد مصر بعد أحداث “الربيع العربي”، وتأييد “الإخوان” ضد مؤسسات الدولة والقوى الوطنية والجيش، للدرجة التي تسببت في صدام عنيف بين الطرفين، ثم ما لبثت “حماس” بعد إخفاق حكم
“الإخوان” أن أعلنت عن استقلالية الحركة وعدم انتمائها الإخواني لتخفف من أي حمولات أيديولوجية تعيق تواصلها مع القاهرة أو أطراف إقليمية أخرى. 

سياسة زئبقية مراوغة تتنقل بين المصالح بخفة وانتهازية. وتبعاً للتوترات التي انبعثت بين الحركة ومصر في فترة حكم “الإخوان” وما بعد عام 2011، اتجهت نحو التهدئة البراغماتية وقامت بإصدار وثيقة جديدة نفت فيها أي صلة بجماعة “الإخوان” المصنفة على قوائم الإرهاب في مصر وعدد من البلدان العربية، بخلاف الوثيقة القديمة التي تعددت فيها الإشارة للجماعة المحظورة. ولهذا، لم يكن غريباً أن يؤيد قادة حماس “جرائم الحرب” التركية في عفرين. وقد عدّ خالد مشعل المتوقع أن يخلف هنية في قيادة الحركة “النصر في عفرين نموذج للإرادة التركية”.

وفي المحصلة، فإن “حماس” تتنقل بين الانتماء للإخوان ثم توسيع دائرة التحالف والتبعية إلى إيران والانخراط في صفوف “محور المقاومة”، بما يعكس قدراتها على تبديل المواقع لتحقيق النتائج التي تمكنها من الاستفادة السياسية والإقليمية.

وهذا الالتحاق في صفوف الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي له اعتبار يتمثل في احتماءها الإقليمي بالمحور السني الممثل في قطر وتركيا، أو المحور الشيعي الذي يقوده “الولي الفقيه” في طهران، وفي ظل الحالة الرعائية الإقليمية تتموضع الحركة في إطار دور وظيفي محدود سواء على المستوى العملياتي والميداني مثلما جرى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، واندلاع ما عرف بـ”طوفان الأقصى”، أو الاصطفاف الشعاراتي والخطابي مع سياسات هذه الدول، كما حدث في “عفرين المحتلة من تركيا”، أو دعم حركات الإسلام السياسي التي قفزت على الحكم في تونس ومصر والمغرب، ودعم جبهات الإسناد التابعة لإيران في سوريا ولبنان واليمن.

“المعارضة السورية” تعزي!

وعليه، كان طبيعياً أن يعزي “المجلس الإسلامي السوري”، مقره إسطنبول، الذي شرعن كافة الاعتداءات التركية على الشمال السوري بفتاوى دينية تمجد القتال على أساس طائفي وقومي حتى لو وصل لإبادة عرقية ضد الأكراد، “حماس” إثر مقتل إسماعيل هنية.

وقال: “يعزي المجلس الأمة الإسلامية والشعبين السوري والفلسطيني باستشهاد القائد المجاهد إسماعيل هنية، ونسأل الله أن يعوض الأمة في فقده خيراً، وأن ينتقم من الغادرين به والقاتلين له”. 

وتابع في بيان رسمي: “نسأله سبحانه أن يتقبله عنده في الشهداء الأبرار، وأن يعجل بالنصر والفرج على أهلنا في فلسطين وفي الشام، وأن ينصرهم على كل من عاداهم واحتل أرضهم”.

الأمر ذاته، فعلته فصائل مسلحة تابعة لتنظيمات إسلاموية إرهابية في سوريا، مثل من جانبها، منها “حكومة الإنقاذ” التابعة لـ”هيئة تحرير الشام” في إدلب، شمال غربي سوريا، وحركة “أحرار الشام” التي جاء في بيانها: “نعزي قيادة حركة حماس وجنودها وأهلنا الصامدين في فلسطين وأمتنا الإسلامية جمعاء باستشهاد رئيس المكتب السياسي الأخ إسماعيل هنية بعد حياة حافلة بالتضحيات في نفسه وأهله نصرة لقضية المسلمين في فلسطين”. 

وأردفت: “سائلين الله أن يتقبله في الشهداء ويتجاوز عنه الزلات، ويخزي قاتليه من الصهاينة المجرمين ومن تمالأ عليه وأعان على اغتياله، ونسأله أن يخلف على أمتنا من يتابع الطريق ويحمل الراية”.

رياض حجاب يلتقي القيادي الحمساوي خالد مشعل، خلال تقديم واجب العزاء بمقتل إسماعيل هنية- “تواصل اجتماعي”

ومع ترتيب حضور العزاء تظهر ارتباطات “حماس” الخارجية، سواء بقوى أو شخصيات أو دول؛ فرئيس الوزراء السوري المنشق عن حكومة دمشق، رياض حجاب، والمعروف بصلاته القطرية، التقى القيادي الحمساوي خالد مشعل، خلال تقديم واجب العزاء بمقتل هنية. ورافق حجاب في تقديم التعازي وزير الزراعة المنشق، أسعد مصطفى وسفير الائتلاف في قطر بلال محمد تركية ووفد من السوريين المقيمين في العاصمة القطرية.

وتداول ناشطون صوراً تظهر رياض حجاب خلال وجوده في المكان المخصص في قطر لتقديم العزاء باغتيال هنية، ولقائه مع مشعل. وهو ما أثار حالة من الانتقاد بين الأوساط السورية لحجاب، على اعتبار أن “حماس” جزء من “محور المقاومة” بقيادة إيران، التي ساندت الرئيس السوري بشار الأسد في حربه ضد مطالب وثورة الشعب السوري قبل نحو 13 عاماً، وبالتالي لا يجب على من يعتبر نفسه من “المعارضة السورية” أن يكون على تواصل مع أعداء الشعب السوري!. غير أن هذا الاصطفاف بالعزاء يكشف عن عمق الارتباطات المصالحية التي تجمع “حماس” بوكلاء قطر وتركيا وإيران.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة