غالباً ما يتم تأطير جلّ المفاهيم التي تنتمي للبنية الدينية وفق قالب المقاربة الثقافوية، التي تعكس بشكل عام نمط التفسير والفهم بهذه المجتمعات، وهي في الحقيقة مقاربة مثنوية مانوية، تنطلق من أرضية حدية جد محددة ومسيجة، مثل: الحلال/الحرام، مسلم/كافر، جائز/غير جائز.
إن هذه المقاربة تستلهم في الغالب التقييم الحدي المنطلق من تشريع ديني ضيق، ومسألة الضيق هنا مرتبطة بالتشريع الأصلي الذي يعكس تجربة زمنية تملك خصائصها السياقية والمكانية، فظرفية التجربة الأولى عملت على تسقيف التشريع بطابع الاستعجالية والحدية، هذا الطابع صار مع مرور التجارب الزمنية طابعاً فوق تاريخي حيث ظل هذا التسييج الحدي حاضراً وعابراً للتاريخ، بل ويشكل هاجساً يؤطر بشكل مزمن طبيعة التعاطي مع إشكالية الاجتهاد وفق النص وخارجه، مادام أن هذا التأصيل الحدي يظل نموذجاً للقياس والاجتهاد، رغم اختلاف السياق الزمني والمكاني، فحتى في وجود إمكان الفساحة التأويلية للدين الإسلامي تظل المقاربة الثقافوي أضيق وأعسر من النص ذاته، لأنها تتحرك وفق مقاربة حدية تتواجد ضمن القالب التشريعي الأولي، فكيف يمكن تفسير ذلك؟
يمكن القول إن جلّ البنية المفهومية المؤسسة للهوية الدينية في المقاربة الثقافوية هي مفاهيم تحاول قدر الإمكان تسطير الحدود التي تشرعن الفعل الدنيوي بكثير من الحذر والحيطة التي تؤطرها بالأساس معضلة الشعور بالذنب إزاء أي خدش أو مساس للهوية المقدسة، رغم أن هذه القداسة تستحضر بشكل ذهني أكثر منه تجلي واقعي.
إن هاجس المقاربة المانوية المتأرجحة ما بين الجائز والمحرم والحلال والممكن تهيمن على ذهن المريد، مما يعمل على تقييد الفعل الدنيوي مجالياً وابداعياً، وهي عملية تضييقية مردها بالأساس عملية الشرعنة التي تتخذ شكل قالب جاهز يتحكم في كل أنماط السلوكات الدنيوية بشكل قبلي وبعدي، هذا النمط المعولب للوعي الثقافوي يجعل جلّ سلوكات المريدين مشكوك في مشرعيتها الدينية والدنيوية، بل ويصير بشكل مستدام موضع مساءلة وتقييم ذاتي ومجتمعي، مما يعمل بالمقابل على تراكم عقدة الذنب لدى المريدين عن الفعل ذاته، وهو ذنب يسائل باستمرار المسؤولية الذاتية المترتبة عن اتخاذ قرار أو فعل لم يوثق له بنص صريح ومحكم، وتتأرجح الاجتهادات بشأنه، فتصير هنا المسؤولية عن الفعل ثم الإتيان بالفعل في حد ذاته مشروع للمساءلة والتقييم المستمر.
فإذا تناولنا على سبيل المثال مفهومي الحرام والحلال نجد أنها مفاهيم معيارية كثيفة تحمل بعداً وصفياً وتقييمياً في الآن نفسه، فالبعد الوصفي يتمثل في رسم حدود الفعل الدنيوي بناءا على تشريعي نصي، أما البعد التقييمي فهو الخاص بإتيان هذا الفعل، كأننا أمام تسييج أو رسم خاص بالحدود المشكلة لهوية المساحة الرمادية “الممكن الدين”، أو المساحة حيث امتداد الفعل ممنوع وفق تشريع نصي أو اجتهاد فقهي، مما يغلب الذهنية التحريمية على الفاعلية البشرية، ذهنية متوجسة من امتداد الفعل البشري خارج ما سطر بشكل قبلي وبعدي، كما يعمل أيضاً على تبخيس كل مجهودات الفعل الدنيوي اللاحقة، ويدخلنا بباب المقارنة السلبية التي تجعلنا نقبل كل المآسي الوجودية بما هي أمور حتمية تأهلنا للحساب الأخروي.
هذه الرؤية التأطيرية للفعل الدنيوي من منظور ديني، هي في الحقيقة رؤية ثقافوية تقيد الفضول البشري، مادامت تجعله يتأرجح بشكل مقولب ما بين الأسود والأبيض، وبالتالي غياب المنطقة الرمادية التي تسمح له بالتأرجح خارج هذه المقاربة المانوية، هذه المنطقة الرمادية لها أهمية في تزكية الفعل لدى المؤمن، بل هي أساس ومحرك الفعل الدنيوي، إذ غالباً مايظل المؤمن مترددا،لا تسمح له هذه المثنوية باتخاذ أي قرار، وفي عملية اتخاذ القرار تضيع متعة ولهفة الفعل ذاته تحت ضغط المقاربة المثنوية.
يمكن رصد الملامح العامة لهذه المقاربة المانوية في النقط التالية:
– قد تمثل السلطة السياسية في سياق المقاربة الثقافوية العربية والإسلامية مجال الممكن/ المتاح لدى المريدين لتسلم والتكفل بالوصاية الدينية، بمعنى الطرف القادر على إصدار التشريع وفق مؤسسة دينية، فترسم هنا المسؤولية العامة ذات الطابع الشمولي، حيث يصير هنا المواطن/المريد منزوع الذنب متخلصاً من عقدة ارتكابه، كأننا أمام وصاية دينية بغلاف سياسي ومجتمعي. إن ما يثار هنا هي مفهوم المسؤولية الجماعية التي تسمح بالتخلص من المسؤولية الفردية.
– يلجأ المريد في الغالب إلى المسؤول/المتخصص الديني (الفقيه) لابرام تعاقد غير صريح مفاده تسلم المسؤولية الفردية أو تحمل عبء أو مسؤولية الفعل، ليتخلص المريد بالمقابل من هامش خطأ الاجتهاد وما يترتب عنه من شعر بالذنب المزمن. إن أهم ما يثار هنا هو: كيف نتعلم التخلص من مسؤوليتنا الدينية والدنيوية للآخر الديني والسياسي، لتخوفنا من تحمل عبء المسؤولية الاجتهادية إزاء النص الديني.
– هذه المقاربة لاتحتمل الاتيان برأي ثالث مخالف لهذه الحدود، لهذا عند الاختلاف يتم بشكل تلقائي اتهام المحاور/المخالف بالكفر أو ازدراء الدين أو الردة…، لأن التفكير خارج منطق المقاربة المانوية ينتج بدوره وعياً حدياً يقابل بشكل تلقائي ما بين مايتماشى مع المقاربة الحدية ومايعاكسها، فنصير بشكل عام أمام تفكير عكسي ينهل من معجم تقابلي يحدد اليات الخطاب والحوار انطلاقا من مواجهات تقابلية لاحوارية، تطرفية لاتوافقية، لأن الاختلاف هنا يعني أننا إزاء توجه خارج التسييجات الحدية، وهو وجود يهدد التسييج الوجودي للهوية الدينية كما تقدمها هذه المقاربة المانوية.
– هذه المقاربة تحضر أيضاً على مستوى الصيرورة التاريخية، فثقل النموذج الإرشادي الديني المتمثل في التجربة النبوية يظل حاضرا بثقله بشكل كبير، هذا الثقل الذي يؤطر هذه التجربة في إطار مقاربة مانوية تقيس كل تجاربنا البعدية بمعدل سلبي لا يرقى أبدا لهذا النموذج الارشادي. فالتجربة الأولى لا ترادفها أي تجربة مهما كانت وكيفما كانت، رغم أننا لازلنا في خضم التجربة، فلا نحن نكمل التجربة ولا نحن نضاهي التجربة الأولى، الأمر الذي يجعلنا ننفتح على الأفق الطوباوي بأمل بعدي أخروي في تحقيق ما تعذر تحققه هنا تحت ضغط القالب التشريعي الجاهز.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.