لا يزال المشهد السياسي الليبي يتسم بالتعقيد، بل ويزداد يوما بعد الآخر، نتيجة عدم توافق الفرقاء السياسيين وسعي كل طرف بالسيطرة على الآخر وبالتالي تراكم العقبات أمام إنجاز الاستحقاق الانتخابي ومن ثم تأزم العملية السياسية ككل.

في آخر التطورات التي شهدتها الساحة الليبية، انتُخب محمد تكالة، يوم أمس الأحد رئيسا لـ”المجلس الأعلى للدولة” الذي يتخذ من العاصمة الليبية طرابلس مقرا له لولاية أولى، وذلك إثر فوزه في نتائج الجولة الثانية على حساب الرئيس السابق للمجلس خالد المشري، الذي قضى خمسة أعوام في قيادة المجلس.

من هنا تبرز بعض التساؤلات حول المستفيد من هذه التغييرات في المشهد الليبي، وانعكاسات انتخاب تكالة على مسار الانتخابات والعملية السياسية في ليبيا، وهل ستكون هناك إطاحة بأشخاص آخرين خلال الفترة المقبلة، مثل عقيلة صالح رئيس “البرلمان الليبي” الذي يؤيد خارطة الطريق وتمديد الفترة الانتقالية.

الشعب الليبي هو “الخاسر”

تكالة، الذي كان يشغل منصب رئيس اللجنة الاقتصادية بالمجلس، حصل خلال الجولة الثانية في الانتخابات التي جرت يوم الأحد الماضي على 67 صوتا، في جولة الإعادة مع منافسه المشري، الذي حاز على 62 صوتا، وسط منافسة حادة شارك فيها عضوان آخران، هما نعيمة الحافي، وناجي مختار.

خسارة المشري تعني استفادة عبد الحميد الدبيبة- “وكالات”

اللافت أن الجولة الأولى شهدت تنافسا بين أربعة مرشحين، إذ ذهب 49 صوتا لخالد المشري، و39 لمحمد تكالة، و36 لناجي مختار، وأربعة أصوات لنعيمة الحامي. وتأتي هذه الانتخابات تنفيذا للائحة الداخلية للمجلس الأعلى للدولة التي تنص على إجراء انتخابات رئاسة للمجلس كل عام، وفق ما نقله موقع “إندبندنت عربية“.

المحلل السياسي الليبي، إدريس أحميد، يعتقد أنه إذا تم التحدث عن المصالحة الوطنية العليا، فإن لا أحد مستفيد من هذه الخلافات الضيقة التي تجري في المشهد السياسي الليبي. أما بالنسبة لانتخابات “مجلس النواب” الليبي فلا يمكن تغيير المناصب أو الأسماء أو الصفات دون تصويت النواب، لكن المشكلة أن الانتخابات البرلمانية لم تجرِ منذ 9 سنوات وهنا تبرز المعضلة، إذ هذا البرلمان لا يزال يسيطر على المشهد السياسي الليبي.

لذلك إذا لم تجرِ انتخابات للبرلمان الليبي وبتصويت من الشارع الليبي سيكون لذلك تداعيات سلبية جمّة على العملية السياسية، وإن طالت مدة بقاء “مجلس النواب” دون تغيير في أعضائه، لكنه السلطة الشرعية للبلاد، وبالتالي فإن هذا الجمود قد يدخل البلاد في فراغ ويُخلط الأوراق مرة أخرى، ولهذا يجب إجراء انتخابات برلمانية جديدة، ويتم ذلك بشفافية من قبل الليبيين، وفق أحميد لموقع “الحل نت”.

لكن فيما يخص بانتخاب محمد تكالة، فإن “المجلس الأعلى للدولة” ملتزم بالانتخابات وتداول السلطة كل عام، ولعل هذه سمة جيدة في المشهد الليبي. لكن يبدو واضحا أن الإطاحة بالمشري يأتي في صالح تركيا التي تصادمت خلال الفترة الأخيرة مع المشري، خاصة وأن المشري يؤيد إنهاء وجود الحكومة منقضية الولاية “حكومة الوحدة الوطنية” بزعامة عبد الحميد الدبيبة، وهو ما يخالف توجهات أنقرة.

كما وكان التوتر بين المشري والدبيبة، قد بلغ ذروته خلال منتصف تموز/يوليو الماضي عندما منعت السلطات سفر عدد من أعضاء “مجلس الدولة” إلى تركيا، وهو ما تزامن مع أنباءٍ بشأن تراجع أنقرة عن دعم الدبيبة لكن سرعان ما تبددت تلك الأنباء بعد زيارة وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش، إلى تركيا والحفاوة التي قوبلت بها.

أما دعوة تكالة الذي يربطه علاقات جيدة مع “حكومة الوحدة الوطنية”، عقب انتخابه إلى إعادة التوحيد وإنقاذ البلاد من خلال التفاهمات وإنهاء الخلافات وإجراء الانتخابات، فإن هذا الخطاب لو تم تنفيذه فعليا، فسيسهم في تحريك العملية السياسية، لا سيما فيما يتعلق بالتفاهم مع “مجلس النواب”، لكن ليس من الواضح إذا كان قادرا على التوازن في تحقيق ذلك، وفق أحميد.

يتكون مكتب رئاسة “مجلس الأعلى للدولة” من رئيس، ونائب أول يمثل جنوب البلاد، ونائب ثاني يمثل الشرق، فيما يكون الرئيس ومقرّر المجلس من الغرب، وفق اللائحة الداخلية لمجلس الدولة.

الرجوع إلى المربع الأول!

عقب فوز تكالة، ولدت حالة من الجدل في الشارع السياسي الليبي، الذي أكد شقِّ منه أن الدبيبة استطاع إبعاد المشري من منصبه بدعم تركي على خلفية الخلافات السياسية بينهم، فيما تخوف آخرون من عودة المشاورات السياسية للمربع الأول، بخاصة وأن رئيس “البرلمان” عقيلة صالح، أصبح وحيدا سياسيا على خلفية خسارة حليفه من القطب الغربي انتخابات مجلس الدولة اليوم.

كذلك، ترددت أنباء حول حصول تكالة على دعم أطراف مقربة من الدبيبة، كي يطيح بالمشري الذي أخذ موقفا مؤيدا لتشكيل حكومة موحدة جديدة الأمر الذي لا يتوافق معه الدبيبة، بل ويرفضه تماما. فيما يواجه الدبيبة اتهامات بأنه يسعى لإفشال أي خطوة تفضي للانتخابات.

المحلل السياسي الليبي يرى أن تكالة شخصية جديدة ولها رؤية ووجهة نظر حتى لو اختلفت عن وجهة النظر السابقة، ولكن يبقى الرهان على مدى توافق هذه الرؤية مع مصلحة الشعب الليبي ومنح دفعة لتحريك عجلة العملية السياسية أو الانتخابية.

أحميد يشير إلى أن المشهد الليبي لا يتحمل العودة إلى نقطة الصفر، أي البدء بلقاءات وحوارات ومناقشات جديدة بعد التطورات التي حدثت في مدينة بوزنيقة المغربية بخصوص لجنة “6+ 6″، أي ضرورة استكمال ما هو موجود بالفعل، وعدم تفجير كل ما تم العمل عليه خلال السنوات الماضية، أي عدم التراجع عن الخطوات التي اتخذها المشري بشأن الموافقة على تشكيل الحكومة الجديدة، والتوافق مع “مجلس النواب” حول خارطة الطريق للانتخابات.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والدبيبة-“إنترنت”

أحميد استدرك في حديثه، إن اتجاه تكالة إلى مسارات جديدة وبعيدة عن مصالح الليبيين، من شأن ذلك خلق توترات وانقسامات سياسية جديدة، بالنظر إلى أن انتخاب تكالة جاء بفارق خمسة أصوات فقط؛ ما يعني أن كتلة كبيرة ما زالت مع المشري وضد توجهات الدبيبة.

تأزيم المشهد السياسي

مما لا شك فيه أن المعضلة الأساسية في المشهد الليبي هو زيادة الضغوط الخارجية وصراع  المصالح بين القوى العظمى والتي من بينها إيطاليا وفرنسا وروسيا وتركيا. وحالة الاستقطاب بين الفرقاء السياسيين والتي تغذيها أطراف خارجية تدّعي أنها تبحث عن حلول وأُفق سياسية، بيد أنها العقبة الأساسية أمام إنهاء حالة الجمود السياسي في البلاد، ومن دون إنهاء حالة التبعية هذه، فإن كل الجهود الأممية الرامية لإيجاد بارقة أمل لأزمة لليبيا ستكون بمثابة إضاعة وقت، بل وربما قد تؤدي إلى إدخال البلاد إلى مسارات أكثر قتامة.

خلال الفترة الماضية، سحب “مجلس النواب”، الثقة من رئيس الحكومة الليبية فتحي باشاغا، وذلك لعدة أسباب ولعل أبرزها فشله في دخول العاصمة كما وعد خلال العام الماضي. وما حدث حينها يمكن رؤيته من عدة زوايا منها أن المستشار عقيلة صالح تقدّم خطوة عبر التضحية بباشاغا في سبيل حكومة تنفيذية مصغرة كما يطالبه المجتمع الدولي في شأن توحيد السلطة التنفيذية وبالتالي صالح كان يتوقع أن تضغط القوى الفاعلة بأن يسلّم الدبيبة، مقاليد حكومته صوب تلك الحكومة التي يتعلق حضورها بإجراء الاستحقاق الانتخابي الرئاسي خلال العام.

إلا أن ما حدث من خلال الإطاحة بالمشري، جاء بعكس التوقعات، ويُعتبر بمثابة ضربة في جهود عقيلة صالح الذي يدعم خارطة الطريق وتمديد الفترة الانتقالية. ويشير أحميد هنا إلى أن تفاهمات عقيلة صالح والمشري، كانت تواجه برفض من الدبيبة، ولذلك يعتقد أحميد أن تفاهم المجلسين أو خلافهما ربما كان له تأثير، وأدى بالبعض لاقتناص الفرصة وتوظيف الثغرات لصالحهم. ولولا الدعم من تيارات الإسلام السياسي للدبيبة، ودعم الأخير لتكالة، لما تم الإطاحة بالمشري وتياره.

أحميد يرى أن المشهد الليبي يفتقر إلى الضغط الشعبي، ما فتح المجال أمام هذه الأطراف للبقاء في المشهد السياسي والصراع على المصالح الضيقة. لذلك فإن ما يحدث الآن هو تعطيل للعملية السياسية الليبية، بالنظر إلى أن “المجلس الأعلى للدولة” يضم أحزابا موالية للمشري وأحزابا متطرفة وأحزابا مستقلة. وبالتالي المشهد السياسي يتّسم بنوع من الضبابية وربما يحتاج إلى تحرّك جذري.

في العموم، فوز تكالة المدعوم من “حزب العدالة والبناء” ذي المرجعية الإسلامية، وبدعم من رئيس الحكومة المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة، يعني أن التدخلات الخارجية ما تزال كبيرة وعميقة، وبالتالي سيحمل معه تداعيات سلبية جمّة على المشهد السياسي الليبي.

بالتالي قد يخلق حالة انقسام أكبر في المشهد السياسي، على اعتبار أن المشري يحظى بقبول إقليمي ودولي نتيجة تأقلمه مع المتغيرات المحلية والإقليمية، مثل تقارب وجهات النظر بين حكومتي مصر وتركيا، بينما الدبيبة، المدعوم من تركيا، يسعى إلى إفشال أي توافق بين “مجلسي النواب والدولة”، بغية التفرد بالسلطة في ليبيا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات