منذ نحو أيام معدودة يمر سبع سنوات على التدخل الروسي في سوريا، الذي جاء بطلب من الرئيس السوري بشار الأسد، للحصول على دعم عسكري من روسيا للوقوف إلى جانبه ضد المعارضة السورية المسلّحة في الحرب الدائرة منذ قرابة عشر سنوات، ونتيجة لطلب الأسد، وافق مجلس الاتحاد الروسي على تفويض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، استخدام القوات المسلّحة الروسية خارج البلاد. في 30 أيلول/سبتمبر 2015، بدأ سلاح الجو الروسي بتوجيه ضربات جوية في الأراضي السورية، وهذه الضربات جاءت بعد تزايد الدعم العسكري المعلن لحكومة دمشق من قِبل موسكو، وبحجة محاربة تنظيم “داعش” الإرهابي، ولهذا تم الإعلان آنذاك عن تشكيل مركز معلوماتي في بغداد، تشارك فيه روسيا وإيران والعراق وسوريا، وكانت أولى الضربات الروسية في 30 أيلول/سبتمبر قد استهدفت مواقع تابعة لـ”داعش”، وفقا لوزارة الدفاع الروسية؛ إلا أن الائتلاف الوطني السوري المعارض حينذاك، صرّح بأن الغارات قتلت مدنيين في مناطق ليست تابعة للتنظيم الإرهابي، كما شكك قادة غربيون في الغارات الروسية التي نُفّذت على الأراضي السورية.

بعد التدخل الروسي في سوريا وتنفيذ مئات الغارات الجوية استهدفت معظمها مناطق سكنية يقطنها مدنيون ومقرّات فصائل المعارضة السورية المسلّحة، واستعادة مساحات واسعة لصالح الحكومة السورية، فضلا عن تهجير قسري لملايين السوريين من منازلهم، وخاصة مناطق الغوطة الشامية وحمص وحلب. زار بوتين، قاعدة حميميم بمحافظة اللاذقية عام 2017، تلتها زيارة أخرى للعاصمة السورية دمشق في أوائل عام 2020 والتقى الأسد، في مقر التجمع للقوات الروسية في دمشق، حينها، وزار عدة منشآت في البلاد.

على مدى السنوات السبع الماضية، قلبت موسكو الموازين في سوريا لصالح الحكومة السورية، بالإضافة إلى السماح لدمشق بالمناورة على منصات تفاوض مختلفة مع المعارضة السورية، مستخدمة بتدخلها سياسة “الأرض المحروقة”، والتي راح ضحيتها آلاف القتلى من المدنيين السوريين، وفي ظل بقاء الحكومة السورية واستمراريتها حتى اليوم بفضل التدخل الروسي، يقف الوضع السوري اليوم على صفيح ساخن من التعقيدات والتصعيدات ويلفه الغموض، ولا مؤشرات تلوح في الأفق حول مستقبل سوريا على الأقل خلال الفترة المقبلة، بالإضافة إلى وضع روسيا أقدام لها في البلاد تضمن بقاءه لخمسين عاما أخرى، وذلك بالسيطرة على موانئ الساحل السوري والعديد من الاتفاقيات الأخرى التي وقّعتها مع دمشق من البوابة الاقتصادية، ولا يوجد ما يفسر حتى هذا اليوم الأهداف التي ترسمها روسيا لسوريا في المستقبل، وما ستؤول إليه البلاد في المستقبل خاصة بعدما فشلت موسكو في إعادة تأهيل الحكومة السورية عربيا ودوليا، إضافة إلى أن البلاد تقف على سلسلة من الأزمات وتقف على حافة الهاوية، وتحديدا في الجانب الاقتصادي.

لماذا طلب الأسد التدخل الروسي؟

الانخراط الروسي في الربع الأخير من عام 2015 في سوريا، إلى جانب الحكومة السورية ضد معارضيه أثار جدلا واسعا على المستوى الإقليمي والدولي آنذاك، ورجّح مراقبون أن هذا الانخراط جاء برغبة موسكو بالتدخل المباشر في الحرب السورية ولأسباب تتعلق بالتوازنات الجيوستراتيجية في الشرق الأوسط، وعلى ميادين الصراع والنزاع الرئيسية فيه، وبالفعل هذا التدخل بلور الأزمة السورية نحو الأسوأ وأزمت الوضع لمستويات مسدودة ومعقدة، حتى أضحى الملف السوري أزمة عالمية، خاصة وأن موسكو تدخلت دون تفاهم أو تنسيق مع الغرب ودول المنطقة.

أما الأسد، بعد أن أدرك خطورة وجوده في البقاء على رأس السلطة في سوريا، خاصة بعد أن تصاعدت الأوضاع عام 2015 وتعقدت على عدة مستويات، كما وأن جيشه في ذلك الوقت كان يعاني من تراجع عسكري خطير، بعد خسارة 80 بالمئة من مساحة البلاد، بالتزامن مع استمرار تقدم المعارضة المسلّحة من ناحية أخرى. كذلك، هناك فئة معينة في الحكومة السورية موالية للأسد، كانت ولا زالت حتى الآن تخشى مشاريع وخطط الهيمنة الإيرانية المطلقة، وتحديدا تمركز إيران من خلال الميليشيات وانتشار فكره وعقيدته بين السكان المحليين، لذلك ربما وجد الأسد أن الوجود الروسي قد يكون منقذه وضمانة لبقائه في سدّة الحكم، وحمايته من الاستسلام أو السقوط إذا ما بقي تحت العباءة الإيرانية وسياساتها الطائفية البراغماتية بالشكل الكامل.

ومن جانب آخر، ربما وجد الأسد، أيضا، أن تولي أمره من الطرف الروسي، أفضل وذات ثقل دولي ونفوذ على بعض الدول العربية، مع تواري إيران عن المشهد قليلا، مما يجعل عملية تعويمه ممكنة، أو فتح قنوات الحوار والتفاوض معه عبر الولي الروسي، على أمل أن تغيِّر تلك القوى الرافضة له بشكل مطلق بعض مواقفها منه، وبالفعل أخذت موسكو عملية إنقاذ الحكومة السورية على عاتقها وإعادة تعويمها، إلا أن هذا التدخل صحيح أنه استطاع استعادة مساحات واسعة لصالح دمشق، لكنه من ناحية أخرى واجه العديد من الصدامات، وهي عدم القدرة على استبدال فصائل المعارضة المسلّحة أو القضاء عليها نهائيا من جهة، ومواجهة مواقف الدول والأطراف الداعمة للمعارضة والرافضة لقبول الأسد مجددا في الساحة الإقليمية والدولية من جهة أخرى، وبالطبع هذه المواجهات كلّفت روسيا أثمان باهظة دون أن تحصل على مصلحة تبررها حتى الآن، وجاء غزوها لأوكرانيا مؤخرا لاستكمال حجم خسائرها خلال السنوات الماضية، وعلى إثرها بدء الانسحاب الروسي التدريجي من سوريا، وهذا ما يثير عدة تساؤلات حول الوجود الروسي في سوريا وتأثيره على الحكومة السورية في خضم الصراع المستمر حتى الآن، وبالتزامن مع الحرب الدائرة في أوكرانيا وتكبد روسيا خسائر كبيرة هناك.

قد يهمك: هل يلتقي جاويش أوغلو والمقداد بمساعي روسية؟

كيف بدأ التدخل الروسي؟

منذ مطلع عام 2015، عززت روسيا حضورها العسكري في سوريا، حيث نشرت 21 طائرة هجوم أرضي من نوع سوخوي-25، و12 مقاتلة اعتراضية من نوع سوخوي-24، و6 قاذفات متوسطة من نوع سوخوي سو-34، و4 سوخوي سو-30 متعددة الأدوار بالإضافة إلى 15 مروحية (متضمنة مي-24 هايند الهجومية)، في مطار باسل الأسد الدولي قرب محافظة اللاذقية. تحمي هذه الطائرات 2 أو ثلاثة على الأقل من أنظمة الدفاع الجوي إس إيه-22، وطائرات من دون طيار مثيلة لطائرة إم كيو بردتور الأميركية، تستخدم لتنفيذ طلعات استطلاعية. تضمنت القوات الروسية أيضا 6 دبابات من طراز تي-90، و15 قطعة مدفعية، و35 عربة جند مدرعة، و200 من مشاة البحرية (مع منشآت إسكان تسع 1,500 فرد). كذلك رُصدت قاذفات بي إم-30 سميرتش قرب اللاذقية، وفق تقارير صحفية.

صرحت وزارة الدفاع الروسية بتنفيذ 20 غارة جوية على 8 مواقع تابعة لتنظيم “داعش”، لم تُحدد أماكنها في الأراضي السورية. وصرح المتحدث باسم الوزارة أن الضربات جاءت بعد عملية استطلاع جوي ومعلومات تلقتها القوات الروسية من هيئة الأركان العامة السورية، لكن، القائد العام لـ”جبهة الشام” التابعة لفصائل المعارضة المسلّحة، أن “الطائرات الروسية قصفت مقرا لتجمع “العز”، التابع لنا في بلدة اللطمانة بريف حلب الشمالي، بالرغم من أن راية “الجيش الحر” كانت مرفوعة فوق المقر، وعلى إثره وقع العديد من الضحايا المدنيين السوريين.

الرئيسان السوري (يسار) والروسي يتفقدان القاعدة العسكرية الروسية في حميميم باللاذقية “إنترنت”

وفي الأول من تشرين الأول/ أكتوبر من نفس العام، أكد رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي السيناتور جون ماكين، أن الغارات الروسية استهدفت وحدات من المعارضة السورية المسلّحة، التي دربتها وكالة المخابرات المركزية، قائلا: “يمكنني أن أؤكد تماما أنهم يشنّون غارات على مجندينا المنتمين للمعارضة الذي سلّحته ودرّبته وكالة المخابرات المركزية الأميركية، لأننا نملك اتصالا مع أشخاص هناك”.

وحينها نفى بوتين، هذه الادعاءات واعتبر أن التقارير التي أشارت إلي سقوط ضحايا بين المدنيين “هجوما إعلاميا”، مشيرا إلى أن هذه الادعاءات ظهرت قبل بدء الغارات الروسية.

قد يهمك: وفاة الشباب السوري في بلادهم ودول اللجوء.. تعددت الأشكال والمأساة واحدة

عشرات المجازر جراء التدخل الروسي

الدفاع المدني السوري، قال في بيان رسمي له الثلاثاء الماضي، إن “أكثر من 12 ألف مدني بينهم 4 آلاف طفل استجاب لهم الدفاع المدني السوري، كانوا ضحايا التدخل الروسي في سوريا خلال سبع سنوات، في ظل صمت دولي مطبق على هذه الجرائم”.

البيان أضاف أنه “لم يكن التدخل العسكري الروسي المباشر لدعم دمشق في 30 أيلول/سبتمبر عام 2015 مجرد دعم عسكري لحليف، بل كان عدوانا على سوريا وتدميرا لبنيتها التحتية وإجهاضا لمشروع التغيير فيها”.

هذا واعتبرت المنظمة أن روسيا تهدف من وراء تدخلها إلى “تحويل القضية السورية إلى ورقة ابتزاز تحصّل من خلالها مكاسب في جميع الملفات العالقة في المنطقة والعالم، عبر عرقلة أي حل سياسي في سوريا للحفاظ على مكتسباتها التي استحوذت عليها كثمن لدعمها نظام الأسد، حيث حققت مكاسب اقتصادية وجيوسياسية وعسكرية واستراتيجية”.

وأدّت الهجمات الروسية البالغ عددها حسب توثيق الدفاع المدني السوري أكثر من 5700 هجوم ـ وهذه ليست كل الهجمات إنما فقط ما استجابت له الفرق، يوجد عدد كبير من الهجمات لم تتمكن الفرق من الاستجابة لها كما أنها لا تشمل الهجمات المشتركة بين الحكومة السورية وروسيا أو الهجمات في مناطق لا يمكن الوصول إليها ـ أدت الهجمات على مدى السنوات السبعة الماضية لمقتل 4056 مدنيا، بينهم 1165 طفلا، و 753 امرأة، وتعبّر هذه الأرقام عن المدنيين الذين استجابت لهم فرق الدفاع المدني وقامت بانتشال جثثهم، لأن عددا كبيرا يتوفى بعد إسعافه.

غارة روسية على شمال غربي سوريا

استجاب الدفاع المدني السوري خلال سبع سنوات من العدوان الروسي، لـ 262 مجزرة، ارتكبتها القوات الروسية، وكان ضحايا هذه المجازر 2775 قتيلا مدنيا، بينهم و873 طفلا و552 امرأة. وتركزت الهجمات الروسية على مراكز المدن ومنازل المدنيين والمرافق الحيوية، بهدف تهجير المدنيين وتدمير كافة أشكال الحياة التي تدعم استقرارهم، حيث استهدفت 67 بالمئة، من تلك الهجمات منازل المدنيين بواقع (3825 هجوما)، وتوزعت الهجمات الروسية على أغلب المحافظات السورية وكان لإدلب النصيب الأكبر منها، بواقع 3475 هجوما وتشكل 61 بالمئة، من الهجمات، ثم حلب وريفها، ثم حماة، ثم ريف دمشق، وتعرضت درعا لـ 205 هجمات، إضافة لأكثر من 50 هجوماً على حمص ودمشق واللاذقية.

الأسلحة الروسية المستخدمة تنوعت ما بين الغارات الجوية، والقنابل العنقودية المحرمة دوليا، والأسلحة الحارقة، إضافة لهجمات بأسلحة أخرى بينها طائرات مسيرة وصواريخ أرض ـ أرض، وفق “الدفاع الوطني”.

قد يهمك: ما بعد أزمة اللجنة الدستورية السورية.. ما مستقبل الملف السياسي؟

تهجير قسري بفعل روسي؟

منذ التدخل الروسي في سوريا، ازدادت حملات التهجير والنزوح القسري وإفراغ المدن، وكانت أولى نتائج ذلك التدخل تدمير الأحياء الشرقية في مدينة حلب في عام 2016 وتهجير سكانها، لينتقل بعدها التهجير إلى ريف دمشق الغربي وأحياء دمشق الشرقية عام 2017، وكان عام 2018 هو عام التهجير بامتياز، حيث شمل الغوطة الشرقية والقلمون بريف دمشق وأحياء دمشق الجنوبية، وريف حمص الشمالي، إضافة للجنوب السوري الذي يضم القنيطرة ودرعا، كما طال التدمير والتهجير، مدينة دير الزور وريفها، وأرياف حماة وحمص.

الأمم المتحدة وصفت موجات النزوح التي شهدها الشمال السوري بأنها الأكبر بتاريخ سوريا، حيث أجبر أكثر من 1,182,772 مدنيا على ترك منازلهم والهرب من الموت خلال عام 2019، فيما بلغ عدد النازحين منذ تشرين الثاني 2019 حتى نهاية شباط 2020 أكثر من 1,037,890 شخص، وتوجه نصف مليون نازح إلى مخيمات الشريط الحدودي مع تركيا والتي كانت تضم نحو مليون نازح ليرتفع العدد فيها إلى مليون ونصف مليون نازح، في حين توجه القسم الآخر إلى ريفي حلب الشمالي والشرقي (عفرين واعزاز والباب وجرابلس).

من جانبها، وثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، مقتل 6943 مدنيا بينهم 2044 طفلا و1243 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنية على يد القوات الروسية، منذ سبتمبر 2015.

بحسب تقرير المنظمة الحقوقية، فقد ارتكبت القوات الروسية منذ تدخلها العسكري حتى 30 تموز/يوليو من عام 2022 ما لا يقل عن 1243 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنية، بينها 223 مدرسة، و207 منشأة طبية، و60 سوق.

إلى جانب ما لا يقل عن 237 هجوما بذخائر عنقودية، إضافة إلى ما لا يقل عن 125 هجوما بأسلحة حارقة، شنَّتها القوات الروسية منذ تدخلها العسكري في سوريا في 30 سبتمبر 2015، وفق تقرير الشبكة الحقوقية.

قد يهمك: “حروب المياه”.. تركيا شريكة التغيّر المناخي في تعطيش الأراضي السورية

جرائم حرب؟

منظمة “العفو الدولية”، في أواخر شباط/فبراير 2016، قالت إن الطائرات الحربية الروسية استهدفت عمدا المدنيين وعمال الإنقاذ أثناء حملة القصف. ووثقت “منظمة حقوق الإنسان” هجمات على المدارس والمستشفيات ومنازل المدنيين. كما قالت “العفو الدولية”، إن “روسيا مذنبة بارتكاب بعض أفظع جرائم الحرب” التي شهدتها منذ عقود”، وقالت مديرة برنامج الاستجابة للأزمات في “العفو الدولية”، تيرانا حسن، إنه بعد قصف أهداف مدنية، “تعود الطائرات الحربية الروسية لشن هجوم ثان لاستهداف العاملين في المجال الإنساني والمدنيين الذين يحاولون مساعدة المصابين في الطلعة الأولى”.

كما وأفادت “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية، باستخدام واسع النطاق للذخائر العنقودية من قبل الحكومة السورية وروسيا، في انتهاك لقرار الأمم المتحدة 2139 المؤرخ 22 شباط/فبراير 2014، الذي طالب جميع الأطراف بإنهاء “الاستخدام العشوائي للأسلحة في المناطق المأهولة بالسكان”.

غارات روسية على شمال سوريا

وقالت “هيومن رايتس ووتش”، إن “القوات الروسية أو السورية كانت مسؤولة عن الهجمات وأن الذخائر صُنعت في الاتحاد السوفيتي السابق أو روسيا وأن بعضها من نوع لم يتم توثيقه على أنه مستخدم في سوريا قبل التورط الروسي في الحرب، مما يشير إلى أن الطائرات الروسية استخدمتها أو زودت السلطات الروسية الحكومة السورية مؤخرا بمزيد من الذخائر العنقودية، أو كليهما”. وزادت “هيومن رايتس ووتش”، أيضا إنه على الرغم من عدم انضمام روسيا أو سوريا إلى اتفاقية الذخائر العنقودية، فإن استخدام مثل هذه الذخائر يتعارض مع التصريحات الصادرة عن الحكومة السورية بأنها ستمتنع عن استخدامها.

قد يهمك: المعابر في سوريا.. ورقة اقتصادية لأنقرة على طريق التطبيع مع دمشق؟

استغلال ملف المساعدات الإنسانية

إلى جانب دعم روسيا الحكومة السورية سياسيا في الأمم المتحدة ومجلس الأمن منذ عام 2011، كثّفت دعمها السياسي بعد تدخلها العسكري المباشر عبر استخدام حق الفيتو 17 مرة، في مجلس الأمن الدولي، حيث كان آخرها في شهر تموز/يوليو الفائت بالتصويت ضد تمديد التفويض لآلية إدخال المساعدات العابرة للحدود والضغط لإدخال المساعدات عبر خطوط النزاع.

لا تنفك روسيا عن فرض حالة ابتزاز سياسي على ملف المساعدات الإنسانية العابرة للحدود السورية، وربطت استمرار المساعدات مقابل تنازلات هدفها دعم دمشق ومحاولة تعويمه سياسيا، وتوفير غطاء أممي لاستخدام أموال الدول المانحة في إعادة إعمار مؤسسات دمشق بحجة مشاريع “التعافي المبكّر”، في تحايل واضح على العقوبات الدولية وشروط إعادة الإعمار.

التعافي المبكّر، هو نهج يلبي حاجات التعافي في مرحلة الاستجابة الإنسانية للطوارئ، وذلك حسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وهذا ما يجعله بعيدا عن فكرة إعادة الإعمار التي يتم الحديث عنها باستمرار خلال النقاشات الدولية المتعلقة بسوريا.

ويختلف التعافي المبكّر عن إعادة الإعمار في ثلاث نقاط، وضع خطط إعادة الإعمار وتنفيذها يقع على عاتق الدولة، في حين يتم تخطيط وتنفيذ التعافي المبكّر من قِبل منظمات الإغاثة، كذلك فإن إعادة الإعمار تأتي عبر قروض واجبة السداد لاحقا، في حين أن مشاريع التعافي المبكّر نوع من أنواع المساعدات الإنسانية، كذلك فإن إعادة الإعمار لا تأخذ بعين الاعتبار الأولويات الإنسانية عكس مشاريع التعافي المبكّر.

ويرى مختصون، أن التعافي المبكّر هو الحد الفاصل ما بين وضع سوريا السابق وما بين إعادة الإعمار، حيث تعتمد إعادة الإعمار على كمية المال الذي قد يُجمع للتعافي المبكّر، وهو ما نجحت الولايات المتحدة بالتقليل منه، من خلال خطواتها حيث جعلت دفعات التعافي المبكّر غير متناسبة مع فكرة إعادة الإعمار.

إن تسهيلات تقديم مساعدات التعافي المبكّر لن تؤدي إلى تحسين الوضع الإنساني في سوريا، فالتأثير مرهون بـ توفر التمويل الكافي. وفي حال زيادة كبيرة في تمويل مشاريع التعافي المبكّر، فإن التأثير العام على تحسن الوضع الإنساني للسوريين سيعتمد على مدى نهب دمشق لها، وحاليا تعمل روسيا للسيطرة على هذه المساعدات.

وهنا، روسيا اليوم في مأزق وتحتاج للخروج منه، وحتى بالطرق غير المشروعة، للالتفاف على العقوبات والفيتو الدولي ضد إعادة إعمار سوريا دون انتقال سياسي حقيقي. “الدول التي ستسهم في إعادة الإعمار تعلم أنها ترمي أموالها في الهاوية دون نتيجة، حيث لا يزال النظام السياسي والإداري في سوريا فاسدا، ومع تلاقي مصالحه مع الروس سيتم سرقة أي أموال أممية أو مساعدات إنسانية”.

كما أن الغرب لن يحول برامج التعافي المبكّر إلى إعادة إعمار شاملة دون إحراز تقدم ملموس على الجبهة السياسية، يكون موازيا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، والذي يدعو إلى وقف إطلاق النار والشروع بتسوية سياسية، كما يقول الخبراء والمراقبون دوما، بالإضافة إلى ذلك، وفق الخبراء، فإنه يتعين على الغرب تنفيذ آليات تتعقب من خلالها بشكل فاعل تأثير إعفاءاتها على توزيع المساعدات على الأرض، ومن يكون بالضبط المستفيد من برامج التعافي المبكّر.

وبالتالي، يشكل الفيتو الروسي وابتزازه للملف الإنساني في سوريا، عامل تهديد للوضع الإنساني في شمال غربي سوريا، وغيابا للاستقرار في تدفق المساعدات المنقذة للحياة بما يهدد حياة أكثر من 4 ملايين مدني، نصفهم مهجرون.

قد يهمك: ما مصير التطبيع العربي مع دمشق؟

الهيمنة على الاقتصاد السوري

الاستثمارات التي تسعى روسيا للعمل عليها في سوريا باتت تتخذ نطاقا أوسع، لا سيما مع دخول عدة استثمارات سابقة في القطاعات حيز التنفيذ مؤخرا. ويبدو أن هذه الاستثمارات تأتي أو تندرج في إطار مطامع موسكو بالحصول على حصة ليست بقليلة في الاقتصاد السوري.

تقارير صحفية غربية كشفت مؤخرا، عن وجود رجال أعمال روس مقرّبين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يقومون عبر شركات تابعة لهم بالهيمنة بشكل غير مباشر على جزء كبير من الاقتصاد السوري.

وحصلت مجلة “نيو لاينز” الأميركية، على مستندات مسربة تفيد بأن الاتحاد الروسي قدّم قرضين إجماليهما مليار دولار أميركي إلى سوريا، شرط أن تستخدم الأموال بشكل حصري لتدفع لشركات روسية خلال فترة ستة أشهر.

وأفادت “نيو لاينز”، في تقرير سابق، أن الشركات الروسية المدرجة في الاتفاقية تتبع لشركتين مملوكتين لصديقي بوتين، جينادي تيموشينكو ويفغيني بريغوجين، المعاقبين من الدول الغربية لدورهما في تسهيل الغزو الروسي لأوكرانيا.

خاصة وأن مرتزقة مجموعة “فاغنر”، التابعة لـ بريغوجين ارتكبت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وجرائم ضد الإنسانية في سوريا، بما في ذلك تعذيب وتشويه أحد الفارين من الجيش السوري.

وبحسب الوثائق المسربة، فإن الشركات ستستفيد بشكل كبير من القروض، ما يشير إلى أنه ربما تم تصميمها من الجانب الروسي كمخطط للتهرب من العقوبات الدولية وربما تم استخدامها بالفعل لهذا الغرض، وفقا للمجلة الأميركية.

في وقت سابق، أعلنت شركة روسية مؤخرا عن تنفيذ مشروع لتصفية مياه بحيرة “16 تشرين“، وذلك بتكلفة وصلت إلى 170 مليار ليرة سورية. كما وصرح وزير السياحة السوري، رامي مارتيني منتصف الشهر الفائت، عن عودة عمل الاستثمارات الروسية في الساحل السوري، وأنها قد دخلت حيز الإنشاء.

وأكدت صحيفة “تشرين” المحلية، نقلا عن وزير السياحة السوري منتصف أيار/مايو الفائت، “عودة عمل الاستثمارات الروسية في الساحل السوري والبالغ عددها ثلاثة، اثنان منها في اللاذقية وواحد في طرطوس، وهي مجمعات سياحية وتجارية وترفيهية دخلت حيز الإنشاء”.

ومنتصف شهر شباط/فبراير الفائت، قال المكتب الصحفي في محافظة اللاذقية إن شركة “فود ستروي” الروسية، تنفذ أعمال تجهيز محطة تصفية مياه بحيرة 16″ تشرين”، بطاقة واحد متر مكعب بالثانية لتؤمن نحو 85 ألف متر مكعب، يوميا لأغراض الشرب.

وبحسب ما ذكر المكتب الصحفي، فإنه “تم إنجاز معظم أعمال الحفريات في موقع المحطة بالقرب من أوتوستراد اللاذقية-كسب، على مخرج نفق قناة تصل من بحيرة “16 تشرين”، في الموقع الذي قدمته مديرية الموارد المائية لتنفيذ المشروع“.

كما وبدأت روسيا مؤخرا باختراق المؤسسات الاقتصادية الصغيرة في المحافظات السورية، حيث جاء ذلك عبر إرسال وفود تجارية واستثمارية إلى مدن سورية قامت بإبرام اتفاقات “خاصة”، مع مجالس هذه المدن ومنظمات غير حكومية.

ومن بين هذه الاتفاقيات توقيع عقد في مدينة حمص، لتنظيم التصدير المباشر لزيت الزيتون السوري إلى الأسواق الروسية، وفق ما ذكرت تقارير صحفية.

ووقّعت شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية، في نيسان/أبريل من عام 2017، عقد استثمار وإدارة الشركة العامة للأسمدة بحمص، وذلك في إطار العقود الاقتصادية التي وقّعتها روسيا في سوريا، والتي استحوذت بموجبها على مناجم الفوسفات.

كما استولت الشركة الروسية ذاتها بموجب العقد مع “المؤسسة العامة للجيولوجيا”، التابعة لوزارة النفط والثروات المعدنية على حق استخراج الفوسفات من مناجم “الشرقية” في تدمر شرق حمص، لمدة 50 عاما وبحجم إنتاج 2.2 مليون طن سنويا، وتبلغ الحصة السورية 30 بالمئة، من حجم الإنتاج الذي بدأ مطلع 2018.

كما أن الحكومة السورية قد صادقت العام الماضي على عقد مع شركة روسية للتنقيب عن النفط في البحر الأبيض المتوسط مقابل ساحل طرطوس.

العقد وقّعته وزارة النفط وشـركة “كابيتال”، محدودة المسؤولية الروسية، وبموجبه تمنح الدولة السورية الشركة حقا حصريا في التنقيب عن البترول، وتنميته في البلوك البحري رقم 1 في المنطقة الاقتصادية لسوريا في البحر الأبيض المتوسط مقابل ساحل محافظة طرطوس حتى الحدود البحرية الجنوبية السورية اللبنانية بمساحة 2250 كيلومتر مربع، وفق موقع “أثر برس” المحلي.

وحسب العقد الموقّع فإن مدته تُقسم إلى فترتين، الأولى فترة الاستكشاف ومدتها 48 شهرا تبدأ بتوقيع العقد، ويمكن تمديدها لـ36 شهرا إضافيا، أما الفترة الثانية فهي مرحلة التنمية ومدتها 25 عاما قابلة للتمديد لمدة خمس سنوات إضافية. وفيما يخص تقاسم الحصص، فالأمر مرتبط بسعر النفط والكميات المنتجة، وكذلك الأمر فيما لو كان المنتج غازا طبيعيا.

قد يهمك: تصعيد القصف الإسرائيلي على سوريا.. ثمن مصالحة دمشق مع “حماس”؟

الانسحاب الروسي التدريجي؟

بعد الغزو الروسي لأوكرانيا ودخول روسيا في مستنقع الحرب هناك، بدأت روسيا منذ قرابة عدة أشهر بانسحابات تدريجية لقواتها من مناطق متفرقة في سوريا، وتحديدا من قاعدة “حميميم” الجوية، جنوبي شرق محافظة اللاذقية، وعمليات الانسحاب شملت آلافا من وحدات المشاة وسلاحي الطيران، والهندسة، وفق تقارير غربية.

وكان آخرها، حين ذكرت شركة الأقمار الصناعية الإسرائيلية “إيميجسات إنترناشيونال”، أن القوات الروسية نقلت بطارية الدفاع الجوي بعيدة المدى “إس-300” من سوريا إلى روسيا، بسبب الحاجة إلى تعزيز الدفاعات الجوية لموسكو، في ظل الحرب مع أوكرانيا.

في وقت سابق، أفادت قناة “12”، إن تقريرا صادرا عن الشركة مزوّدا بصور، أظهر إخلاء بطارية الصواريخ التي كانت منصوبة حتى الشهر الماضي في محيط قاعدة “حميميم”، على الساحل السوري لتأمينها وتأمين ميناء طرطوس، وذلك على خلفية الحاجة الماسة لموسكو في تعزيز قوات جيشها في المعارك أوكرانيا.

كما وأشارت شركة “إيميجسات إنترناشيونال”، إلى أن صورا تظهر أن نظام “إس-300” الموجود في شمال غرب سوريا، قد تم تفكيكه خلال الأسابيع الأخيرة بعد أن كان موجودا بالمنطقة لعدة سنوات.

ووفق ما نقلته صحيفة “تايمز أوف إسرائيل“، فإن نظام الدفاع الجوي الروسي نقل إلى ميناء طرطوس، حيث تم شحنه إلى ميناء نوفوروسيسك على البحر الأسود.

كذلك، قالت الشركة الإسرائيلية، إنه من المتوقع أن ترسو السفينة في المدينة الساحلية الروسية يوم الجمعة المقبل. كمان وتُخمّن الشركة أن البطارية أُعيدت إلى روسيا من أجل تعزيز دفاعاتها الجوية، التي ورد أنها تضررت جراء الحرب المستمرة في أوكرانيا منذ شباط/فبراير الماضي.

مطلع آب/أغسطس الجاري، أفادت وكالة “بلومبرغ” الأميركية، نقلا عن مصادر استخبارية أوروبية، أن سفينة تجارية قادمة من سوريا، عبرت مضيق البوسفور التركي أواخر تموز/يوليو الماضي، تحمل مركبات وآليات ومعدات عسكرية للجيش الروسي، كانت في طريقها إلى أوكرانيا.

الوكالة الأميركية، أردفت في تقريرها السابق أن عبور السفينة “إسبارتا 2” من الساحل السوري إلى ميناء روسي، “يظهر كيف تعيد موسكو عتادها العسكري إلى روسيا مرة أخرى”.

وبيّنت “بلومبرغ”، آنذاك، أن “رحلة السفينة إلى ميناء نوفوروسيسك على البحر الأسود، تؤكد جهود الكرملين للاستفادة من الموارد لدعم غزو أوكرانيا في شهره السادس”، مشيرة، إلى أن “خطوط الإمداد الروسية متوترة تحت ضغط أكبر حملة عسكرية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية”.

وفق مسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية، فإن الانسحاب الروسي المستمر من داخل سوريا يُعتبر الأكبر منذ تدخل موسكو في الصراع السوري عام 2015، والذي فشل وفق قولهم في نقل ما سماه “تجربة السيطرة الجوية” الروسية من سوريا إلى أوكرانيا.

في المحصلة، فإن التدخل الروسي في سوريا، سيبقي الحكومة السورية في السلطة لفترة أطول، وبطبيعة الحال موسكو لم ولن تقدم أو تجلب لسوريا أي شيء سوى تدمير البنية التحتية والخراب وتفاقم الأوضاع في البلاد، بحيث تبقى دون عتبة تحقيق ملموس لأي حل سياسي أو أي عملية تفاوض حقيقية، خاصة وأن الحكومة السورية منهارة على جميع المستويات، فضلا عن نبذها إقليميا ودوليا، إلى جانب الهيمنة والمشاريع الإيرانية في البلاد، وبالتالي يمكن وصف هذا التدخل بـ”فشل الاستراتيجية الروسية في سوريا”.

قد يهمك: استمرار المفاوضات الاستخباراتية بين دمشق وأنقرة.. ما النتائج؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.