في عرض دراماتيكي للضغط الدبلوماسي، يبدو أن دول الخليج مارست نفوذها على الولايات المتحدة، مستخدمة القضية المثيرة للجدل المتمثلة في “التطبيع” مع سوريا كورقة مساومة لها. حيث جاءت نقطة التحول مع لقاء وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، فخلال المناقشة المغلقة بين الطرفين، تم تحديد مصير “التطبيع” مع دمشق، وغالبا ما أصبح شأنا ثانويا بالنظر للاتفاقيات الموقّعة حديثا.

بعد البيان الذي أُعلن عنه اليوم الخميس في ختام زيارة بلينكن إلى السعودية التي بدأت الثلاثاء الفائت، يبدو أن دول “مجلس التعاون الخليجي” قد انحازت إلى “لجنة العلاقات الخارجية” التابعة لمجلس النواب الأميركي بصورة غير مباشرة، والذي تبني مشروع قانون “مناهضة التطبيع مع النظام السوري 2023”. ويضم التشريع الذي اقترحه “التحالف الأميركي من أجل سوريا”، مشاركة عشر منظمات أميركية متخصصة في الشؤون السورية، تعمل جميعها بنشاط داخل أروقة السلطة في واشنطن العاصمة.

بينما تتشكل رقعة الشطرنج الجيوسياسية، أكد بلينكن أمام وزراء خليجيين في الرياض الأربعاء الفائت، أن بلاده لا تزال ملتزمة تجاه شركائها في منطقة الخليج، في وقت تشهد التحالفات الإقليمية تغييرات سريعة، ولكن ما أهمية الاتفاق السعودي الأميركي بالنسبة لـ “التطبيع” مع سوريا، وما هي العوامل الرئيسية التي أدت إلى طي صفحة إعادة العلاقات الدبلوماسية مع دمشق، وكيف سيشكل اللقاء بين بلينكن وبن سلمان، الخطاب العام مع دمشق.

التكيف مع أسلوب جديد

بالعودة إلى القانون الأميركي والذي شكّل حجر الأساس في طي صفحة “التطبيع” مع سوريا، فإن هذا القانون المقترح حديثا يهدف إلى منع الإدارات الأميركية من الاعتراف بأي حكومة يقودها الرئيس السوري بشار الأسد، مما يمثل موقفا ثابتا ضد دمشق. 

وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ونظرائه في دول مجلس التعاون الخليجي - إنترنت
وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ونظرائه في دول مجلس التعاون الخليجي – إنترنت

علاوة على ذلك، يسعى القانون لتضخيم العقوبات الحالية المفروضة على الحكومة السورية من خلال قانون “قيصر” الأميركي، مما يؤكد الجهود المستمرة لعزل إدارة الأسد، وعليه فإن الشراكة السعودية – الأميركية الممتدة منذ 80 عاما تفرض على الرياض الالتزام بالسياسات الأميركية.

ما يدلل على ذلك، هو بيان “مجلس دول التعاون الخليجي” في ختام زيارة بلينكن، حيث ذكر أن الجانبين أكدا على التزامهم بالتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية بما يحفظ وحدة سوريا وسيادتها، ويلبي تطلعات شعبها، ويتوافق مع القانون الإنساني الدولي، بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. 

كذلك لفت البيان إلى الجهود العربية لحل الأزمة بشكل “خطوة مقابل خطوة”، بما يتوافق مع قرار مجلس الأمن 2254، على النحو المتفق عليه خلال اجتماع عمان التشاوري لفريق الاتصال الوزاري العربي المعني بسوريا، وهو المبدأ الذي نفاه وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، في تصريحات إعلامية بعد عقد “القمة العربية” التي حضرها الأسد في 29 أيار/مايو الفائت.

وفي إطار مختلف، أكد بيان وزراء خارجية دول “مجلس التعاون” والولايات المتحدة الأميركية، دعمهم للقوات الأميركية و”قوات التحالف الدولي” التي تعمل على تحقيق الهزيمة لـ “داعش” في سوريا، وأدانوا جميع الأعمال التي تهدد سلامة وأمن هذه القوات، وهذا التّبني يناقض ما تُصرّح به دمشق، بضرورة إنهاء الوجود العسكري غير الشرعي على الأراضي السورية ومن ضمنها القوات الأميركية، راهنة ذلك بعدم الوصول إلى نتيجة في الاتفاقيات معها.

الجانبان شددا أيضا في البيان على ضرورة تهيئة الظروف المناسبة لعودة آمنة وكريمة وطوعية للاجئين والنازحين داخليا، لكن البيان ربط تنفيذ ذلك بما يتفق مع معايير “المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين” والتي ذكرت في دراستها أن 13 بالمئة فقط من اللاجئين السوريين يريدون العودة لبلادهم. لذلك أضاف البيان أهمية تقديم الدعم اللازم للاجئين السوريين والدول التي تستضيفهم. 

في سياق جديد، لفت البيان إلى الدعوة لوقف إطلاق النار، كما رحب بدعوة الأمين العام للأمم المتحدة لتجديد تفويض مجلس الأمن لمدة 12 شهرا لتشغيل الآلية العابرة للحدود، وأعربوا عن دعمهم لإدراج جميع المعابر الحدودية المفتوحة حاليا “باب الهوى” و”باب السلام” و”الراعي” في قرار لمجلس الأمن سيصدر في تموز/يوليو المقبل.

وفي تطور جديد لم يناقش خلال دعوة دمشق لحضور الاجتماعات العربية، أعاد وزراء الدول الخليجية والوزير الأميركي فتح موضوع المحتجزين تعسفيا والمفقودين، والتأكيد على التنسيق مع كافة الأطراف المعنية بحسب قرار مجلس الأمن 2254.

واشنطن لا تزال “منخرطة بعمق”

الثمن الذي سيدفع مقابل “تطبيع” العلاقات مع سوريا، ومن الذي سيستفيد في النهاية من هذه الشبكة المعقدة من المناورات السياسية، ظهرت ملامحه بحسب حديث الباحث السياسي وليد طوقان، لـ”الحل نت”، بعد زيارة بلينكن للسعودية، إذ كشف البيان أن عودة دمشق للجامعة العربية لم تكن إلا ورقة مساومة، لا سيما وأن الغرب ينظر لإيران والحكومة السورية على أنهما منبوذان دوليا.

وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ونظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان - إنترنت
وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ونظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان – إنترنت

الاتفاق السعودي الأميركي بشأن “التطبيع” مع سوريا له أهمية كبيرة لأنه يمثل خطوة محورية في تحديد المسار الدبلوماسي للبلدين مع مجموعة دول الشرق الأوسط، بحسب حديث طوقان. لأنه يحدد نغمة العلاقات والتعاون في المستقبل، مما يؤثر على الديناميكيات الإقليمية ويُحتمل أن يؤثر على المشهد في الشرق الأوسط عامة.

طوقان أكد أن قضية “التطبيع” العربي مع سوريا بقيادة السعودية استُخدمت كنقطة ابتزاز من قبل دول الخليج ضد الولايات المتحدة. حيث استفادت دول الخليج من نفوذها للضغط على الولايات المتحدة للتوافق على أمور دولية كبرى مقابل العدول عن موقفها بشأن سوريا ومعارضة أي اعتراف أو مشاركة مع الحكومة السورية.

طبقا لما يراه طوقان، فإن إغلاق صفحة عودة العلاقات مع دمشق بعد البيان الخليجي الأميركي، يُعزى إلى الطبيعة الحساسة للمناقشات والآثار المحتملة لها على الأجندة الجيوسياسية الخليجية. ومن المرجح أن القرار العربي حول سوريا واجه ضغوطا وقيودا أدت إلى إغلاق مساره لأنه يمكن أن يضر بمصالح الطرفين.

اللقاء بين بلينكن وبن سلمان، سيشكل بلا شك بحسب ما يعتقد الباحث السياسي، الخطاب المحيط بـ “التطبيع” مع سوريا في كل من الولايات المتحدة ومنطقة الخليج. ومن المتوقع أن يعزز موقف دول الخليج في التوافق مع موقف الولايات المتحدة ضد الحكومة السورية، وما نتج عن هذا الاجتماع يؤكد الروايات والسياسات التي تتبناها واشنطن.

ملامح جديدة بعد محاولة استقطاب دمشق

يبدو أن الدول العربية التي تسعى لإقامة علاقات مع سوريا لم تحقق أي مكاسب بعد “تطبيع” العلاقات، وخاصة بعد الانتخابات الرئاسية في تركيا التي عقّدت الموقف. فالواضح أن أنقرة مهتمة بمصالحها الخاصة تاركة المفاوضات لعودة علاقتها مع سوريا على الهامش، ما يشير إلى أن حفلة الانتصارات السريعة حول إعادة دمشق للجامعة العربية التي قد انتهت بنتائج عكسية.

الرئيس السوري بشار الأسد ووزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان -إنترنت
الرئيس السوري بشار الأسد ووزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان -إنترنت

للاتفاق السعودي الأميركي وآفاق “التطبيع” مع سوريا تداعيات كبيرة على منطقة الشرق الأوسط. تشير الاتفاقية إلى توطيد قوة ونفوذ البلدين، مما قد يؤدي إلى زيادة عزلة دمشق، خصوصا أن إيران لا تزال تفاقم التوترات الإقليمية، مما أثّر على البلدان المجاورة. 

بالإضافة إلى ذلك، يرى طوقان أن عودة التحالفات الإقليمية على ما كانت عليه سابقا، لها تداعيات محتملة على الديناميكيات الحالية في “مجلس التعاون الخليجي” وتحالفات الشرق الأوسط، وهذا بدوره سيبقي الخليج والدول العربية الأخرى توسع دائرة الرقابة على دمشق لتنفيذ اتفاق اجتماع عمّان إذا أردت استكمال الانخراط مع المنظومة العربية.

في 19 مايو/أيار الفائت، شارك الأسد في قمة قادة “جامعة الدول العربية” بمدينة جدة السعودية للمرة الأولى منذ نحو 12 عاما؛ لكن على الرغم من المصالحة العربية مع الرئيس السوري، إلا أن الولايات المتحدة لا تزال تتّبع سياستها السابقة تجاه سوريا، وتفرض العقوبات دون تغيير. 

هذا يشير إلى أن العلاقات العربية السورية لم تجرِ بعيدا عن نظر الولايات المتحدة، ما يعني أن هناك تقييما دقيقا للمصالح والآثار المحتملة لأي قرار يُتخذ في هذا الصدد.

الاختلافات بين الدول العربية والولايات المتحدة حول إعادة العلاقات مع سوريا لا يمكن أن تقوم على مبدأ النّدية، ولا يمكن تقسيم الدول إلى مع دمشق أو مع الولايات المتحدة. ومن المحتمل بعد الاجتماع الأميركي – الخليجي، أن تسعى الدول العربية إلى العمل بشكل يحقق مصالحها ويجنّبها الصراع مع الولايات المتحدة، وهذا يعني أنها ستتحرك في الحدود التي لا تخالف المصالح الدولية، وهذا عكس تطلعات دمشق التي تصرّ على علاقتها مع المحور الإيراني الروسي الصيني.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات