ظاهرياً، تقع تركيا بمنطقة وسط في علاقاتها الخارجية بين روسيا والولايات المتحدة. غير أن تحالفها الاستراتيجي مع واشنطن لم يعفها أبداً من تناقضات تخدش هذه العلاقة، ويتسبب في هذه الحالة المرتبكة وغير المستقرة، وذلك نتيجة الطبيعة المزدوجة في مواقفها ومصالحها، الأمر المتسبب فيه طبيعتها كدولة وظيفية. 

ففي فترة الحرب الباردة، كانت أنقرة بمثابة الشرطي للولايات المتحدة لمنع تسلل نفوذ الاتحاد السوفييتي للشرقين الأدنى والأوسط، وانضمت إلى “حلف بغداد”، بينما حظيت بعدة مكاسب ساهم فيها موقعها الجيو ستراتيجي، وسيطرتها على الممرات المائية، تحديداً مضيقي البسفور والدردنيل. ومع تأزم العلاقات مع السوفييت التي أخذت مراحل عديدة وشهدت تفاوتات جمة، يجيء الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الأميركي.

هذه الطبيعة المزدوجة في علاقة أنقرة مع واشنطن وموسكو، تبدو متكررة في التاريخ والحوادث السياسية، كما هو الحال في الوقت الراهن، لا سيما منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، وآخر تلك المحطات تحذير الولايات المتحدة لتركيا من مواجهة “تبعات جسيمة”، على خلفية دعمها روسيا بمعدات عسكرية وتقنية تابعة للجيش الأميركي، بينما تعد استراتيجية للآلة العسكرية الروسية.

واشنطن تحذر تركيا

مؤخراً، كشفت صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، عن لقاء جمع مساعد وزير التجارة الأميركي ماثيو أكسلرود بمسؤولين أتراك في أنقرة وإسطنبول، لاستكمال جهود بلاده بشأن منع وصول المعدات التكنولوجية المتطورة إلى روسيا، والتي وصفها بالتجارة “غير المشروعة”. 

ونقلت عن “أكسلورد” قوله: “نريد من تركيا أن تساعدنا على وقف التدفق غير المشروع للتكنولوجيا الأميركية إلى روسيا”، وتابع: “نريد أن نرى، وعلى وجه السرعة، تقدماً ملحوظاً من قبل السلطات والصناعة التركية، وإلا فلن يكون لدينا خيارات سوى فرض عواقب على هؤلاء المتهربين من ضوابط التصدير التي حددناها”. 

وبهذا يؤشر هذا التحذير، إلى وجود خلافات جمة وتكشف عن “أحدث العلامات بشأن توتر العلاقات بين الحليفين في الناتو، على خلفية قرار تركيا بالاحتفاظ بروابط تجارية قوية مع روسيا”.

الرئيس التركي أردوغان والرئيس الروسي بوتين – أرشيفية (إنترنت)

وتقول الصحيفة البريطانية، إن واشنطن تتخوف من أن تصبح تركيا “مركزاً رئيسياً تشق خلاله الإلكترونيات الغربية الصنع، بما في ذلك المعالجات وبطاقات الذاكرة وأجهزة التضخيم، طريقها إلى الصواريخ، والطائرات المسيرة الروسية، ما يمثل انتهاكا لضوابط التصدير”.

إذاً، فإن إرسال تركيا لمعدات تقنية وتكنولوجية عسكرية أميركية إلى روسيا، لا تبدو مسألة مثيرة للجدل، وقط، إنما تكشف عن حجم استفادتها القصوى والانتهازية من الصراعات المتأزمة بين واشنطن وموسكو، لا سيما في ظل الحرب الدائرة من قبل روسيا على أوكرانيا. هذا الموضوع يحمل تداعيات عدة على مسار الصراع، كما أنه يضع تركيا في موقف حساس على الساحة الدولية، لا سيما في علاقاتها مع الولايات المتحدة ودول “الناتو”.

ومن تلك التداعيات على مسار الحرب في أوكرانيا، المساهمة في “تقوية القدرات العسكرية الروسية، مما قد يؤدي إلى إطالة أمد الحرب أو زيادة شدتها. روسيا، التي تواجه عقوبات دولية واسعة النطاق وتأثيرات اقتصادية سلبية، قد تجد في هذه المعدات وسيلة لتعزيز قدراتها التقنية والعسكرية”، بحسب الصحفي السوري شيار خليل. وبالتالي، فإن ذلك قد يقلب موازين الحرب ضد أوكرانيا أو على الأقل يؤخر الحلول الدبلوماسية.

“انتهاك للثقة”

خليل يقول لـ “الحل نت”: “لا ننسى أن لذلك تأثيرات على العلاقات بين أنقرة وواشنطن، فالولايات المتحدة تعتبر تركيا حليفاً استراتيجياً ضمن حلف الناتو، إلا أن هذا الحادث قد يعرض العلاقات الثنائية للتوتر. واشنطن لطالما حذرت الدول الأخرى من تقديم الدعم لروسيا في ظل العقوبات المفروضة عليها، وأي تورط تركي في تقديم معدات ذات طابع عسكري لروسيا قد يُنظر إليه على أنه انتهاك للثقة بين الدولتين، ومن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى فرض عقوبات أميركية على تركيا أو تقييد التعاون العسكري والتقني بين البلدين”.

كما سيكون لذلك انعكاسات أوسع على السياسة التركية، تركيا، التي تتمتع بعلاقات معقدة مع روسيا من جهة ومع الغرب من جهة أخرى، قد تجد نفسها في وضع صعب، فهي تسعى للحفاظ على دورها كلاعب إقليمي قوي مع الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع القوى الكبرى على الساحة الدولية، أي قرار بمواصلة تقديم الدعم لروسيا قد يقوض هذا التوازن، ويضع أنقرة في مواجهة خيارات صعبة تتعلق بتوجهاتها الاستراتيجية المستقبلية. 

في المحصلة، فإن مثل هذه التحركات يمكن أن تُحدث اضطرابات في العلاقات الدولية، وتعقد الوضع في أوكرانيا أكثر، كما أنها قد تؤدي إلى انعكاسات سلبية على تركيا نفسها على عدة مستويات اقتصادية وسياسية وعسكرية.

ونهاية العام الماضي، سبق لوكيل وزارة الخزانة الأميركية لشؤون مكافحة الإرهاب والاستخبارات المالية، بريان نيلسون، أن عبر عن “خيبة أمله”، نتيجة هذا الدور المشبوه لتركيا وتجارتها “غير المشروعة”، وصادرتها التي تبعث بها إلى موسكو وتتضمن معدات وتقنيات مرتبطة بالجيش الأميركي. 

وتقول صحيفة “الشرق“: “تتعاون الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة، واليابان، لاستهداف التجارة في نحو 50 فئة من المنتجات المدنية ذات التطبيقات العسكرية، والتي يعتبرها الحلفاء أولوية قصوى للحرب الروسية في أوكرانيا”. فيما نقلت الصحيفة البريطانية عن مسؤول بوزارة التجارة الأميركية لم تكشف عن هويته، بأن تركيا تحتل المرتبة الثانية بعد الصين باعتبارها ثاني أكبر مصدر للسلع الأميركية بالعالم التي يتم إرسالها لموسكو. تأتي تركيا بعد الصين كثاني أكبر مصدر في العالم للسلع أميركية المنشأ، التي يتم إرسالها إلى روسيا.

واعتبر مساعد وزير التجارة الأميركي هذه التجارة تتسبب في “مشكلة ملحة”، ومحذراً الحكومة التركية من تداعياتها، بينما طالب بضرورة “تبني وتعزيز حظر إعادة شحن السلع التي تسيطر عليها الولايات المتحدة إلى روسيا”، وقال إن روسيا “تحاول استغلال سياسة التجارة التركية” للوصول إلى السلع الأميركية. وقد صنفت التجارة الأميركية نحو 18 شركة تركية في “قائمة الكيانات” “ويتطلب هذا من الشركات الأميركية الحصول على تراخيص نادرة، لبيع الأجزاء الحساسة إلى هذه المجموعة من الشركات التركية”. وطالت العقوبات شركات تركية نتيجة الأمر ذاته من قبل وزارة الخزانة الأميركية.

“تركيا الانتهازية”

وضوحاً، فإن إدارة البلدين الولايات المتحدة وتركيا لا تسعيان لتوسيع الخلافات، لكن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تواجه تحديات متزايدة في إدارة علاقاتها مع دول الشرق الأوسط، بما فيها تركيا، نتيجة لتباين المصالح والقضايا الاستراتيجية. كان آخرها ما يجري في غزة، حسبما يوضح الكاتب الصحفي المختص في الشأن التركي، درويش خليفة، موضحاً لـ”الحل نت”، أن إدارة بايدن قد تتخذ خطوات لتقليل هذه التوترات من خلال الحوار والدبلوماسية، ولكنها أيضاً قد تشدد من موقفها في بعض القضايا، إذا رأت أن مصالحها مهددة.

فالعلاقة مع أنقرة ليست بأحسن أحوالها منذ ترشح بايدن للانتخابات الرئاسية عام 2020، وانتقاده لسياسات عدة دول شرق أوسطية بما فيها تركيا، وتركيزه على ملف حقوق الإنسان في أنقرة. بالمقابل ترى تركيا أن “دعم البنتاغون لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال وشرق سوريا، يعد انتهاكاً صارخاً للعلاقة بين البلدين. إذ ترى تركيا بوجود صلات بين القوات في شمال شرقي سوريا وحزب العمال الكُردستاني الذي تصنفه أنقرة على لوائح الإرهاب وتلاحقه في دول جوارها”.

أما فيما يخص قضية تصدير أنقرة للرقائق الأميركية إلى روسيا، التي تغزو أراضٍ أوكرانية، فهذا يضع البلدين على اعتاب تصادم دبلوماسي – سياسي، قد يصل لإعاقة التفاهمات السابقة، بعد أن فرض الغرب (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة) عقوبات جمة على حكومة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لا سيما بعد شراء تركيا لمنظومة الدفاع الجوي الروسية  S-400، (إس-400) الأمر الذي أثار توتراً بعلاقة البلدين. 

ومن ناحية أخرى، قد تؤدي هذه الخطوة إلى تعميق العلاقات بين تركيا وروسيا، خاصة إذا كانت أنقرة ترى أن التحالف مع موسكو يخدم مصالحها الاستراتيجية. إذاً، نحن أمام عدة ملفات تتطلب تواصل وتعاون كبيرين بين قادة البلدين لإيجاد حلول لها، ترتبط معظمها بالنزاعات الحاصلة في الشرق الأوسط وأوكرانيا، بحسب خليفة، الذي يختتم بقوله: “سيكون تأثير هذه الخطوة مرهوناً بكيفية استجابة كل من أنقرة وواشنطن للأمر وبسياق العلاقة الأوسع بين البلدين في تلك اللحظة”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة