لا شيء يلوح ماثلا للناظرين؛ غير أن هناك تحركات وتصريحات عبر كافة الفاعلينَ المحليينَ مرة تجاه بعضهم البعض وأخرى ردّا على مبادرة المبعوث الأممي الخاص لدى ليبيا، عبدالله باثيلي، تبدو معها الأحداث وكأن ثمة جديد يفتح ممرّا آمنا نحو الانسداد السياسي في ليبيا.

بيد أن حقائق الأمر تذهب بعيدا عن فرص الانفراجة وحلحلة الأزمة بفعل عوامل عدة تستقر إزاء تشبّث كل طرف بما يملكه من آليات السياسة والقوة الميدانية، مما يضع فعل السياسة وظل السلاح كوتر قوس سهم مشدود ما يلبث أن تترقبه قوى إقليمية ودولية لدفعه نحو الانطلاق وتوظيف ذلك خدمة لمصالحهم وأهدافهم على المستوى الإقليمي والدولي.

تركيا تمدد تواجد قواتها في ليبيا

في هذا السياق جاءت موافقة البرلمان التركي نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت على المذكرة الرئاسية التي طلبت بتمديد مهمة القوات التركية في ليبيا لمدة جديدة تصل إلى أربعة وعشرين شهرا، غير أن هذه المرّة تختلف بالكلية سيما مع كافة التبدلات التي طرأت مرة على مستوى علاقات أنقرة مع القوى الإقليمية الأخرى خاصة مصر والتطور الإيجابي الذي لحق بعلاقاتهما الثنائية، والوصول لدرجة تبادل السفراء وأخرى تتعلق بالتطور الذي لحق بعلاقات تركيا مع قوى الشرق الليبي، وحضور أنقرة مؤتمر إعادة إعمار درنة الذي نظّمه الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، فضلا عما أوردته مصادر ليبية مطّلعة بقرب زيارة المستشار عقيلة صالح رئيس “مجلس النواب الليبي” للعاصمة التركية خلال الشهر الجاري.

قوات تركية في ليبيا- “صورة أرشيفية من الإنترنت”

وفي إطار ذلك، أشارت المصادر التي فضّلت عدم البوح بهويتها في سياق حديثها لـ”الحل نت” أن تلك الزيارة ستأتي بناء على دعوة تلقاها رئيس مجلس النواب وستكون نقطة مركزية نحو التوافق مع رئيس “المجلس الأعلى للدولة الليبية” محمد تكالة، وكذا العمل على التقدم في تلك المباحثات بينهما على خلفية اللقاء المشترك الذي جرى بينهما في القاهرة خلال الأسبوع الأول من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، ومشاورات تكالة مع القوى  الدولية مؤخرا خلال زيارته للولايات المتحدة الأميركية وكذا روسيا.

يأتي رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبدالحميد الدبيبة، كأبرز نقاط الخلاف فيما بين رئيس مجلس النواب ورئيس المجلس الأعلى للدولة، إذ يعتبر الأخير أحد حلفاء الدبيبة في العاصمة الليبية طرابلس وكذا الضامن الرئيس والفاعل للحضور الميداني للقوات التركية في الغرب الليبي، بينما يقف عقيلة صالح في مواجهة عبدالحميد الدبيبة ويدفع بكل قوة نحو ضرورة تشكيل حكومة انتخابات موحدة بعيدا عن الأخير للدرجة التي دفعت رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، مراسلة محافظ المصرف المركزي الليبي، الصديق الكبير، يطلب منه وقف صرف الباب الثالث الخاص بالتنمية حيث طلب صالح من محافظ المركزي إيقاف توزيع أي مبالغ من باب التنمية إلا بموافقة لجنة التخطيط والمالية والموازنة العامة بالمجلس كما أنه عمم المراسلة على النائب العام ورئيس ديوان المحاسبة ورئيس هيئة الرقابة الإدارية ووزارة المالية.

لذا ترى المصادر ذاتها أن تلك النقطة ستكون واحدة من محطات التفاوض والنقاش فيما بين أنقرة ورئيس مجلس النواب، إذا ما سارت الأمور على النحو التي تجعل من الزيارة واقعا ملموسا فضلا عن تصاعد درجة التوافق بين المجلسين حول القوانين الانتخابية ومدى ملائمتها للفاعلين الدوليين خاصة فيما يتعلق بترشح بعض الشخصيات المثيرة سيما نجل سيف الإسلام القذافي نجل العقيد الراحل.

لا ريب أن قرار تمديد بقاء القوات التركية في ليبيا يرتبط بشكل وثيق بعلاقات أنقرة مع كافة التشكيلات المسلحة في غرب ليبيا والتي تتعاون مع قادة القوات التركية في الغرب الليبي، والتي بدورها تعمل على تأمين حكومة الوحدة الوطنية ورئيسها عبد الحميد الدبيبة، فضلا عن كون الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ينظر لوجود تلك القوات باعتباره نقطة مركزية تعمل من خلالها في جغرافيا الساحل والصحراء الإفريقية، خاصة بعد تراجع النفوذ الأوروبي، سيما الفرنسي بعد تكرار تجربة الانقلابات في غرب إفريقيا.

إذن من الصعوبة بمكان فصل قرار التمديد بعيدا عن ارتباط تركيا بتنظيمات الإسلام السياسي في ليبيا والتشكيلات المسلحة التابعة لها بغية تحقيق جملة مصالحها سواء على مستوى الحضور الميداني داخل ليبيا وكذا ما يتعلق بالمضي في مشروعات الطاقة والتنقيب عنها في السواحل الليبية.

براغماتية تركيا

من جانب آخر، نوّهت مصادر تركية مطلعة إلى أن أنقرة تدرك جيدا خطواتها في ليبيا ومدى تعلق ذلك بالوضع الجيواستراتيجي لجغرافيا شرق المتوسط كما أنها تفطن يقينا لنقاط التماس مع القاهرة، خاصة مع التقدم الملموس في العلاقات بينهما وتحرص على أن تمضي الأمور دون أي احتمالات لتجدّد الصراع في النقاط المشتركة.

ستعمل تركيا على ضمانة أهدافها وحضورها الميداني والاقتصادي في ليبيا وكذا تموضعها في تلك النقطة المؤثرة شرق المتوسط.

مصدر خاص لـ”الحل نت”

أردفت المصادر التي تحدثت إلى “الحل نت” أن تركيا تتحرك في سيناريو ليبيا بنفس الآليات التي عملت بها مع إيران في المساحات المشتركة دون أن ينفجر الصراع بينهما في هذه المساحات وأن يعمل الجميع وفق مصالحه وأهدافه دون التحرش بالآخر وعلى ذلك تأمل أنقرة أن يمضي ذات السيناريو في ليبيا وتنجح في دفع الأمور صوب أهدافها دون تفجر الصراع مع الأطراف الأخرى.

إذن، ترى المصادر أن تركيا ستعمل على ضمانة أهدافها وحضورها الميداني والاقتصادي في ليبيا وكذا تموضعها في تلك النقطة المؤثرة شرق المتوسط دون التقيد بأسماء محددة والالتزام بحمايتها والاحتفاظ بمناصبها على حساب رؤيتها الاستراتيجية. وتضيف المصادر أن ذلك لا يمنع أن تكون ورقة ليبيا وتمركزات أنقرة الميدانية في الغرب الليبي إحدى نقاط مفاوضاتها مع الغرب والولايات المتحدة الأميركية في مساحات أخرى داخل الشرق الأوسط.

من جهة أخرى، اصطدمت دعوة المبعوث الأممي إلى ليبيا عبدالله باثيلي بالأطراف السياسية الرئيسية إلى طاولة حوار جديد لحل خلافات الانتخابات بعدة عقبات قد تجعلها والعدم سواء خاصة بعد رفض البرلمان المشاركة فيها بينما رحب رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة بالمبادرة ورحب بالمشاركة فيها واعتبر أن أمر مشاركته سيكون كمعبر عن صوت المواطنين.

هذا وقد دعا باثيلي الـ 5 الأطراف الرئيسية في البلاد إلى حوار سياسي وهم رؤساء البرلمان عقيلة صالح، والمجلس الأعلى للدولة محمد تكالة، وحكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، ومعهم رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، وقائد الجيش الليبي خليفة حفتر، وذلك في محاولة جديدة لجمعهم وإعداد خارطة انتخابية توافقية.

عقبات أمام الاستحقاق الانتخابي

إلى ذلك رفض البرلمان المشاركة واتهم في بيان البعثة الأممية بعدم احترام مخرجاته المتعلقة بالتعديل الدستوري منتقدا عدم دعوة حكومة أسامة حماد المكلفة من البرلمان لهذا الحوار رغم حصولها على الثقة مقابل دعوة حكومة الوحدة الوطنية رغم انتهاء مدتها القانونية.

أثناء استقبال أردوغان عقيلة صالح للمرة الأولى بأنقرة في 2 أغسطس 2022 بحضور نائب رئيس المجلس الرئاسي الليبي عبد الله اللافي- “الرئاسة التركية”

وأكد البرلمان في بيانه رفضه تكرار التجارب السابقة “التي ثبت عدم نجاحها في حل الأزمة الليبية”، مؤكدا عدم قبوله أية مخرجات مكررة لما سبق اتخاذه من قبل البعثة الأممية سابقا.

من جانبها اتهمت حكومة حماد المبعوث الأممي بـ”عدم الحياد والانحياز لأطراف معينة وعمله على ترسيخ الانقسام والتشظي بين الليبيين”، معتبرة أنه “غير كفء للتعامل مع الأزمة الليبية”، داعية إلى ضرورة تغييره.

وعلى الجانب الدولي رحبت كل من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا بدعوة باثيلي الأطراف الفاعلة الرئيسة في ليبيا إلى الاجتماع من أجل حل القضايا السياسية التي تقف في طريق الانتخابات. وحثت سفاراتها في بيان مشترك الأطراف الليبية على الاستفادة من هذه الفرصة لوضع ليبيا على طريق الاستقرار الطويل الأمد لجميع مواطنيها.

قالت مصادر ليبية أن دعوة باثيلي فجرت كافة التناقضات في فضاء ليبيا السياسي بحيث طفح ما لا يمكن الصمت عليه مما بدا واضحا من موقف المستشار عقيلة صالح من حضور الدبيبة وعدم دعوة رئيس الحكومة المكلف من البرلمان أسامة حماد، بينما غلف الصمت موقف رئيس المجلس الرئاسي ورئيس المجلس الأعلى للدولة، فضلا عن موقف المشير خليفة حفتر الذي لا يمكن تصوره بعيدا عن تأييده المطلق لحضور حكومة حماد.

تفسّر المصادر في سياق حديثها لـ”الحل نت” أن ثمة أزمة لا يمكن أن يغلّفها محور الشرق في هذا الاجتماع الخماسي حيث ثلاثة أطراف يشكّلون جدارية (الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية والأعلى للدولة)، في مقابل البرلمان والجيش. وعلى جانب آخر المحوران يملكان فعل السياسة وظل السلاح في شرق البلاد وغربها مما يضع القوى الدولية والإقليمية في اختبار صعب نحو تحقيق استقرار ليبيا المستحيل.

غير أنه يثير ملاحظة هامة تشي بخلافات عميقة بين محافظ المصرف المركزي، الصديق الكبير، وعبدالحميد الدبيبة، مما دفع الأول لوقف تمويل الإنفاق العام لحكومة الدبيبة ودفع عقود لـ”آل الدبيبة” وتتابع المصادر في حديثها، قائلة، “لا يمكن قراءة ذلك من قبل محافظ المصرف المركزي دون رضا القوى الدولية خاصة الولايات المتحدة الأميركية”.

وتفسّر المصادر ذلك من خلال رغبة واشنطن إضعاف سلطة الدبيبة المدعومة من تركيا، بعض الشيء دون حسم قرار إبداله أو تغييره حاليا واعتبار ذلك القرار في حكم المحتمل بناء على عدة تصورات وفرضيات تتعلق بمدى فك الارتباط بين الشرق الليبي وروسيا وخروج قوات “فاغنر”.

ويدلل المصدر على حديثه بتلك التصريحات المتكررة لوزارة الخارجية الأميركية، ومنها ما جاء مؤخرا على لسان المتحدث باسم الخارجية الأميركية في تصريحات لوكالة “نوفا” الإيطالية حينما قال: لا ينبغي لحفتر أن يعتمد على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، موضحا أن مجموعة “فاغنر” تمثل عنصرا ضارا في ليبيا. وأضاف أن هدف الولايات المتحدة في ليبيا هو تحقيق دولة ذات سيادة ومستقرة وموحدة وآمنة يمكنها التحكم في شؤونها الخاصة.

ليس ثمة بارقة أمل لحلحلة الوضع الليبي المأزوم، وسط استمرار التوجدات الخارجية، مثل الوجود الروسي المتمثل بقوات “فاغنر”، إضافة إلى تواجد القوات التركية.

إلى ذلك قد نجد من الصعوبة حسم سيناريو واحد تجاه كافة التطورات خاصة وأن القوى المحلية الرئيسية تمركزت أكثر مما ينبغي على الأرض وأضحت واقعا من الصعوبة تجاوزه، بيد أن مصدر مطلع من داخل المجلس الأعلى للدولة في ليبيا كشف في إطار حديثه لـ”الحل نت” أن المجلس سيحسم قراره من هذه المبادرة خلال جلسته القادمة في الرابع من شهر كانون الأول/ ديسمبر الجاري بعد عودة رئيس المجلس من زيارته الخارجية.

وهكذا تمضي الأزمة في ليبيا نحو المراوحة في الزمان والمكان دون أي تقدم ملموس وتدخل البلاد العام الجديد دون أي ملامح لتنفيذ الاستحقاق الانتخابي، وليس ثمة بارقة أمل لحلحلة الوضع الليبي المأزوم أو فيما إذا سيدخل في أي مسار سياسي جدي قد ينهي مأساة الليبيين والفلتان الأمني ​​الذي يحدث بين الحين والآخر في البلاد، وسط استمرار التوجدات الخارجية، مثل الوجود الروسي المتمثل بقوات “فاغنر”، إضافة إلى تواجد القوات التركية بحجة “حماية المصالح الوطنية”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات