هي رسالة أكثر من كونها عملية اختيار قائمة على شروط واقعية وازنة بين ما هو سياسي وميداني وتنظيمي. غير أن الرسالة هذه المرة قد لا تبدو من النوع الذي يمكن قراءتها مرة أو على عجل. فخلافة يحيى السنوار المعروف بأنه مهندس “طوفان الأقصى” والقيادي بالجناح العسكري لحركة “حماس”، والمسؤول الأول عن تشكيل الكتل الأمنية الصلبة والعضلة العسكريتارية في جسد التنظيم، يجعل للرسالة وجه ظاهري وآخر خفي، طرفٌ معلن ومباشر قد يكون مقصوداً لتوّه وفي تلك اللحظة التي يحبس الجميع أنفاسه في انتظار مستقبل إقليمٍ بات على الحافة.

وبما يعني وفي عبارة موجزة أن الاختيار ربما حدثٌ تكتيكي ومناورة للضغط على الأطراف الدولية لردع إسرائيل، ومواجهة اليمين المتطرف بالجناح المتشدد والراديكالي لـ”حماس”، بما يعني دفع الصِدام لحدوده القصوى.

لم يكن أمراً سهلاً مقتل رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية، والمقيم في قطر، ويقود المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار وحل قضية الأسرى وبدء مراحل اليوم التالي للحرب، تحديداً في ما يخصّ إدارة القطاع من الناحية الأمنية، وكذا عملية إعادة الإعمار. اختفاؤه بهذا الشكل من المشهد، سبّب حالة من الارتباك بين أطراف عديدة، وبخاصة دول الوساطة كما الولايات المتحدة.

لا يعدو اختيار يحيى السنوار على رأس “حماس”، أكثر من كونه رغبة لابتعاث حالة معنوية بأن الحركة قادرة على استئناف المواجهة، بل وبأحد أبرز “صقور” التنظيم والذي قضى في سجون إسرائيل قرابة ربع قرن.

فالاستهداف الذي طاول الوجه السياسي الأبرز والذي صدّرته الحركة كمفاوض مرن وله علاقات مع الأطراف الخارجية، عقّبت عليه الولايات المتحدة بأنها لم تكن على علم (بما حدث أو سيحدث) وليست متورطة في وقائعه. وجاءت ردود الفعل تحمل شعوراً بالإحباط من انحسار المفاوضات، وإخفاقها في تحقيق نتائج أو تقدم، بل تجمّدت إلى إشعار آخر.

ماذا وراء اختيار السنوار؟

مجيء السنوار في هذا السياق الذي تعرضت فيه حركة “حماس” إلى ضربة قاصمة، وبعدها استهداف القيادي الثاني في “حزب الله” اللبناني، في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت فؤاد شكر (الحاج محسن)، الأمر الذي كان تحدّياً من قبل إسرائيل لثالث ثلاثة في الخطوط الحمراء التي حددها “الحزب” (الضاحية، المطار، بيروت)، هو ردّ فعل على التصعيد الإسرائيلي الذي يميل بالصراع نحو مواجهة شاملة، وعلى الجبهات كافة التي تتمركز فيها قوى “محور المقاومة”، وعناصرها المؤثرة بل القيادية والفاعلة إقليمياً وسياسياً وميدانياً.

فالحركة في مقابل نسف شروط المفاوضات، تتجه إلى تمثيل نفسها تنظيمياً وحركياً بهذا الشخص الخفي والمتخفي (السنوار) بينما يوصف بـ”رجل الأنفاق”، الذي يؤدي أدواراً بحجم إدارة الصراع في غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، أو ما يرتبط بسوابقه التاريخية في تدشين الجهاز الأمني للحركة، وتطوير العلاقات العسكرية والأمنية مع إيران و”الحرس الثوري الإيراني”، وتاريخ صدامه مع إسرائيل وعداء الأخيرة له الذي بلغ محطته الأخيرة في الحرب الأخيرة. 

بالتالي، لا يعدو الاختيار أكثر من كونه رغبة لابتعاث حالة معنوية بأن الحركة قادرة على استئناف المواجهة، بل وبأحد أبرز “صقور” التنظيم والذي قضى في سجون إسرائيل قرابة ربع قرن.

تم اختيار يحيى السنوار خلفاً لإسماعيل هنية-” رويترز”

ويمكن القول، إن اختيار السنوار هو رسالة مزدوجة معنوية في المحيط المتعاطف عربياً وفلسطينياً، وفي الجهة الأخرى سياسياً وإقليمياً، محاولة لتطوير موقف بأبعاد جديدة ليس فيه الفصل بين السياسي والعسكري، إنما رغبة في تمكين المفاوض بعضلات عسكرية وأمنية يحقّقها وجود السنوار.

وهذا هو الهدف الأبرز الذي سيتم العمل عليه لاحقاً وبشكل استراتيجي، وذلك بخلاف توقّعات كثيرين بأن الرئيس الجديد للحركة سيأخذ الحرب لـ مداها الأوسع والممتد، وهي معركة صفرية لن يذهب لها أي طرف. كما أن الاختيار الجديد مؤشرٌ على أن الصراع المكتوم داخل الحركة، والذي زادت نبرته بعد مقتل هنية، بين جناحي “حماس” السياسي والعسكري، طويت صفحته مؤقتاً ومرحلياً، أو تم تحييده.

خلافات داخل “حماس”

غير أن صعود الجناح العسكري المقرّب من إيران، بعيداً عن كونه رسالة تحاول أن تعطي الأولوية لما هو عسكري وميداني على حساب ما هو سياسي وميداني، ليس بمقدوره إخفاء الشروخ داخل مجموعات متباينة في قيادة “حماس”، والتي باتت متململة من عدة أمور، يأتي في قمتها انفراد السنوار وفريقه بقرار الحركة، وانفصال الجناح السياسي بارتباطاته الأيديولوجية بـ”جماعة الإخوان”، وتبعيته الإقليمية لقطر (والتي توفر ملاذات آمنة لعدة من قادتها كان من بينهم إسماعيل هنية)، عن الجناح العسكري. ولا تخفض سرعة اختيار السنوار بعد مشاورات عاجلة لتخرج النتائج من دون تلكؤ، مستوى التصدع والخلاف الذي تتصاعد وتيرته منذ ما بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، وتداعياته.

فالخلافات بين الجناحين ليست من النوع الذي يمكن إخفاؤه أو التغاضي عنه، بل هو تناقض رئيسي يجعل الحركة أمام مسارين يحدد كل منهما مسارها ومستقبلها، وبالتبعية حجم دورها وتأثيرها في غزة وخارجياً، سواء من الناحية السياسية والإقليمية أو الأمنية والعسكرية. إذ إن رؤية يحيى السنوار وجناحه الذي يرهن الحركة لحساب محور إقليمي تقوده طهران، وقد يميل إلى روسيا، في إطار إيجاد حليفَين أحدهما إقليمي والآخر دولي في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل، سوف تبدد تحركات الوسطاء مصر وقطر برعاية واشنطن لحل الأزمة في غزة. 

وفيما سبق للسنوار وهنية، أن اختلفا بشأن إدارة المفاوضات وجدواها، بما يكشف عن وطأة هذه الرؤية ومداها أو بالأحرى مصالحها. وذلك للحد الذي جعل الدوحة تهدد بطرد الحركة في حال إذا لم توافق على صفقة بشأن التهدئة.

كما أن هذه الخلافات التي طاولت قادة “حماس”، امتدت لدرجة وجود انتقادات داخل الحركة، لقرار قائد الحركة في غزة يحيى السنوار، بشن هجوم “طوفان الأقصى” المباغت على إسرائيل، وذلك من دون التشاور مع بقية قادة الحركة بل ولم يكن المكتب السياسي على علم بتفاصيل الحادث. وفق مصادر لـ”سكاي نيوز عربية”. ولا يختلف ذلك عن ما أعلنت عنه، نقلت صحيفة “الإيكونوميست” البريطانية، قبل فترة وجيزة وبالتزامن مع اغتيال هنية، بأن قادة “حماس” تبينوا أن الهجوم الذي تم شنّه على إسرائيل في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر كان “خطأً استراتيجياً”.

لوحة إعلانية تحمل صور إسماعيل هنية وقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني (وسط)، والقيادي البارز في حزب الله فؤاد شكر على الطريق الرئيسي بالقرب من مطار بيروت الدولي في 3 أغسطس 2024- “أ ف ب”

وبحسب “معهد واشنطن” لدراسات الشرق الأدنى، فإنه مع تقدّم الحرب بين “حماس” وإسرائيل، ظهرت توترات جديدة وقديمة بين قادة الحركة في غزة وأولئك المقيمين في الخارج. ففي داخل القطاع، لا يزال يحيى السنوار هو زعيم “حماس” بلا منازع و يحتفظ بولاء مجموعة ضيقة من القادة العسكريين المحيطين به. ويركز بشدة على مواصلة القتال، معتقداً أن “حماس” إذا تمكنت من تحمّل الضربة العقابية التي توجهها إسرائيل دون أن يتم تدميرها بالكامل، فإنها قد تتمكن في النهاية من إعلان “النصر الإلهي”، مثلما ادّعى “حزب الله” اللبناني في عام 2006. غير أن قادة “حماس” في قطر ولبنان وتركيا بدأوا يتطلعون بالفعل إلى اليوم التالي للحرب ويحاولون الاستحواذ على حيّز خاص لجماعتهم في أي هيكل سياسي سيحكم غزة. وبما أن التوترات الناتجة تعكس الخلافات التي تورطت فيها الحركة لسنوات، فإن مقارنة الانشقاقات الماضية والحالية أمرٌ مفيد.

“حماس” أمام منعطف خطير

في شباط/فبراير 2017، اختير السنوار رئيساً للمكتب السياسي لـ”حماس” في غزة في انتخابات سرية. وفي البداية، ساعد هنية ونائبه صالح العاروري، السنوار على نقل مركز ثقل الحركة إلى غزة، وفق المعهد الأميركي، ولكن على مدى السنوات القليلة التالية، أدى أسلوب حُكم السنوار وشخصيته القاسية إلى مغادرة هنية وغيره من كبار المسؤولين إلى قطر وتركيا، مما تسبب بشرخ واضح بين القيادات الداخلية والخارجية للحركة.

ورغم أن هنية ظل رئيساً للمكتب السياسي، إلا أن سيطرة السنوار على أرض الواقع منحته قيادة فعلية لما فعلته الحركة في غزة. وعلى مدى سنوات قبل اندلاع الحرب الحالية، خدع السنوار فعلياً القادة الإسرائيليين ودفعهم إلى معاملته كشخص عملي يمنح الأولوية لمشروع “حماس” السياسي في غزة. لكن خلفية السنوار كانت تحمل دلالات مهمة، إذ بدأ مسيرته كأحد منفذي قرارات “حماس”، الذين قاموا بالتحقيق مع الفلسطينيين المشتبه في تعاونهم مع إسرائيل وقتلهم. وكما أوضح هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، انطوت أولويته الحقيقية على قيادة هجوم ضد إسرائيل حيث كان يأمل في أن يحفّز المسلمين في جميع أنحاء المنطقة للانضمام إلى القتال.

وفي الواقع، لم يكن هناك سوى مجموعة أساسية من القادة مسؤولة عن التخطيط المفصل للعملية، يُقصد (طوفان الأقصى)، شملت السنوار وشقيقه محمد والقائد العسكري الفعلي لـ”حماس” مروان عيسى. وعلى الرغم من أن وحدات “حماس” أجرت تدريبات هجومية لعدة أشهر حظيت بتغطية إعلامية واسعة، إلا أنه لم يتم تزويد قادة كتائبها الإقليمية الخمس وفصائلها الأربعة والعشرين بالخطة المحددة، أي اختراق السياج الحدودي، واقتحام المواقع العسكرية الإسرائيلية، وقتل أكبر عدد ممكن من المدنيين، وأسر الرهائن، وتدمير بلدات إسرائيلية، إلا قبل ساعات قليلة من العملية. وفي أعقاب 7 تشرين الأول/أكتوبر مباشرة، أثار نطاق الهجوم ووحشيته انتقادات من القادة الخارجيين ودفع الكثيرين إلى محاولة السيطرة على الأضرار. فأنكروا في العلن أن يكون رجال السنوار قد قاموا بذبح النساء والأطفال، وألقوا باللوم على الجيش الإسرائيلي في مقتل المدنيين. غير أنهم أعربوا في وقت لاحق عن تحفّظاتهم بشأن أخذ النساء والأطفال كرهائن. وفي محادثات خاصة مع محاورين عرب وفلسطينيين، أدان بعض قادة “حماس” بشدة “جنون العظمة” لدى السنوار، كما يوضح “معهد واشنطن”.

في المحصلة، تبدو الحركة وفي ظل الحرب بغزة أمام منعطف خطير وحاسم على مستواها التنظيمي، سوف لن يكون من السهل تعيين نتائجه مع الظرف الإقليمي الغامض والمعقّد والطبيعة السرية للتنظيم الإسلاموي ومصالحه المعقّدة وتعدد تحالفاته ومصادره المالية والسياسية والإقليمية والأمنية، ناهيك عن مصادر الحماية لقادته المتورطين في “طوفان الأقصى”. فيحيى السنوار في صدارة الحركة قد يكون لحظة مؤقتة تغطي على إخفاقات عديدة، وتجسير الفجوات داخل الحركة ذاتها وضمان استمرارية دورها في الميدان، ومحاولة لابتعاث رسالة معنوية ورد فعل قوي لإسرائيل أمام إعلان مسؤوليتها اغتيال هنية. 

وتظل الرهانات محددة بمسار الصراع ومحدداته، ومدى تداخل الفاعلين وقدراتهم على كبح التصعيد. وهنا ستبدو الدوحة والقاهرة أمام لحظة فارقة في أدوارهما تجاه “حماس” وبطبيعة الحال الولايات المتحدة، وفي المقابل، يبرز الدور الإيراني (ووكيلها المحلي بلبنان حزب الله) بدايةً من تخطيط وهندسة الرّد على إسرائيل والذي سيحدد مآلات عديدة، مروراً بـ انخراطه مع السنوار في تنسيق هذا الرّد، وحتى وضع مشهد الحرب بغزة على أعتاب مفاوضات أو فوضى وسيولة إقليمية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة