للكثير من متابعي أحداث الشرق الأوسط، لم يكن الظهور الأخير لحسن نصرالله، الأمين العام لـ”حزب الله” اللبناني ذا معنى، في تأبين رجل الحزب الأول عسكريا، فؤاد شكر، الذي قُتل بغارة إسرائيلية في الضاحية الجنوبية، معقل “حزب الله”، لا سيما وأن أحاديثه وخطاباته منذ حرب تموز/يوليو 2006 تحولت إلى استعراض لغوي وتحليل إعلامي ونكات في بعض الأحيان.
اللافت لنا نحن السوريون، هي نبرة الاستهزاء التي ذكرها نصرالله في خطابه، والتي توحي بأن المقصود بها هي المنظومة الحاكمة في سوريا، أي الرئيس السوري بشار الأسد وحاشيته، حيث قال ردّا على مقتل فؤاد شكر، “لن نقول نحتفظ بحقّ الرد في الزمان والمكان المناسبين، بل نقول سنردّ حتمًا وبيننا الأيام والليالي والميدان”، وهي قطعا تهكّم واضح على بيانات الدولة السورية التي دائما ما تردّ بعبارة “نحتفظ بحقّ الرد في الزمان والمكان المناسبين” على أي قصف إسرائيلي داخل سوريا.
ليس ذلك فحسب، بل إن نصرالله الذي أعفى الأسد ودمشق في أول خطاب له بعد أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر بين “حماس” وإسرائيل، من المشاركة في ما أسماه عملية “إسناد غزة”، وقدم له عذرا متقناً، بأنه حاليا في “مرحلة محاربة الإرهاب”، هذه المرة شطب سوريا من “محور المقاومة”، ففي معرض حديثه أن الحرب دخلت مرحلة جديدة، قال: “لم نتفاجأ ولن نتفاجأ بأي ثمن دُفع ندفعه في هذه المعركة. لم نعد نتحدث عن جبهات دعم، نحن في معركة كبيرة متعددة الجبهات: غزة، جنوب لبنان، اليمن، العراق. وإيران تدخل مرحلة جديدة”.
هذا التصعيد الخفي الجلي، يضعنا أمام حقيقة لا غبار عليها، وهي أن هناك انسحاب رسمي للأسد عن حلفائه الذين ساهموا في بقائه على كرسي الحكم طيلة العقد الفائت، وأن الأنباء التي تتحدث عن الخيانة التي تعرضت لها إيران، تقف خلفها منظومة الحُكم الحالية في سوريا، فهل نحن أمام صراع ناعم يخوضه الأسد قوامه شراء الولاءات والنفوذ السياسيّ والتخلي عن الحلفاء والميليشيات؟
الانسحاب الرسمي
جميع ما سنورده هنا هو تحليل لمجموعة من المعطيات حدثت خلال الأوقات السابقة تم جمعها، ولا يعني أن نتائج هذه المعطيات ليست حقيقية كونها غير صادرة من مصدر رسمي، ولكنها قد تكون تحليلا مهمّا لقراءة واقع موجود نعاصره، وربما تتكشف أساريره مستقبلا.
نبدأ من آخر الأحداث، حيث يتبين أن دمشق فعليا باتت تنأى بنفسها عمّا يحدث لما تسميه إيران “محور المقاومة”، حيث كان بيان الخارجية السورية عن مقتل فؤاد شكر، عبارة عن إدانة لقصف مسيرة إسرائيلية تحمل ثلاث صواريخ لمبنى سكني في الضاحية الجنوبية، دون ورود تعزية أو تأبين مباشر لـ”حزب الله” أو قتيله الذي ساعد الجيش السوري في العديد من العمليات العسكرية، منها اقتحام مدينة القصير السورية وبعض المعارك في ريف دمشق.
وبالمثل، وهنا الحديث عن بيان دمشق حول مقتل رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، إسماعيل هنية، الذي مات في عملية استهداف غير معروفة بعد ساعات من مقتل شكر، حيث أدانت العملية في طهران وأعربت عن تضامنها مع النظام الإيراني، دون أية إشارة لـ”حماس” أو تعزية بوفاة هنية.
ما يثير الدهشة ليس صيغة البيانات السورية فحسب، بل تمرير أوامر من قادة الجيش السوري، وتحديدا من نائب رئيس هيئة الأركان السورية، اللواء مفيد يونس، لكل القطعات العسكرية والمواقع المتمركزة قرب الحدود مع الجولان السوري، بمنع استخدام أي من المواقع العسكرية لشنّ هجمات صاروخية، أو القيام بأي تحركات باتجاه الجولان، بالإضافة إلى تحييدها عن أي مواجهات عسكرية محتملة، وفق ما أوردته صحيفة “الشرق الأوسط”.
بل أيضا وقبل هذه الإجراءات، أجرى يونس خلال الأسبوع الفائت، جولة في الكتائب العسكرية المحيطة بمنطقة جبل المانع بجنوب دمشق، وأمر بإفراغ جميع المستودعات من أسلحة “حزب الله”، حتى لا يتم استهدافها من قبل إسرائيل، ونقلها إلى قواعد الحزب في جبال القلمون أو جنوب لبنان.
ما وصِف سابقا بالصمت السوري من رأس الهرم الأسد، ظهر هذه المرة علنا برفض دمشق للانخراط في ما تسمّيه إيران ووكلائها “وحدة الساحات”، ويبدو أنه أزعج نصرالله وحلفائه، بل وأكد لهم ما خلُصت إليه تحقيقاتهم، بوقوف دمشق وراء تسريب معلومات تواجد الخبراء العسكريين لـ”حزب الله” وطهران في سوريا.
الصراع الناعم
بالعودة إلى الوراء، وتحديدا إلى ما قبل استهداف مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، لم يصدر بشار الأسد أي خطاب عمّا يحدث في غزة كما فعل أشياعه – حسن نصر الله وعبد الملك الحوثي وقادة الميليشيات العراقية وأبرزهم الحشد الشعبي والمرشد الأعلى الإيراني ورئيس إيران الأسبق إبراهيم رئيسي- وإذا ما كان موقف سوريا مع “حماس” في قتال إسرائيل، وما إذا كانت ستنخرط في عملية إسناد “المقاومة”.
بل إن الأسد في أول حضور دولي له خلال القمّة العربية في جدّه وهي أول قمّة يحضرها الأسد بعد 12 عام من العزلة وتجميد مقعد دمشق في الجامعة العربية، أثار جدلا واسعا، حيث قال: إن “غزة ليست القضية وإنما فلسطين”، وهنا كانت الدلالة على أن الأسد لا يزال يكن الضغينة لـ”حماس” رغم المصالحة التي أجرتها إيران بينهما في تشرين الأول/أكتوبر 2022 وأنه قَبِل بذلك رغما عن أنفه لأجندة في نفسه – الأسد طرد “حماس” في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، بعد إعلان عن موقفها الصريح مما يجري من قتلٍ في سوريا.
هنا فُهم موقف الأسد أنه خوفٌ من الرسالة التي تلقاها من تل أبيب عبر الإمارات، حيث تلقى الرئيس السوري في تشرين الأول/أكتوبر 2023، تحذيرا واضحا من الإسرائيليين، بأنه “إذا ما استُخدمت سوريا ضدهم، فسيدمّرون نظامه”، وفقا لموقع “أكسيوس” ووكالة الأنباء الفرنسية.
فعلا، كيف لا يكون هذا موقف الأسد، الذي جلب روسيا وإيران وميليشياتها حتى “الحوثيين” من اليمن من أجل البقاء على رأس هرم السلطة، ورهن كل اقتصاد البلاد وقواعده العسكرية لطهران وموسكو، وبدأ خلال 2023 يعود تدريجيا إلى المجتمع الدولي وقبلت بعض الدول العربية الجلوس وإعادة التواصل معه بعد عزلة امتدت لعقد ونيف، وفي طرفة عين تأتي “حماس” لتنسف كل جهوده من أجل صفقة رهائن.
ومع امتداد الحرب بين “حماس” وإسرائيل ودخول “حزب الله” والميليشيات العراقية على خط الحرب، يبدو أن الأسد ضاق بهم ذرعا، وفجأة بدأت إسرائيل باقتناص أهم قادة “الحرس الثوري” الإيراني و”حزب الله” في سوريا ولبنان، وكان أقوى هذه الاستهدافات هي ما حدث في القنصلية الإيرانية بدمشق، في نيسان/أبريل 2024.
هذا الاستهداف، الذي قُتل فيه أعتى جنرالات إيران، محمد رضا زاهدي، وثلّة من قادة “الحرس الثوري” الإيراني لم يمرّ مرور الكرام، خصوصا أنه جاء بعد مقتل الرجل الأول لإيراني بسفارتها في دمشق، رضي موسوي، وتبعه عدة اغتيالات لـ خبراء إيرانيين في مطاري دمشق وحلب.
بل إن “حزب الله” ذاته، استغرب مقامرة الأسد في الرهان على إسرائيل، حيث عدة تقارير وصلت إلى مجلس “الجهاد” في “حزب الله”، أفادت بأن بعض قادة الجيش السوري كانوا وراء تقديم معلومات وإحداثيات تخصّ مواقع “حزب الله” في سوريا ولبنان، وعلى إثرها قامت إسرائيل باستهدافها.
هذا التعاون بين الأسد وتل أبيب ليس بجديد، ففي عام 2014، ذكر موقع “روترنت” الإسرائيلي، أن “الاستخبارات السورية تزوّد إسرائيل بمعلومات عن نُظُم صواريخ حماس، في مقابل معلومات عن تحركات المسلحين المعارضين لدمشق في مدينتي درعا والقنيطرة”.
الرّد بالمثل
على مدى الأشهر السابقة، طهران لم تخفِ اتهامها لدمشق بأن الخروقات والتسريبات الأمنية التي أدت إلى اغتيال قادة “الحرس الثوري” في سوريا وكذلك بعض كوادر “حزب الله”، تحظى بغطاء سياسي وأمني على مستوى عالٍ في الجيش السوري.
وفي تسريب دراماتيكي من قلب المؤسسة الأمنية الإيرانية، أفاد مصدر رفيع المستوى في “المجلس الأعلى للأمن القومي” الإيراني بأن الأجهزة الاستخباراتية قدّمت تقريراً مثيراً للقلق. هذا التقرير، الذي يبدو وكأنه مستوحى من رواية تجسس، يشير إلى احتمال تورّط السلطات السورية في سلسلة من عمليات الاغتيال التي استهدفت كبار القادة الإيرانيين على الأراضي السورية.
كشف التقرير عن تصدعات في العلاقات الإيرانية-السورية، حيث هناك خلافات حادة تعصف بتحالفٍ طال أمده بين دمشق وطهران. وأدى ذلك إلى تبادل دمشق وطهران الضغوط، مستخدمة الورقة الاقتصادية كسلاح في هذه المواجهة الصامتة. فمن جهة، لوّحت إيران بورقة الديون المستحقة، مطالبة الحكومة السورية بتسديد فواتير دعمها الطويل، وأخرى بضرورة تسليم الجواسيس الذين رفضت دمشق الاعتراف بهم وقالت إن التسريبات حصلت من داخل المنظومة الإيرانية.
أول ردّ رسمي وصريح لإيران و”حزب الله”، كان عبر استخبارات “فيلق القدس” التي اعتقلت شبكة من الضباط السوريين من بينهم العقيد جعفر الصالح من لجنة مكافحة الفساد، والعقيد منهل سليمان من “الحرس الجمهوري” والعميد ملهم الشبل.
ثم جاءت الضربة الأخرى، وهي استهداف المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية، لونا الشبل، وقتلها بحادث متعمّد على الطريق الرئيسي لمنطقة يعفور، وفق تحليل الباحث السوري، أيمن الزعبي.
ردّ دمشق عبر إسرائيل لم يغب طويلا، حيث جاء الانتقام على ذات الطريق الذي وقع فيه حادث لونا الشبل، فبعد إنهاء حياتها وفريقها ونشر أنه وراء التسريبات حول تحركات القيادات الإيرانية في سوريا، ضربت طائرة مسيرة سيارة قرب حاجز للفرقة الرابعة في منطقة جديدة يابوس بريف دمشق، وذلك أثناء مسيرها على طريق بيروت – يعفور، بالقرب من مفرق الصبورة.
الغارة أدت إلى احتراق السيارة بشكل كامل، ومقتل ثلاثة أشخاص كانوا بداخلها، السائق السوري والقيادي في “الحرس الثوري” الإيراني العميد علي أكبر سوهاني، والحاج أبو الفضل قرنبش، المرافق السابق للأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصرالله.
هذه الحادثة استلزمت ردّا قويا من “حزب الله”، حيث اقتنص رأس أبرز داعمي الحكومة السورية اقتصاديا وعسكريا حيث يعلم الحزب أن مثل هذه الضربة ستكون ضربة على الرأس لن تخرج منها دمشق متزنة، ففي حادث مشبوه قُتل محمد براء قاطرجي، أحد الأخوة قاطرجي والمسؤول عن نقل النفط من شرق سوريا وانزلاقه في أعمال وساطة ما بين الحكومة السورية وتنظيم “داعش”، وبالتعاون مع شقيقه حسام، قاما ببناء إمبراطورية تجارية مرتبطة بالنفط والخدمات اللوجستية والنقل والبناء.
الأسد يغادر “محور المقاومة” الإيراني
قطعاً، جميع الأحداث مترابطة بشكل أو بآخر، فحقيقة أن الأسد لا يريد خوض غمار حرب جديدة صحيح فعلا، لا سيما بعد عودته لركوب الطائرات وحضور المؤتمرات، وتنفّسه الصعداء من تتالي فتح السفارات وعودة سفراء الدول العربية ومؤخرا إيطاليا وربما تلحقها بعض البعثات الدبلوماسية الأوروبية والحديث عن مصالحة وشيكة مع تركيا.
تعليقا على مقال الصحفي الفلسطيني الذي يعيش في لندن ويكنّ الولاء التام لإيران و”محور المقاومة” ويعادي الغرب علناً من محل إقامته، والذي ذكر فيه أن الرّد على الاغتيالات الإسرائيليّة لهنية وشكر يُطبَخ على نار مُلتهبة، من قبل (إيران وحزب الله والميليشيات العراقية وجماعة الحوثي اليمنية والفصائل الفلسطينية في غزة والضفة الغربية)، ذكر أحد المتابعين لجريدة “الأيام” التي نشرت التقرير، امتعاضه من عدم ذكر سوريا.
وكتب المتابع الذي استخدم اسم “سمهري”، “كل الدلائل تشير إلى الضربة التي ستوجهها إيران إلى إسرائيل، وتتداول المناقشات اشتراك كل الساحات معاً لتكون الضربة موجعة حقاً، إيران وحزب الله والحوثي والعراق إضافة إلى القتال في غزة، لكنها تزعم أن روسيا منعت الأسد من الاشتراك، ولا ندري حقيقة هذا الأمر”.
وتابع “سمهري”: “لماذا لا يشارك الأسد لتبييض صفحته أمام العالم أجمع وكسب جزء من شرف التحرير ونفي تهمة الحياد عنه خوفاً من اجتياح إسرائيل للجولان ؟ لأن زحف مئتي ألف من الحشد الشعبي ومئتي ألف من القوات الإيرانية العاملة على الأرض السورية ومئة ألف من حزب الله على الجولان إضافة إلى جيشه مهما كان ضعيفاً سيغير ميزان المعركة”.
في ظل التطورات الإقليمية الأخيرة، لفت انتباه المراقبين وفق صحيفة “الشرق الأوسط”، صمت دمشق وعدم انخراطها في المواجهة الدائرة، حتى على مستوى التضامن الإعلامي والسياسي مع حلفائها. وتشير المصادر إلى أن “حزب الله” وإيران يتجنبان حالياً الدخول في جدال علني مع دمشق حول موقفها المتحفظ من الانضمام لجبهة دعم غزة، مفضلين إبقاء النقاش في إطار اللقاءات الخاصة بعيداً عن الأضواء.
وفي الوقت الذي تترقب فيه الأوساط السياسية أي تغيير محتمل في الموقف السوري الرسمي، ترى مصادر مقرّبة من “محور المقاومة” أن خصومهم يفسرون الحياد السوري على أنه محاولة من دمشق لإعادة ترميم علاقاتها مع المجتمع الدولي. ويُنظر إلى هذا التوجه على أنه خطوة نحو إعادة الاندماج في النظام العالمي تحت رعاية غربية-أميركية.
ويثير هذا الموقف تساؤلات حول أسباب عدم تضامن الأسد مع حلفائه في المحور، خاصة بعد اغتيال قيادات بارزة مثل فؤاد شكر وإسماعيل هنية. ويرجح بعض المحللين أن دمشق قد تكون محتفظة بموقفها السلبي تجاه حركة “حماس” على خلفية مواقفها السابقة خلال الأزمة السورية، مكتفية بتقديم دعم لوجستي محدود لـ”حزب الله”، مع الحفاظ على حالة من “ربط النزاع” مع إسرائيل، وبمعنى آخر بأن الأسد فعليا غادر “محور المقاومة” الإيراني.
- تحرير مختطفة إيزيدية عراقية في غزة بمشاركة أميركية: ما علاقة “حماس” وإسرائيل؟
- السوريون على مشارف انتكاسة غير مسبوقة.. الحكومة تناقش موازنة 2025؟
- لأول مرة.. قصف يستهدف قاعدة “حميميم” الروسيّة
- “اليد اليمنى للسنوار”.. إسرائيل تعلن قتل رئيس حكومة “حماس” بغزة
- “بتضَلّك حبيبي يا تراب الجنوب”.. رسائل مؤثرة من فايا يونان إلى لبنان
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.