اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية طهران، كان مؤشراً سياسياً وأمنياً لعدة أمور، منها تحول الساحة الإيرانية إلى مجال مفتوح لنشاط العملاء الخارجيين لأجهزة استخبارية، كما سبق وحصل مع العالم النووي محسن فخري زادة، وكذا الخرق الشديد في البنية الأمنية التي تسمح بهذا الدور المتنامي والنوعي الذي يحقق نتائج دقيقة وينجح في الوصول لأهدافه بشكل مباشر.
غير أن الاغتيال الأخير يضيء مع حرب غزة جانباً واسعاً يتصل بالعلاقات المتجذرة بين نظام الملالي وقوى الإسلام السياسي السنية. فإلى جانب هنية والذي كان في زيارة للقاء المسؤولين، من بينهم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، هناك شخصيات أخرى بداية من جماعة “الإخوان” ومروراً بقادة تنظيم “القاعدة”، وجدوا في قواعد “الحرس الثوري” الإيراني، مواقع للاحتماء بها، وربما بشكل مؤقت.
“القاعدة” و”داعش” والوصاية الإيرانية عليهم!
أضاءت حرب غزة منذ شنّ “حماس” هجماتها على إسرائيل في ما عُرف بـ”طوفان الأقصى”، على الوصاية الإيرانية لتنظيمات الإسلام السياسي السنية، كما هو الحال مع الحركة التي تحكم قطاع غزة منذ عقود إثر انقلاب دموي على السلطة الفلسطينية، فضلاً عن آخرين متمركزين في “جبهات إسناد” بـ لبنان سواء الجماعة الإسلامية (الفرع المحلي لجماعة الإخوان) ومماثلهم في العراق وتُعرف بـ”المقاومة الإسلامية بالعراق، وتمتد النسخ المكررة في “إخوان الأردن” التي صعدت من الجناح الموالي لطهران كما حدث في لبنان بانتخابات الجماعة عام 2021. وخارج “جبهات الإسناد” التي تحركها “غرفة العمليات” التي تتشكل من قادة الفصائل الميليشياوية وبإدارة “الحرس الثوري” منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، تصطف التنظيمات الجهادية مثل “القاعدة” و”داعش” و”طالبان” في دور تعبوي عنيف وتحريضي ضد المحاور الإقليمية المعادية للإسلام السياسي، لا سيما مصر والسعودية والإمارات.
منتصف العام الماضي، سبق لمدير “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، رامي عبدالرحمن، أن كشف عن “تعاون وثيق بين حزب الله والحرس الثوري الإيراني وتنظيم داعش الإرهابي على الأراضي السورية”، وفق ما نقلت عنه منصة “الحرة”،
وتابع: “يوجد تنسيق على مستويات عالية بين الميليشيات الإيرانية مع داعش، بحيث تقوم هذه الميليشيات نيابة عن الحرس الثوري بتزويد معلومات للتنظيم الإرهابي مقابل عدم اعتراض قوافل نقل وتهريب السلاح التي تجري على الأراضي السورية”. موضحة أن “بيانات المرصد أظهرت تراجع استهداف تنظيم داعش للمليشيات الإيرانية، منذ منتصف عام 2021، على عكس ما كانت سابقاً، وهو ما دفع بالتحقيق بشكل أكبر في أسباب هذا الأمر”.
ويقول المرصد: “على سبيل المثال، نفذت عناصر تنظيم داعش 100 عملية استهدفت فيها قوات التحالف وقوات سوريا الديمقراطية وقوات النظام السوري منذ بداية العام الماضي 2023، لكنها لم تستهدف أيّاً من الميليشيات الإيرانية على الإطلاق، وسجلت حادثة يُتوقع أنها كانت بتعامل فردي قُتل فيها 6 عناصر من ميليشيات فاطميون الموالية لطهران”. حيث إن “طبيعة التعاون بين مثلث يمثل حزب الله والحرس الثوري الإيراني وتنظيم داعش”.
ويقول المرصد إن “الحرس الثوري الإيراني يرى أنه رغم وجود خلاف عقائدي مع داعش إلا أن هذا لا يعني استمرار حالة العداء”، وكان هدف طهران عدم ملاحقة التنظيم لعمليات تهريب السلاح التي يقوم بها “حزب الله” أثناء عبورها لمناطق نفوذهم في سوريا. ولـ إبداء “حسن النوايا والتعاون، قام الحرس الثوري بتزويد داعش بمعلومات استخباراتية هامة، وفي بعض الأحيان أرشدهم إلى أماكن حيوية يمكن استهدافها” وفق مدير “المرصد السوري” ومقره لندن مؤكداً أن “الميليشيات الإيرانية كانت تسهّل عمليات مرور وتهريب عناصر داعش، بما فيها توفير الغطاء لبعض قادة التنظيم للتنقل بحرية من منطقة إلى أخرى داخل الأراضي السورية”.
بالتالي، يمكن القول إن ثمة إضاءة أخرى سابقة ومبكّرة على تلك العلاقة بين إيران والإسلام السياسي السُّني، وذلك عندما قُتل سيف العدل القيادي المسؤول عن تنظيم “القاعدة” بعد وفاة أيمن الظواهري في كابل خلال فترة حُكم “طالبان”.
والعدل المقيم في طهران منذ عقود ضمن آخرين من قادة التنظيم الذين فرّوا إلى عاصمة “الولي الفقيه”، بعد شنّ الولايات المتحدة حربها على الإرهاب ومعاقله في أفغانستان إثر تنفيذ “القاعدة” هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001، لم يكن وحده، بل إن قادة غيره توافرت لهم ملاذات آمنة، منهم نجل بن لادن.
تفاوتت أماكن إقامة قادة “القاعدة” في إيران، بين شيراز وطهران، بمواقع تابعة لـ”الحرس الثوري”، كما تباينت العلاقة بينهم، بمرونة أحياناً، وخشونة وتضييق، أحياناً أخرى، بما يكشف عن الطبيعة البراغماتية بينهما واستخدامهم في إطار نفعي مصالحي مؤقت وتكتيكي.
غير أن اللافت في مقتل سيف العدل هو أنه كان يقود التنظيم من محل إقامته في طهران، بما يؤشر إلى وجود إدارة للتنظيم من قبل الملالي، وصحيح أنها قد لا ترقى إلى مستوى الوصاية التامة أو التبعية، لخصوصية التنظيم وتاريخه في الجهاد العالمي، لكن، حتماً، الأمن، الذي حظى به قادة التنظيم مكّن من حمايتهم والحفاظ على بقاء التنظيم من الناحيتين البنيوية والهيكلية، وإيجاد مسارات آمنة للتمويل والتدفقات المالية، وجعل هناك تفاهمات جمّة وارتباطات مصالحية بينهما، من الناحيتين السياسية والعملياتية. وربما، استخدمت إيران تنظيم “القاعدة” كورقة ابتزاز وضمن وسائلها التكتيكية في سياساتها للولايات المتحدة.
احتواء إيران لقادة “القاعدة”
بحسب الخارجية الأميركية، فقد أكد تقرير سابق للأمم المتحدة، مفاده أن سيف العدل الذي ترجع أصوله إلى مصر، وانتقل للجهاد الأفغاني منذ ثمانينات القرن الماضي، هو زعيم تنظيم “القاعدة” وكان يقيم بإيران، وذلك رغم نفي طهران من جهة، وعدم إعلان التنظيم المنصب بشكل رسمي من جهة أخرى. فيما سبق للناطق بلسان الخارجية الأميركية أن قال: “تقييمنا يتوافق مع تقييم الأمم المتحدة أن الزعيم الفعلي الجديد للقاعدة سيف العدل موجود في إيران”.
صهر القيادي المسؤول عن تنظيم “القاعدة”، مصطفى حامد، والذي يقيم في طهران هو الآخر، لم يتوانَ منذ حرب غزة عن دعم طهران، وترويج لخططها السياسية والعسكرية، فضلاً عن مقولاتها الاستراتيجية ببُعدها الإقليمي والعقائدي، مثل “وحدة الساحات”، بل إنه حرّض على تفجير معبر رفح الذي يزعم أنه متسبب في محاصرة غزة، وشنّ عمليات من سيناء في مصر، وفق ما جاء في مقاله: “أيها السادة: الكتائب والسرايا والفصائل المسلحة في غزة انسفوا بوابات رفح”.
تفاوتت أماكن إقامة قادة “القاعدة” في إيران، بين شيراز وطهران، بمواقع تابعة لـ”الحرس الثوري”، كما تباينت العلاقة بينهم، بمرونة أحياناً، وخشونة وتضييق، أحياناً أخرى، بما يكشف عن الطبيعة البراغماتية بينهما واستخدامهم في إطار نفعي مصالحي مؤقت وتكتيكي. ففي عام 2015، كان واضحاً أن بعض قادة التنظيم الإرهابي انتقل من طهران إلى سوريا في ظل عسكرة “الثورة السورية” بواسطة الدور الروسي والإيراني عبر ميليشياتها، أي أن “الحرس الثوري” لعب دوراً بشكل أو بآخر لتعبئة هؤلاء إلى سوريا، لتحويلها إلى حرب “جهادية” بوجه طائفي إسلاموي، وسواء كان ذلك قسراً أو طواعية. ومن بين هؤلاء أبو الخير المصري وأبو محمد المصري، وكل منهما أعلن مقتلهما بين عامي 2017 و2020.
وفي النصف الثاني من شباط/ فبراير الماضي، ذكر المبعوث الأميركي الخاص جيمس روبن، أنّه بالرغم نفي المسؤولين في النظام الإيراني المعلومات بشأن وجود قادة التنظيم الإرهابي على أراضيهم، إلا أن الحقائق تثبت وجودهم بإيران. وقال روبين إن “المسؤولين الإيرانيين ينفون المعلومات التي تؤكد وجود قادة القاعدة في إيران، لكنهم بالتأكيد موجودون هناك. لو رغب الإيرانيون في إنهاء وجود قادة القاعدة داخل بلادهم لفعلوا، لكنهم يرغبون في بقائهم هناك وهم مسرورون بوجودهم. إيران تدعم كثيراً من المجموعات السنيّة المتشددة من أجل إيجاد التوتر في المنطقة، ومن بين هذه المجموعات داعش والقاعدة وحماس”. وتابع: “نعلم أن إيران تزود المجموعات في العراق بالسلاح وتقوم بتدريبهم”، موضحاً أنها تعمل على زعزعة الاستقرار في العراق وسوريا.
إذاً، الارتباطات السياسية والتاريخية بين إيران وتنظيمات الإسلام السياسي السنية، لا تعدو كونها أمراً عرضياً أو طارئاً، بل هناك سوابق عديدة، وتعود لعقود بل قد رافقت اللحظة التأسيسية للتنظيم الإسلاموي الأم، أي جماعة “الإخوان”، في مصر. ففي أربعينات القرن الماضي، التقى مؤسس منظمة “فدائيو إسلام” نواب صفوي في القاهرة بالمؤسس الثاني لجماعة “الإخوان” ومنظرها الأبرز سيد قطب. والأخير ترجم له المرشد الإيراني علي خامنئي كتابه: “معالم في الطريق” والذي كان المرجعية لكافة التنظيمات الإسلاموية المسلحة والمتشددة وتأسست عليها الجماعات العنيفة والدموية، وكان بعنوان: “بيان ضد الحضارة الغربية”.
علاقة إيران بالجماعات الإسلاموية
وأخذت العلاقة مع جماعات الإسلام السياسي السُّني، وبخاصة الجهادي المسلح، أطواراً عديدة متطورة وتصاعدية، وهذا المنحى التصاعدي وصل إلى توفير بيئة أمنية لتدريب قادة تنظيم “القاعدة” مع “عملاء” تابعين للمخابرات الإيرانية في إيران وسهل البقاع بلبنان، كما يقول كولن كلاك من مجموعة صوفان وإسفنديار مير من جامعة ستانفورد، وترجمها “المركز العربي لدراسات التطرف”. ففي منتصف التسعينيات، بعد انتقال تنظيم “القاعدة” من السودان إلى أفغانستان، قدمت إيران الدعم اللوجستي لعناصر “القاعدة”.
وبحسب التقارير الأميركية، ففي عام 2016، واصلت إيران السماح لتنظيم القاعدة بنقل الأموال عبر إيران، وكذلك نقل الأفراد والموارد عبر مناطق الصراع الرئيسة، مثل سوريا وأفغانستان. ويبدو أن هذا قد استمر حتى عام 2020 على الأقل، عندما أشار تقرير وزارة الخارجية الأميركية عن الإرهاب إلى أن “طهران واصلت السماح لشبكة لتنظيم القاعدة بالعمل في إيران، وإرسال الأموال والمقاتلين إلى مناطق الصراع في أفغانستان وسوريا. وما زالت تسمح لقادة (القاعدة) بـ الإقامة في البلاد”.
ولفت تقرير سابق خلال العام الحالي لصحيفة “لونغ وور جورنال”، إلى أن تنظيم القاعدة المصنّف على قوائم الإرهاب، دشّن 8 معسكرات تدريب جديدة، و5 مدارس دينية، ومستودعاً للأسلحة، ومنازل آمنة في أفغانستان تُستخدم في تسهيل حركة عناصر التنظيم من وإلى إيران. وقد كشف عن احتماء قادة التنظيم بملاذاتهم الآمنة في المناطق المتاخمة للحدود الأفغانية الإيرانية، مثل ولايات هيرات وفرح وهلمند. ونقلت الصحيفة عن فريق أممي حقيقة “سفر أفرادٍ لـ تيسير الاتصال بين الزعيم الفعلي لتنظيم (القاعدة) في إيران سيف العدل، وكبار رجال التنظيم في أفغانستان، بمن فيهم عبد الرحمن الغامدي”.
وثمة وجه آخر لهذا التعاون البراغماتي بين قوى الإسلام السياسي السُّني وملالي طهران، يتمثل في التضحية بهم أحياناً عندما تفقد الحاجة لهم صلاحيتها، وذلك ما توضحه وثائق آبوت آباد والتي أخذت اسمها من تلك المدينة الباكستانية التي كان يحتمي بها أو يتخفى فيها أسامة بن لادن. وهذه الوثائق التي عثرت عليها القوات الأميركية وسرّبتها المخابرات المركزية، تنقل بعض تفاصيلها “العربية”، وتشير إلى “نصائح وجهها بن لادن لنجله حمزة، بمغادرة إيران إلى قطر”.
وتابعت: “علاقة المصالح المتبادلة بين طهران والقاعدة، شابها قلق لدى بن لادن من انقلاب طهران على أسرته، وهو ما دفعه لتحذير نجله حمزة المقيم في إيران من الوثوق بمستضيفيه. كما نصح في رسالة كتبها إلى ثلاثة من أبنائه وإحدى زوجاته، بترك ممتلكاتهم في إيران والتوجه إلى قطر، وذلك بحسب تسريبات الاستخبارات الأميركية لـ وثائق بن لادن. وكشفت رسائل بن لادن أيضاً عن رغبته في أن ينتقل نجله حمزة إلى قطر لدراسة العلوم الشرعية حتى يتمكن من مقاومة التشكيك في الجهاد وترسيخ قناعته، على حدّ تعبيره. قناعة ربما هي من أوصلت حمزة بن لادن إلى أن يُصنّف من قبل الولايات المتحدة في كانون الثاني/يناير الماضي بأنه إرهابي دولي”.
- تحرير مختطفة إيزيدية عراقية في غزة بمشاركة أميركية: ما علاقة “حماس” وإسرائيل؟
- السوريون على مشارف انتكاسة غير مسبوقة.. الحكومة تناقش موازنة 2025؟
- لأول مرة.. قصف يستهدف قاعدة “حميميم” الروسيّة
- “اليد اليمنى للسنوار”.. إسرائيل تعلن قتل رئيس حكومة “حماس” بغزة
- “بتضَلّك حبيبي يا تراب الجنوب”.. رسائل مؤثرة من فايا يونان إلى لبنان
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.