في الواجهة، تسعى بكين لتصدير نفسها كصانع سلام عالمي، سواء عبر مبادرة منها أو بالتقاط الفرص، فمن الاتفاق السعودي الإيراني بوساطة صينية في آذار/مارس 2023، إلى إعلان بكين للمصالحة بين الفصائل الفلسطينية نهاية الشهر الفائت. ومن قبلهما خطتها للسلام بين روسيا وأوكرانيا في شباط/فبراير 2023، هاهي بكين تعود مجددا للعب دور الوساطة بين موسكو وكييف، فهل تنجح بما فشلت فيه قبل عام؟ 

قبل أيام، شنّت القوات الأوكرانية هجوما مفاجئا على منطقة كورسك الروسية واستولت بسرعة على ما يقدر بنحو 350 كيلومترا مربعا من الأراضي الروسية. ووفقا لمحللين، لا يزال هدف الهجوم الأوكراني غير واضح بدقة، وقد يكون ضربة بارعة لتحسين موقف كييف التفاوضي في محادثات السلام المطروحة للنقاش مع موسكو في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.

إذ أجرى مؤخراً وزير الخارجية الأوكراني، دميترو كوليبا، زيارة إلى الصين، وهي الأولى من نوعها لمسؤول أوكراني منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، وبالتزامن معها، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، “أعتقد أننا جميعا ندرك أنه يتعين علينا إنهاء الحرب في أسرع وقت ممكن بالطبع”. 

في 24 تموز/يوليو الماضي أجرى وزير خارجية أوكرانيا دميتري كوليبا محادثات مع وزير خارجية جمهورية الصين الشعبية وانغ يي في مدينة قوانغتشو الصينية.

بدوره، قال كوليبا، من “المهم” لأوكرانيا والصين حليفة روسيا، التحدث مباشرة بشأن خطط لحل النزاع في أوكرانيا. مضيفا خلال اجتماعه بنظيره الصيني، وانغ يي، “أنا مقتنع بأن السلام العادل في أوكرانيا يصب في المصالح الاستراتيجية للصين، وأن دور الصين كقوة عالمية للسلام مهم”.

اجتماع الوزيرين جاء نتيجة عدم ترجيح كييف نجاح الجهود الدبلوماسية لحل الصراع مع موسكو بدون بكين، حسب صحيفة “نيويورك تايمز“، كون الصين الدولة الوحيدة التي تتمتع بنفوذ كاف على روسيا لدفعها إلى طاولة المفاوضات. ووفقا لـ “معهد كوينسي“، فإن إقناع بكين بالمشاركة وتأييد نسخة من “صيغة السلام” الأوكرانية هدفا رئيسيا لسياسة زيلينسكي الخارجية. مع ذلك، غابت بكين عن قمة سويسرا للسلام التي انعقدت منتصف حزيران/يونيو الماضي، بسبب غياب موسكو. 

وبسبب عدم يقينها تجاه الدعم الغربي على المدى الطويل، لم تستمر كييف بسياسة إشراك بكين، بل زادت حاجتها للانخراط مع بكين كوسيط محتمل. وعليه، أعلمَ كوليبا نظيره الصيني بنتائج قمة سويسرا، واستعداد بلاده لإشراك موسكو في عملية التفاوض بمرحلة معينة، تكون فيها الأخيرة مستعدة للتفاوض بحُسن نية. مؤكدا غياب هذا الاستعداد حاليا لدى موسكو، وفقا لبيان وزارة الخارجية الأوكرانية.

“سلام عادل لا وهم السلام”

“أنت تعرف أن الجانب الروسي لم يرفض أبدا التفاوض، فقد حافظ دائما على انفتاحه على عملية التفاوض، لكن التفاصيل مهمة هنا لا نعرفها أنا وأنت بعد”، قال المتحدث باسم “الكرملين”، ديمتري بيسكوف، ردا على تصريحات كوليبا حول المفاوضات المستقبلية. مع ذلك، “يمكن القول إن الرسالة نفسها تتوافق مع موقفنا”، أضاف بيسكوف. 

ومن جانبها، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، ماو نينغ، إن “الصين مقتنعة على الدوام بأن وقفا سريعا لإطلاق النار والبحث عن حل سياسي هما في الصالح المشترك لكل الأطراف”. ووفقا لما نقلته صحيفة “الشرق الأوسط” من حديث مدير “مركز كارنيغي روسيا وأوراسيا”، ألكسندر غابويف لـ “وكالة الصحافة الفرنسية”، قد يرغب كوليبا في محاولة “إقناع الصين بضرورة المشاركة في قمة سلام ثانية”. معتقدا بإمكانية محاولة بكين الحصول على شيء ما من كييف في المقابل. وتضيف الصحيفة، حددت بكين شروط مشاركتها، “يجب أن تتيح القمة مشاركة جميع الأطراف على قدم المساواة”، ومناقشة عادلة لكل خطط السلام، بما في ذلك الموقف الروسي”.

منذ فترة طويلة تحاول الصين إيجاد سبيل لإنهاء الحرب في أوكرانيا، نظرا لتأثيرها السلبي على الاقتصاد الصيني، لا سيما فيما يتعلق بارتفاع أسعار الطاقة والذي أدى لتقلص أرباح بكين من الصادرات وخفض مستوى النمو الاقتصادي الصيني إلى أقل من التوقعات، 4،7 %، حسبما أفاد به الخبير والباحث السياسي المقيم في لندن، محمد المذحجي لـ “الحل نت”. 

  • إضافة إلى ذلك، تسعى بكين حاليا للدخول على خط الصراع لتكون قريبة لموسكو ولأوروبا، وبالأدق لإبعاد روسيا وأوروبا عن الولايات المتحدة، وتاليا إبعاد واشنطن عن المشهد الأوكراني، أي عن المنافسة والصراع بين روسيا وأوروبا. وبذلك تصبح الصين هي الوسيط كونها صديقة للطرفين.

في مقطع فيديو على منصة “إنستغرام”، قال كوليبا: “لقد أكدت الصين من جديد احترامها لمبدأ سيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها”. وأضاف، “قال زميلي الصيني بوضوح إنه يوافق على أننا لا نحتاج إلى وهم السلام، بل إلى سلام عادل ومستدام”. ورغم دعم الصين المستمر لروسيا كجزء من شراكتها “غير المحدودة”، دعت بكين باستمرار لبدء محادثات وقف إطلاق النار في اجتماعاتها الدولية. كما أعلنت عن خطتها الخاصة للسلام في شباط/فبراير 2023. قابلته كييف بتفاؤل حذر، لكنه أكثر ترحيبا من واشنطن أو الشركاء الغربيين، حسب “معهد كوينسي“.

في الأسابيع الأخيرة، كانت الساحة الدولية مليئة بالشائعات والتكهنات حول مفاوضات وشيكة لحل الصراع في أوكرانيا، حسب أرسلان بكرييف، وهو مدير مركز البحر الأسود الأوكراني للأبحاث. وفي هذا السياق، تم ذكر مشاركة روسيا فيها بشكل متزايد، حيث تشير التقارير التي تفيد بأنه سيتم دعوة ممثلين روس معينين إلى مفاوضات في نهاية العام إلى احتمالية وضع حد لسفك الدماء، الذي طال أمده وأنهك الجانبين.

إلى جانب ذلك، فإن رحلة وزير الخارجية ديمتري كوليبا إلى الصين، والحظر اللاحق على تصدير الطائرات بدون طيار، التي يمكن استخدامها في الأعمال العدائية، أظهر بوضوح أن بكين تدعم بشكل غير مباشر فكرة إنهاء الحرب في أوكرانيا رسميا على الأقل. وأن هذه الخطوة تهدف إلى الحد من التصعيد. وأن الصين ليست مهتمة بمزيد من تأجيج الصراع.

كما تمثل الاستعدادات لزيارة رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، إلى كييف خطوة مهمة أيضا، قال بكرييف لـ “الحل نت”. وبرأيه، حافظت الهند تقليديا على الحياد في الصراعات الدولية، وهي مستعدة لدعم مفاوضات السلام. وتاليا يمكن أن تشكل زيارة مودي عاملا مهما يمكن أن يؤثر على ديناميكيات الصراع ويدفع الأطراف نحو الحوار.

“ورقة موقف” صينية

“يواصل الجانب الصيني تعزيز السلام ودعم تعزيز التوافق في المجتمع الدولي بهدف البحث المشترك عن سبل حقيقية لتسوية الأزمة (الأوكرانية) بالوسائل السياسية”، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ. مشيرة خلال مؤتمر صحفي، لقبول أوكرانيا “سياسة الصين الواحدة”، واعترافها “بمطالب بكين بشأن تايوان”.

في الأثناء، أجرى رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، زيارات إلى كل من أوكرانيا وروسيا والصين. وأشار خلال لقائه بالرئيس الصيني شي جين بينغ، إلى أن “نهاية الحرب تعتمد على روسيا وأوكرانيا، إلى جانب ثلاث قوى عالمية، هي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين”.

ليس سرّاً أن طرفي الصراع يواجهان مشاكل في التعبئة. ستزداد هذه المشكلة سوءا مع بداية الخريف، فاستنفاد الموارد والقوى البشرية يجعل المرحلة النشطة الإضافية من الحرب شبه مستحيلة دون حدوث اضطرابات داخلية كبيرة، حسب بكرييف. وهو ما يدركه الساسة في كييف وموسكو جيدا؛ لأن الاستنزاف الكبير لموارد الجانبين، إلى جانب الأعمال العدائية الإضافية، قد تؤدي لبداية عمليات داخلية لا رجعة فيها، اقتصاديا واجتماعيا، فالعقوبات الاقتصادية والمدن المدمرة واللاجئين والخسائر العسكرية تضع ضغوطا لا تطاق على ميزانيات الحكومة والأنظمة الاجتماعية في البلدين.

فلوديمير زيلينسكي – (إنترنت)

تضاءلت خطة زيلينسكي للسلام المكونة من 10 نقاط والتي طرحها في قمة G20 في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، إلى ثلاث نقاط فقط، “الأمن الغذائي والسلامة النووية وعودة أسرى الحرب”، خلال القمة السويسرية، والتي شابها فشل دبلوماسي نتيجة توقيع 78 فقط من المندوبين المشاركين في القمة على البيان الختامي، حسب موقع “IntelliNews“. “النتيجة الرئيسية للقمة السويسرية هي موت “صيغة السلام” لزيلينسكي، والتي تقربنا من محادثات السلام الحقيقية”، قال ليونيد راجوزين، وهو كاتب عمود في الموقع.

حسب “معهد كوينسي”، بعد أن أطلع الوزير الأوكراني خلال اجتماعه بنظيره الصيني على النقاط الرئيسية لخطة السلام الصينية، التي يسميها المسؤولين الصينيين “ورقة موقف”، وتدعو إلى وقف إطلاق النار واستئناف محادثات السلام، “وأحكام تدعو الدول إلى احترام سيادة الدول الأخرى”، مع الإشارة إلى أن “المصالح والمخاوف الأمنية المشروعة لجميع البلدان يجب أن تؤخذ على محمل الجد وأن تعالج بشكل صحيح”. قال كوليبا، إن بلاده تعتزم “دراستها بعناية واستخلاص النتائج”. إلا أن الأولوية القصوى لكييف هي خطة السلام الخاصة بها، التي أصدرتها في أواخر العام الماضي. 

عموما، ما يعيق المحاولات الصينية، هو انحياز بكين لأوكرانيا. فالصين لا تأخذ بالاعتبار المصالح الروسية، لا سيما أهداف روسيا الواضحة لضم أراضي أوكرانية، ويبدو ان روسيا لن تتنازل عن هذه الخطط. في حين أن مبادرة الصين تنص ضمنا على استرجاع جميع الأراضي الأوكرانية، من خلال تأكيدها على السيادة الأوكرانية وعدم شرعية ضم الأراضي بالقوة، حسب المذحجي. لذا يمكن التكهن بفشل الوساطة الصينية المحتملة، إسوة بفشل مبادرتها التي أطلقتها عام 2023، ولن تؤدي إلى نتيجة ملموسة. مع ذلك يمكن أن تراكم من أوراق بكين في محاولاتها للدخول على الملفات والصراعات الدولية.

بكين طريق الضغط على موسكو

مؤخرا، حثّ زيلينسكي روسيا على إرسال ممثلين إلى المؤتمر الثاني لحل النزاع الأوكراني، المقرر عقده في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. مشددا خلال مؤتمر صحفي بثه التلفزيون الأوكراني على أهمية المشاركة الروسية. “أعتقد أن ممثلي روسيا يجب أن يكونوا في القمة الثانية” قال زيلينسكي. ووفقا لتقرير آخر لـ “IntelliNews”، ربما يسعى الرئيس الأوكراني للتوصل لاتفاق سلام مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين قبل رئاسة محتملة لمرشح الرئاسة الأميركي دونالد ترامب.  

في المقابل، أكد بيسكوف انفتاح روسيا على الحوار شريطة أن يحقق أهدافه. كما اقترح بوتين هيكلا جديدا للسلام، تضمن شروطا تقضي بانسحاب القوات الأوكرانية من دونباس ونووروسيا، وحياد أوكرانيا ورفع العقوبات الغربية. وهي شروط رفضتها كييف.

في هذا السياق، أشارت صحيفة “لوموند“، لعدم إمكانية تجاهل كييف احتمال فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، وهو الذي وعد بإنهاء الصراع بسرعة، في ظل ظروف غير مواتية لأوكرانيا. لذلك تكثف الأخيرة جهودها الدبلوماسية، ومنها زيارة كوليبا إلى بكين التي تدعي حيادها، رغم شراكتها التجارية وصداقتها السياسية مع موسكو. وهو ما يعني عدم وجود ضغط حقيقي على روسيا دون مروره عبر بكين. مع ذلك، قال وانغ، إن أوكرانيا وروسيا “أرسلتا مؤخرا إشارات استعداد للتفاوض بدرجات متفاوتة”، إلا إن الوقت “لم يحن بعد” لإجراء محادثات سلام.

منذ بداية الحرب، تجنبت واشنطن انهيار الاتحاد الروسي، حسب بكرييف، وتجلى ذلك في الدعم المعتدل للإمكانات العسكرية لأوكرانيا، نتيجة الخوف من الفوضى في أي قوة نووية. وحاليا ستدفع النتيجة غير المؤكدة للانتخابات الأميركية المقبلة في تشرين الثاني/نوفمبر، جميع المشاركين في الحرب إلى إيجاد حل سريع لإنهائها. 

مع ذلك، تشير ديناميكيات الأحداث الحالية إلى أننا ربما نشهد الفصل الأخير من هذه الدراما الدموية، حيث المخاطر أعلى من أي وقت مضى، وقد نشهد حدة أعلى في المعارك على طول خطوط الجبهات لمراكمة أوراق القوة حين الجلوس على طاولة المفاوضات (وهنا يجب التنويه بأن حديث بكرييف كان قبل معركة كورسك). وبغض النظر عن كيفية تطور الأحداث، هناك شيء واحد واضح، “الصراع الذي طال أمده يتطلب حلا”. 

لذا، بدأ المجتمع الدولي، المدرك لخطورة الوضع، في البحث بنشاط عن سبل لتحقيق السلام. “لكن هل سيتم العثور على هذا المسار، أم أن جولة أخرى من التصعيد تنتظرنا؟ الوقت وحده هو الذي سيجيب عن هذا السؤال”، قال بكرييف في ختام حديثه مع “الحل نت”.

في الصورة الكبيرة، بكين في الحرب الروسية على أوكرانيا بين نارين، الانحياز للطرف الروسي، يعني التخلي عن المبادئ الخمسة للسياسة الصينية التقليدية، بجانب تعزيز مركز روسيا، وهو ما لا ترغبه بكين بمقدار عدم رغبتها بإضعافها. مع خلخلة للممر الشمالي لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية، والذي تحتل فيه أوكرانيا مكانة مهمة، بجانب علاقات مميزة مع بكين. كذلك فإن انحيازها لكييف سيؤدي لإضعاف موسكو، وتاليا خسارة درع في أي صراع غربي صيني محتمل. لذا تسير بكين في الصراع الروسي الأوكراني على حبل مشدود، ورغم صحة وصف موقفها بـ “الحياد المؤيد لروسيا”، إلا أن بكين ستعمل في أي وساطة محتملة على تحقيق قدر من التوازن بين شروط الجانبين، خدمة لمصالحها المجردة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات