محمد جواد ظريف، رجل الدبلوماسية الأول في طهران، والذي يعرف تماما كيف يحرك الأمور، وبالتالي يعتقد أنه الملائم والمناسب ليكون في صنع القرار بإيران. ويعلم ظريف أن له شعبية كبيرة في إيران وخارجها، ويعمل دائما، كسياسي بارع، على مشاركة شعبيته في قراراته. وعندما جاء مساعداً للرئيس في الشؤون الاستراتيجية ورئيسا لمركز الدراسات الاستراتيجية، أعلن ذلك عبر حسابه على منصة “إكس/تويتر”. وعندما استقال من هذا المنصب، أعلن أيضا أسبابه على منصة “إكس/تويتر”، والفكرة هنا ليست أنه يستخدم وسائل التواصل مع جمهوره، إنما ذكاء ظريف في التعامل أولاً، لأنه يعرف مدى شعبيته ويعتمد عليها في التحرك. ومن ثم، فإن ظريف أراد أن يضع النظام الإيراني تحت الضغط الإعلامي. وهذا ما حدث بحضوره، ومع استقالته، ومع عودته مرة أخرى.

وثالثا، وهي النقطة الأهم، أن ظريف أراد أن يقول دون أن يعلن إن الإصلاحيين قادمون، خاصة وأن المحافظين كانوا سببا غير مباشر في استقالته، عندما أشاروا إلى أن نجل جواد ظريف يحمل الجنسية الأميركية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أننا لا نتعامل مع شخصية جواد ظريف الفردية، بل مع تيار كامل، وهو “الإصلاحيين”، الذي اختزل في أفراد أو في شخص ظريف على تحديداً.

عودة جواد ظريف إلى منصبه

بعد إعلان محمد جواد ظريف استقالته من منصبه كمساعد للرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية بعد عشرة أيام من تعيينه، وذلك نتيجة رفضه قائمة تشكيل الحكومة الجديدة التي قدمها الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى البرلمان، إلا أنه ظهر مجدداً ليعلن خبر عودته على منصة “إكس/تويتر” قائلاً: “اليوم، ذهب أعضاء الحكومة للقاء القائد الأعلى في ظل تواجد كبير للنساء والأعراق والمذاهب في الهيئة الحكومية، مما يدل على صدق وشجاعة الرئيس في تنفيذ وعوده الانتخابية، وآمل أن يستمر هذا النهج على هذا النحو وأن يتحقق التوافق الوطني على أساس التنمية التي تركز على الإنسان وتستند إلى الشعب”، وفق ما نقلته قناة “العربية“.

يظل السؤال قائم: هل هذه الحكومة تمثل ما وصفه ظريف بـ 70 بالمئة من لجنة الخبراء؟- “رويترز”

وتابع: “أنا وزملائي في مجلس الإرشاد واللجان نفتخر بأن ما يقرب من 70 بالمئة من الوزراء ونواب الرئيس وكثير من نواب الوزراء والمنظمات كانوا نتيجة اقتراحات خبراء في هذا المسار الشفاف والمفتوح للمشاركة. إن شاء الله، مع تلافي النقائص، سيتم ترسيخ هذه الطريقة…بعد المتابعات والمشاورات الحكيمة لرئيس الجمهورية.. سأواصل أداء مهامي في منصب نائب رئيس الجمهورية للشؤون الاستراتيجية”.

وبحسب ما جاء في مضمون كلام ظريف، فقد عاد وفق ضمانات معينة. وهذه الضمانات، وفق ظريف، قد تتمثل في وجود وجوه جديدة في الحكومة التي تمثل الأقلية، مثل تولي امرأة وزارة الطرق والإسكان، فضلا عن تعيين عبد الكريم حسين زادة، وهو سني كُردي، في منصب نائب الرئيس لشؤون التنمية الريفية والمناطق المحرومة في البلاد، والذي كان من شروط ظريف، تمثيل الأقليات، إضافة إلى وجود عباس عراقجي المنفتح على الحوار مع الغرب، ليشغل منصب وزير الخارجية.

ويعتبر عراقجي الأقرب إلى جواد ظريف بسبب وحدة النهج وأسلوب التعامل والحوار مع الغرب، مما جعل له دورا بارزا في مفاوضات عام 2015. ولعل هذا ما شجع جواد ظريف على العودة، ومنصب ظريف منصب مهم وفعّال، فهو مساعد للشؤون الاستراتيجية، أي أن كل شيء مرتبط بالسياسة الخارجية أو سياسة النظام، الذي بات محور اهتمام ظريف.

ومع ذلك يظل السؤال قائم: هل هذه الحكومة تمثل ما وصفه ظريف بـ 70 بالمئة من لجنة الخبراء؟. على أي حال، عودة ظريف تعني عودة الإصلاحيين، كما أشرنا سابقاً، ولذلك يعلم التيار الإصلاحي أن وضع هذه الحكومة بشكلها الحالي أفضل من الحكومة السابقة التي رفضها الشعب، وأفضل أيضاً من الحكومة الإصلاحية السابقة في عهد أحمدي نجاد، وأيضاً أفضل من عهد الرئيس الإصلاحي السابق، حسن روحاني، ذلك لأن الإصلاحيين يعرفون مدى خطورة الوضع الذي تمر به طهران اليوم، هذا من جانب.

ومن جانب آخر، يعرف الإصلاحيون وعلى رأسم ظريف أن المرشد الأعلى علي خامنئي هو المسيطر على كل شيء، ولا يستطيع ظريف ولا غيره تغيير قواعد اللعبة في طهران.

من هم الإصلاحيين؟ 

عندما نتحدث عن تيار المحافظين في طهران الداعمين لقوة الميدان، وتقدم تيار الإصلاحيين على أنهم الوجه المضاد لهم، فهذا لا يعني أننا نتعامل مع تيار الحريات والديمقراطيات الشاملة، بل الحقيقة هي أن الإصلاحيين هم أحد الفصائل الأيديولوجية للنخبة الحاكمة في طهران. حتى أن البعض يصفهم بأنهم إسلاميون مثل منافسيهم، ولكن مع شكل جديد أكثر اعتدالاً من أيديولوجية النظام.

ويرى المختص في السياسة الإيرانية أسامة الهتيمي في حديثه مع “الحل نت” أن “الضوء الأخضر الذي أعطاه المرشد الأعلى علي خامنئي لتولي بزشكيان رئيسا لإيران، يهدف بالأساس إلى تحميل التيار الإصلاحي الذي ينتمي إليه بزشكيان وظريف، عبء استئناف المفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص والغرب بشكل عام، بغية العودة للاتفاق النووي ورفع العقوبات التي التي أثقلت كاهل الاقتصاد الإيراني. ولذلك فإن قيادة ظريف للمشهد السياسي الإيراني مرة أخرى هي جزء من القيام بهذه المهمة، حيث كان وزيرا للخارجية وقت توقيع الاتفاق النووي عام 2015، وبالتالي، فإن التعويل عليه في المشاركة أو الإشراف على سير هذه العملية التفاوضية بات أمراً ملحاً وضرورياً بالنسبة للنظام الإيراني”.

لن نرى محاولات من الإصلاحيين لتغيير الثابت والمعروف في إيران. فمثلاً، منذ فوز الإصلاحيين في الانتخابات الرئاسية، أو حتى خلال وجودهم في الحكومات السابقة، لم يحاول أي من هذا التيار الحديث عن أزمة الحجاب أو “شرطة الأخلاق”.

المختص في السياسة الإيرانية أسامة الهتيمي لـ”الحل نت”

ويضيف الهتيمي، في هذا الإطار، حرص تيار المحافظين على عودة ظريف إلى منصبه والمهمة الموكلة إليه، كخيار اضطراري ولابد منه، وذلك لسببين. أولاً، أن التيار المحافظ غير قادر، بل وغير مستعد، لتحمل عبء العملية التفاوضية مع الغرب، وثانياً، أن الوضع الاقتصادي والسياسي في الداخل الإيراني أصبح بحاجة إلى بصيص من الأمل يخفف من حالة الاحتقان الشعبي المتصاعد، وهو ما منح بزشكيان فرصة أخرى لكي يلبي رغبات التيار الإصلاحي فيما يخص تشكيل الحكومة الجديدة. 

لكن هذا لا يعني أننا سنرى محاولات من الإصلاحيين لتغيير الثابت والمعروف في إيران. فمثلاً، منذ فوز الإصلاحيين في الانتخابات الرئاسية، أو حتى خلال وجودهم في الحكومات السابقة، لم يحاول أي من هذا التيار الحديث عن أزمة الحجاب أو “شرطة الأخلاق”، وهذا يرجع إلى توجهات المرشد الأعلى. ومن يتولى زمام الأمور في طهران هو المرشد الأعلى الذي سبق أن قال إن “الحجاب أحد أعمدة الدولة الإيرانية”. وبذلك أغلق تماماً أي محاولة للتغيير من قبل أي شخص. 

ولهذا الإصلاحيين هم كذلك مقارنة بالمحافظين في طهران، هذا غير محاولتهم الاستفادة من الوضع الراهن من خلال الشراكة مع الدولة عبر التواجد المباشر لظريف، والذي سيحاول الإصلاحيون من خلاله تقديم كل ما لديهم ليكسبوا المزيد من الصلاحيات.

لماذا الإصلاحيين؟

يشعر الإصلاحيين اليوم في طهران بشيء من الاستقرار المؤقت بوجود مسعود بزشكيان وبعودة وجود ظريف داخل الأروقة السياسية. ولم يغب ظريف عن المشهد السياسي في طهران حتى وإن كان وراء الكواليس. وكما يعتمد ظريف على شعبيته، فإن الإصلاحيين يعتمدون عليه كثيراً، ولهذا السبب ليس لدي الإصلاحيون اليوم ما يمنع من مد جسور التعاون مع المرشد الأعلى، فالتجربة التي يتم الإعداد لها الآن هي تجربة إصلاحية، حتى وإن كانت ظاهريا، فالمرشد تحرك قليلاً تجاه الإصلاحيين. وهم على علم بهذه الخطوة وسيعملون على الاستفادة منها.

لم يتردد المرشد الأعلى في القيام بما عليه من تمهيد الطريق أمام الإصلاحيين وإعلان رغبته في التفاوض مع الغرب-” صفحة جواد ظريف على منصة X”

ويعتبر توجه المرشد نحو الإصلاحيين محاولة للسيطرة على موازين القوى الداخلي في طهران، إذ لم تعد قوة الميدان هي الكلمة الفصل، خاصة مع تأخر الرد على مقتل رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، إسماعيل هنية. بل إن البعض بدأ يستبعد حدوث رد إيراني، خاصة مع وجود ظريف ورفاقه في السلطة، وأيضاً مع تصريحات المرشد الأخيرة بشأن التفاوض مع الغرب، حيث أعلن علي خامنئي إمكانية تجديد المفاوضات مع واشنطن بشأن البرنامج النووي.

وقال خامنئي لحكومة بلاده الجديدة إنه “لا ضرر” بالتعامل مع “عدوها”، مضيفاً أن “هذا لا يعني أننا لا نستطيع التفاعل مع نفس العدو في مواقف معينة”، لكن “لا ضرر بذلك، ولكن لا تضع آمالك فيها”. 

ولم يتردد المرشد الأعلى في القيام بما عليه من تمهيد الطريق أمام الإصلاحيين وإعلان رغبته في التفاوض مع الغرب، وكأنه يعطي تيار الإصلاحيين “الضوء الأخضر” لبدء التفاوض مع الغرب بشأن الملف النووي الإيراني. حتى أن بعض المحللين يرون أن المرشد عمل منذ اللحظة الأولى على وصول مسعود بزشكيان إلى الحكم.

كما وقد عمل المرشد بشكل مراوغ من خلال دفع جواد ظريف للأمام لمرافقة مسعود بزشكيان من أجل استغلال ترحيب الناس بظريف وبالتالي زيادة نسبة المشاركة، لأنهم الأكثر ملاءمة للمرحلة الحرجة التي تمر بها طهران، فضلاً عن أن النظام الإيراني قدم كل ذلك لأن لديه خطة لاستخدام الإصلاحيين بعد الانتخابات الأميركية، وفق تقدير المراقبين.

وفي هذا الصدد يرى الهتيمي أنه: “على الرغم من التباين بين كل من التيار المحافظ والتيار الإصلاحي في بعض الرؤى والإجراءات، فإن التيار المحافظ يدرك جيدا أن التيار الإصلاحي يلعب دورا وظيفيا مهما. أولا وقبل كل شيء، لم يخرج عن عباءة الثورة الخمينية، وهذا الدور الوظيفي أحوج ما تكون إليه إيران في هذا التوقيت الصعب”. 

وبالتالي يؤكد الهتيمي أن “هذا لا يعني مطلقا هزيمة التيار المحافظ أمام الإصلاحيين أو الرضوخ لإملاءاتهم وإنما هو سلوك براغماتي من بيت القائد، والتيار المحافظ يحقق واجب الوقت ويهدف إلى التعاطي بإيجابية مع الأزمات الإيرانية وتمرير العواصف العاتية التي تشهدها إيران، ويدعم ذلك أن كل شيء في إيران ما زال تحت سيطرة التيار المحافظ سواء من خلال الصلاحيات المطلقة الممنوحة للمرشد أو عبر السيطرة على المجالس المتعددة المشاركة في اتخاذ القرارات أو الموافقة عليها”.

وأخيرا، فإن النظام الإيراني يمر بمعترك دولي صعب، لا منفذ منه، بحسب تصوره، إلا من خلال الإصلاحيين الذين يمثلهم التيار الموجود في السلطة حاليا. ويحاول النظام إخضاعهم لمصلحته ولسياسته التخريبية في المنطقة. ومن ناحية أخرى، يحاول الإصلاحيون الاستفادة قدر الإمكان من وجودهم في السلطة، ولو أن هذا سيحولهم إلى أدوات في يد المرشد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات