العديد من التساؤلات تثار حول التحركات والتفاعلات الأخيرة التي تجري بين واشنطن وبكين، خاصة بعد الاتصال بين وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ونظيره الصيني الجديد، تشين وانغ، عبر الهاتف قبل أيام، بعدما عينت بكين الأسبوع الماضي سفيرها لها لدى الولايات المتحدة وزيرا جديدا للخارجية، وذلك ضمن إطار مناقشة سبل العلاقات بين البلدين وإبقاء خطوط الاتصال مفتوحة.

كذلك، مطلع شهر كانون الثاني/يناير الجاري، قال وانغ يي كبير الدبلوماسيين الصينيين في أول تصريحات له منذ تعيينه مديرا لمكتب الشؤون الخارجية لـ الحزب “الشيوعي” الصيني الحاكم، إن على الصين والولايات المتحدة السعي إلى الحوار بدلا من المواجهة، وتجنب الأخطاء التي ارتكبت خلال الحرب الباردة. وفي مقال رأي لصحيفة “واشنطن بوست” نُشر يوم الأربعاء الماضي، كتب وزير الخارجية الصيني الجديد فانغ، إن “مستقبل الكوكب يعتمد على العلاقات الصينية الأميركية المستقرة”.

لذلك بات من الواضح أن قادة الصين قد بدأوا عام 2023 بنبرة أكثر اعتدالا في رسائلهم، والتي يقول المحللون إنها قد تكون محاولة لإرساء الأساس لزيارة محتملة للرئيس شي جين بينغ إلى الولايات المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل لحضور قادة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ.

على الرغم من عدم وجود مؤشرات أو معطيات تشير إلى أي تخفيف لسياسة الحزب “الشيوعي” الصيني الخارجية تجاه الولايات المتحدة، ولا أي قبول للمخاوف الأميركية بشأن السلوك الصيني، فمن المهم طرح الأسئلة التي تُثار حول كل هذا، وهو إلى أي مدى يمكن أن ستتحسن العلاقات بين الدولتين، وهل يمكن لبكين أن تخفف من سياساتها العدائية تجاه دول الجوار في خضم الأزمات الدولية، وبالتالي يتجه البلدان نحو الحوار بدلا من المواجهة.

بالإضافة إلى مدى إمكانية أن يؤثر الموقف الصيني تجاه روسيا والحرب الأوكرانية على العلاقات بين واشنطن وبكين، والقضايا التي من شأنها أن تغذي الخلاف بين الطرفين بجانب القضايا التي من الممكن أن تقارب وتحسّن العلاقة بينهما.

تفسيرات التحركات الصينية

تشين، قبل تعيينه وزيرا لخارجية الصين في نهاية العام الماضي، شغل منصب سفير الصين لدى الولايات المتحدة منذ تموز/يوليو 2021، وهي تجربة قال عنها إنها تركت له “ذكريات مهمة عن هذا البلد”. وعاد تشين إلى الصين في وقت سابق هذا الأسبوع لتولي المنصب الجديد.

وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن

في معرض سرده عن زياراته للولايات المتحدة بالإضافة إلى تفاعلاته مع المسؤولين والباحثين ورجال الأعمال ووسائل الإعلام والأميركيين العاديين، قال تشين إن فترته كسفير لدى الولايات المتحدة “ستوفر قوة ثابتة لي كدبلوماسي. بالمضي قدما، ستظل تنمية العلاقات الصينية الأميركية مهمة أساسية لي في منصبي الجديد”.

“أترك الولايات المتحدة أكثر اقتناعا بأن باب العلاقات الصينية الأميركية سيظل مفتوحا ولا يمكن غلقه. كما أنني مقتنع أكثر بأن الأميركيين، تماما مثل الشعب الصيني، منفتحون وودودون ومجتهدون. إن مستقبل شعبَينا، بل ومستقبل الكوكب بأسره في الحقيقة، يعتمد على علاقة صحية ومستقرة بين الصين والولايات المتحدة”، وفق تشين.

قد يهمك: كيف يمول كيم جونغ أون مشاريعه النووية عبر قرصنة العملات المشفرة؟

تشين بدا متفائلا إزاء العلاقات مع الولايات المتحدة خلال فترة توليه منصب السفير الصيني القصيرة نسبيا، والتي استمرت 17 شهرا، لكن تلك الفترة تزامنت مع تدهور العلاقات بين القوتين العُظمتين. وشهدت الفترة التي قضاها تشين وزيرا للخارجية ارتفاعا حادا في التوتر بين بكين وواشنطن حيال مجموعة واسعة من القضايا مثل التجارة وتايوان.

ضمن هذا السياق يرى، المحلل السياسي والمستشار السابق في وزارة الخارجية الأميركية، حازم الغبرا، تواصل بكين معاملة واشنطن وجميع دول العالم بأسلوب “التاجر” الذي يعامل زبائنه. ولذلك تدرك الصين أن السوق الأميركية سوق أساسي ووجودي لاستمرار الصين.

كما ترى بكين نفسها على أنها دولة لم تعد مجرد مصنع لما يحتاجه الغرب، ولها تاريخ طويل، كدولة كبرى، وبالتالي تريد العودة إلى دور معين أو إيجاد دور معين على الساحة الدولية. بمعنى أنها تريد أن تقول “نحن الصين الجديدة ولم نعد تلك الدولة في السبعينيات، فهي الآن قوية اقتصاديا وعسكريا، ويمكننا فعل ما نريد وفرض اتجاهنا في السياسة الخارجية، خاصة فيما تعتبره الصين أراضيها في المنطقة المحيطة بها، تايوان مثلا”.

نبرة معتدلة؟

في المقابل، فإن الحوار مستمر بين الطرفين، ولا يوجد تغيير في اتجاه الحوار والدبلوماسية بينهما، وفق تقدير الغبرا الذي تحدث لموقع “الحل نت”، ولكن هناك انتهاكات كبيرة من جانب الحزب “الشيوعي” الصيني، خاصة في المجال الجوي التايواني والدور الذي يلعبه في السياسة الدولية اليوم، وبالتالي هناك العديد من المشاكل مع ما تفعله الصين، وتعتبر نفسها منافسة للولايات المتحدة وليس شريكا، حتى لو قال خلاف ذلك، لكن واقع ما يحدث داخل الصين هو أنه يعتبر واشنطن هدفا وعقبة أمام أن “تكون الصين دولة كبرى في العالم”.

بالطبع، تعلمت واشنطن الكثير من الحرب الباردة والحروب الأخرى التي خاضتها في القرن الماضي وبداية هذا القرن. كما أن الصين ليست معصومة عن المشاكل، حيث أن لديها العديد من المشاكل الداخلية، مثل قضية الأقليات والقضايا الاجتماعية، وهناك اعتماد كبير لـ الحزب “الشيوعي” الحاكم على النمو الاقتصادي المتواكب حتى يتمكن هذا الحزب من الاستمرار في دفة الحكم، وفق تعبير الغبرا.

الغبرا أشار إلى أنه في الصين هناك نوع من المقايضة بين الشعب الصيني والحزب الحاكم، على أساس أن “الحريات ستكون محدودة وأن الحزب الشيوعي الحاكم الأوحد والسياسة مهما كانت صعبة ومجحفة، يجب تنفيذها مقابل توفير النمو الاقتصادي والأمن في البلاد”، وبالتالي أي تغير فيما يستطيع الحزب “الشيوعي” تقديمه، سيكون له رد فعل قوي من الصينيين، خصوصا في الوضع الاقتصادي ونموه في البلاد. لذلك يمكن تفسير اللهجة الصينية المعتدلة الحالية تجاه واشنطن، بأنها نتيجة الضغوط الداخلية وفي إطار السعي لتهدئة بيئتهم الخارجية للتركيز على التحديات الداخلية.

نزع الشركاء

الغبرا، قال إن واشنطن مستاءة جدا من تحركات الصين وأفعالها مع أعداء واشنطن، مثل روسيا وحتى كوريا الشمالية. كما ترى الولايات المتحدة إن بكين تحاول كسب الحلفاء التقليديين لواشنطن، مثل منطقة الخليج العربي ودول عربية أخرى، لذلك فهي قلقة بشأن أي تحرك صيني، ذلك لأن فكر بكين يقوم على المنافسة وليس الشراكة، بمعنى السيطرة وسحب شركاء وحلفاء واشنطن.

يرى مراقبون وخبراء أن العديد من القضايا ما تزال مُرشحة لتأجيج الخلاف بين الولايات المتحدة والحزب “الشيوعي” الحاكم في الصين، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية.

كما أن هناك تخوفات أميركية من أي خطوة تتخذها بكين، والتي قد تكون مصممة لإضعاف واشنطن، سواء اقتصاديا أو سياسيا، رغم أن واشنطن تتحدث دائما عن الشراكات وأهميتها، على غرار الجانب الصيني الذي يفكر في المنافسة والسيطرة، وفق تقدير الغبرا.

القضايا العالقة

أما بالنسبة للقضايا العالقة التي يمكن أن تؤجج الخلافات بين الطرفين، فمن المؤكد أن تايوان هي القضية الكبرى، وفق تقدير الغبرا، لكن من الممكن ألا يقوم الطرفان بأي تحرك تجاه هذه الدولة، حيث يتمسك الطرفان اليوم بسياسة معينة، ومع ذلك، هناك قضايا ومشاكل أخرى، مثل دعم بكين لروسيا في هذه المرحلة، كما أن هناك مخاوف أميركية من التوسع العسكري الصيني خارج أراضيها، كبعض دول القارة الإفريقية إلى جانب دول أخرى، وقد تؤدي هذه التحركات إلى أزمة بينهما، بمعنى أن أي خطأ عسكري صغير قد يولد جبهة كبيرة.

قد يهمك: مناورات بحرية مشتركة بين روسيا والصين.. تغيير في “العقيدة التسليحية”؟

بينما الجانب الأميركي، وفق الغبرا، لا يقوم بأي تحركات ضد الجانب الصيني، فمثلا لا يسرق التكنولوجيا من الصين كما تفعل هي، والتحركات العدائية الذي يقوم بهذا الحزب “الشيوعي” الصيني تجاه دول الجوار، بمعنى أن سياسة واشنطن مرنة للغاية مع بكين، مع كل الأخطاء التي ارتكبتها الصين لإضعاف النفوذ الأميركي.

كيفية تحسين العلاقات

إذا كان هناك أي شيء، فمن المرجح أن تضاعف الصين في العام المقبل 2024 ضغوطها على تايوان وجهودها لفرض إرادتها على هونغ كونغ. ستواصل بكين ممارسة القبضة الحديدية ضد أي تلميحات عن معارضة محلية. وستحافظ على إحكام قبضتها على المناطق التي تضم أقليات عرقية كبيرة، بما في ذلك شينجيانغ والتبت ومنغوليا الداخلية.

كما أنه من غير المرجح أن ينحسر النشاط الدبلوماسي الصيني، وسيقوم جيش “التحرير الشعبي” بتوسيع نطاق وتواتر عملياته مع نمو قدراته. كما لن تقدم الصين أي خدمة للولايات المتحدة بشأن كوريا الشمالية، وسيواصل الرئيس الصيني شي، الاستثمار في علاقته مع وروسيا، وفق المراقبين.

لذلك، ربما ستتخذ واشنطن من جانبها إجراءات تعتبرها بكين بمثابة زيادة في الديناميكيات التنافسية في العلاقة. وبالتالي سيكون هناك المزيد من الزيارات رفيعة المستوى للكونغرس إلى تايوان. وسيثير مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون الانتقادات العلنية للأنشطة الصينية، بما في ذلك عن طريق التحقيق في أصول فيروس “كورونا”.

سيتنافس المرشحون الرئاسيون الجمهوريون للتغلب على بعضهم البعض في تشددهم تجاه الصين. سوف تستثمر إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في الجهود الائتلافية لتعزيز الردع في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وفي الحد من التقدم التكنولوجي للصين في المجالات الحساسة للأمن القومي.

بالتالي، سيكون من الحكمة أن تقدم إدارة بايدن أهدافها الملموسة للعام المقبل. توفر رحلة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى الصين في الربع الأول من عام 2023 فرصة للولايات المتحدة لوضع جدول الأعمال. من خلال وضع أهداف وعلامات ملموسة للنهوض بها، يمكن أن يوجه بلينكن العلاقة نحو أولويات واهتمامات أميركا العليا. وسيوفر تركيز الصين على البصريات الإيجابية لزيارة شي، إلى الولايات المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل فرصة للاستفادة من الشكل إلى الجوهر.

على الجبهة الأمنية، يمكن للجانبين اتخاذ خطوات عملية لتقليل المخاطر. ويشمل ذلك التوصل إلى اتفاق بشأن حدود استخدامات التقنيات الجديدة والناشئة في المناطق التي يكون فيها كلا الجانبين عرضة للخطر ولا توجد فيها قواعد في الوقت الحالي. على سبيل المثال، قد يستفيد كلا الجانبين من خلال وضع قيود على استخدامات أنظمة الأسلحة المستقلة المزودة بالذكاء الاصطناعي.  كما أن كلا البلدين عرضة للأوبئة في المستقبل. لديهم مصلحة ذاتية مشتركة في إنشاء شبكة عالمية لمراقبة الأمراض للكشف عن تفشي الفيروسات في المستقبل قبل انتشارها، بجانب تداعيات تغير المناخ، بالإضافة إلى العديد من الأزمات العالمية الأخرى، وفق مراقبين.

من جانبه قال الغبرا إن الصين هي “صناعة أميركية” عندما استمالت واشنطن بكين من الاتحاد السوفيتي حيث كانت الصين حينها دولة ضعيفة اقتصاديا واستطاعت واشنطن من خلال قوانين الاستيراد والدعم للصين، أن تؤدي بها إلى نمو سريع ومحموم، على مدار نصف القرن الماضي، وما يمكن أن يخلق ساحة للحوار وتحسين العلاقات، هو تخلي الصين عن سياساتها ومواقفها، لأنه أصبح من الصعب على الجانب الأميركي إبداء مزيد من المرونة.

بالتالي تحسين العلاقات وتقليل حدة التوترات والتصعيدات بين واشنطن وبكين، يتطلب مرونة حقيقية وفعلية من الجانب الصيني بالتحديد، على اعتبار هي من تؤجج وتقوم بتحركات عدائية تجاه العديد من الدول ودعم الأنظمة الدكتاتورية، فضلا عن الأعمال الأخرى التي تقلق الولايات المتحدة، حيال هذا السلوك النابع من الحزب “الشيوعي” الصيني.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.