أنهت الحرب في غزة توازنات استراتيجية سادت لفترات غير قليلة، كما غيرت من موازين القوى الإقليمية مما سيعيد تشكيل الوضع الجيوسياسي والأمني داخل الشرق الأوسط بينما يوزع الخرائط على اللاعبين بصورة جديدة ومختلفة، فلم تعد إيران هي نفسها كما ظهرت باعتبارها قوة إقليمية تهيمن بواسطة وكلائها من الميلشيات في عدد من دول الإقليم بسوريا والعراق واليمن ولبنان.

وقد منحت لها الأعوام العشرة الماضية في المرحلة التي تلت “الربيع العربي” فرصة استثنائية للتموضع الميداني العسكري والسياسي، وإيجاد قاعدة لها في عدد من المناطق الاستراتيجية بشرق المتوسط وفي أكثر من حيز جغرافي داخل ذهنية النخبة بمرجعيتها الأيديولوجية “الهلال الشيعي”.

إنهاء مخاطر ميلشيا إيران

فانخراط “حزب الله” في الحرب بغزة، وفتح ما عرف بـ”جبهة إسناد” في اليوم التالي على اندلاع الصراع والهجوم على إسرائيل من قبل حركة “حماس”، جعل الموقف الإسرائيلي يعيد النظر في المخاطر التي تشكلها طهران من خلال القوى الميلشياوية بالمنطقة، حيث تضاعفت قوتها بالعقد الأخير بداية من تهديد الملاحة الدولية، والاعتداءات المتكررة من قبل ميلشيا “الحوثي” باليمن على السفن، وتحديدا المملوكة لإسرائيليين، بالممرات المائية الدولية في البحر الأحمر، مرورا بالنقاط المشتركة التي جمعتها في المثلت الحدودي بين سوريا والعراق ولبنان عبر المعابر الحدودية المتاخمة كمعبر البوكمال في حين تسيطر عليها ميلشياتها الولائية، أو معبر المصنع الحدودي بين لبنان وسوريا، وهي معابر تستخدمها القوى الشيعية المسلحة لتهريب السلاح أو تدريب العناصر فضلا عن تدشين الأنفاق للأغراض ذاتها، وحتى إدارة “الحرس الثوري” الإيراني للجماعات المختلفة سنية وشيعية داخل إطارها السياسي في مواجهة إسرائيل وتهديد المصالح الأميركية والأوروبية. 

من ثم، كان خوض “حزب الله” الحرب في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، سببا في استدارة إسرائيل الضرورية نحو الجبهة الشمالية، لإعادة تغيير الاستراتيجيات والتوازنات السابقة على تاريخ ما عرف بـ”طوفان الأقصى”، وبقدر ما يبدو الاهتمام بغزة عملية ملحة من الناحيتين الأمنية والعسكرية، فإن الوضع بجنوب لبنان لا يقل أهمية عن سابقه، لا سيما مع وجود مبدأ “وحدة الساحات” الذي يهدف أن يشكل تطويقا عسكريا لإسرائيل. 

وقد برز في جنوب لبنان “غرفة عمليات” جمعت ضباطا من “الحرس الثوري” وقادة فصائل تابعة للأخير من اليمن والعراق وسوريا، وذلك بما يتجاوز تهديد المدنيين في شمال إسرائيل إلى فرض تهديد وضغوط طويلة الأمد على أساس توازن الردع بين الطرفين يجعل التفاوض ممكنا بل ومن دون أن ترجح كفة طرف على حساب آخر. 

ولهذا، جاءت الضربات التي طالت قادة الصف الأول والثاني بالحزب المدعوم من إيران في لبنان، فضلا عن قوات النخبة المعروفة بـ”الحاج رضوان”، لإضعافه وتقويض نفوذه، في حين ما تزال العمليات العسكرية مستمرة حتى تحقق الأهداف الميدانية الأفق السياسي المنشود، والمتمثلة في تجميد فرص تهديد “حزب الله” لإسرائيل مجددا، وتعطيل الأول عن إعادة بناء صفوفه وتلقي الدعم من إيران. إذ إنه برغم المحاولات الدبلوماسية لوقف إطلاق النار في لبنان المكثفة والتي تقودها الولايات المتحدة عبر مبعوثها آموس هوكشتاين، إلا أن أفق إحلال السلام والدخول في مسار المفاوضات يبدو بعيد المنال.

إنهاء “توازن الردع”

ومع زيارات أخيرة لثلاثة مسؤولين رفيعي المستوى بالإدارة الأميركية للمنطقة، بهدف بناء مقاربة نحو التهدئة والتوصل لصفقة بهدف وضع حد للحرب والانخراط في المفاوضات الدبلوماسية لوقف إطلاق النار، فإن المحاولات التي قادها هوكشتاين، ثم مستشار الرئيس لشؤون الشرق الأوسط بريت ماكغورك في إسرائيل، وأخيرا رئيس المخابرات المركزية وليم بيرنز في مصر، لم تصل لنتائج حاسمة، وقد صرح رئيس الحكومة الإسرائيلية بأن “الظروف الناشئة لا تكفي، وهناك حاجة لمزيد من القتال حتى تستطيع إسرائيل أن تفرض شروطا أفضل للاتفاقات”.

وبحسب ما ذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أثناء اللقاء الذي جمعه بمبعوث بايدن لشؤون لبنان ومستشاره الآخر لشؤون الشرق الأوسط، فإن الشروط الجديدة ترتبط بمدى “ضمان تنفيذ الاتفاق وإحباط أي تهديد من لبنان على أمنها، وبشكل يعيد سكاننا إلى بيوتهم بأمان”. 

تشتيت النظام الإيراني بواسطة تنفيذ ضربات عسكرية في عمقه وعلى أهداف مباشرة يحول دون قدرته على الاستمرار في دعم وكلائه بالمنطقة، أو حتى تشكيل تهديد مباشر على إسرائيل.

وفي حين تواصل تل أبيب الضغط من أجل إنهاء “توازن الردع” الذي حافظ عليه “حزب الله” في علاقته بإسرائيل منذ انتهت الحرب في تموز/ يوليو عام 2006، فإن نتنياهو لا يكتفي بالاتفاقيات والمسودات الأممية سواء القرار 1701 أو 1559، بل يشترط بأن يكون طرفا في منع الحزب من تسليح نفسه ونقل السلاح عبر سويا إلى لبنان، وذلك بما يسمح لتل أبيب ضمنا استمرار عملياتها العسكرية طالما قدرت أن ثمة مخاطر وتهديدات من الجبهة الشمالية. 

وقال: “الأمر الأساس ليس أوراق اتفاق كهذا أو ذاك، وإنما قدرة وإصرار إسرائيل على إحباط أي تهديد من لبنان على أمنها، وبصورة تعيد سكاننا إلى بيوتهم بأمان”. 

كما أن طلب إسرائيل الملح بشأن إبعاد الحزب وتحديدا قوات النخبة لما وراء نهر الليطاني ما يزال يعيق التوصل لتسوية ويرفضه الحزب، بل إن رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري سبق له وصرح بأنه “الأسهل نقل نهر الليطاني إلى الحدود مع إسرائيل، بدلا من نقل حزب الله إلى ما وراء النهر”.

وأعلن بنيامين نتنياهو أن القرارات الأممية لها “احترامها لكنها ليست الأمر الرئيس، الأساس هو قدرتنا وتصميمنا على فرض الأمن وإحباط الهجمات ضدنا والعمل ضد تسليح أعدائنا بقدر ما هو ضروري على رغم كل الضغوط والقيود، هذا هو الأمر الرئيس”. 

روحاني ودهقان خلال الكشف عن منظومة الدفاع الجوي الإيرانية باور 373- “أرشيفية- أ ف ب”

وتابع: “تل أبيب تغيّر وجه الشرق الأوسط لكنها ما زالت في خضم العاصفة”، ومن ثم، فإن الحرب تبدو مفتوحة لحين ما ينتهي من تحقيق الأفق السياسي، حسبما أشار موضحا: “أضع أهدافا واضحة لكسب الحرب وتحقيق النصر”.

فيما تشير مسودة الاتفاق الأميركي الإسرائيلي التي أوضحتها صحيفة “وول ستريت جورنال” إلى أن إسرائيل بصدد كسب حرية عملياتية في لبنان طالما هناك تهديدات وشيكة تطالها، وهذا ما يعطل مسار التسوية، إذ تقول المسودة، بأن لإسرائيل الحق في تنفيذ الهجوم على طول الحدود، لمنع وإحباط أي تهديد من “حزب الله”، فضلا عن التهديدات المتمثلة في “إنتاج السلاح وتخزينه ونقل السلاح الثقيل والصواريخ الباليستية أو الصواريخ ذات المدى المتوسط أو البعيد، فسيسمح لها بالعمل عسكريا، هذا فقط إذا فشلت الحكومة اللبنانية أو أي جسم رقابي آخر يتم تأسيسه برعاية أميركا في محاولة إحباط هذه التهديدات”، كما جاء في المسودة أن “إسرائيل يمكنها الاستمرار في القيام بطلعات جوية عسكرية في سماء لبنان لأهداف استخباراتية وتعقب”.

وتابع: “الجيش اللبناني يعطى توجيهات بمنع إدخال سلاح أو وسائل قتالية غير مرخصة في المعابر الحدودية وسيعمل على تفكيك مصانع وبنى تحتية لإنتاج السلاح والذخيرة التي أقامتها المنظمات المختلفة في لبنان. بعد انسحاب قوات الجيش الإسرائيلي من لبنان سيكون لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، بحسب القانون الدولي، والحفاظ على الأمن على طول الحدود في الشمال، بما في ذلك القيام بنشاطات ضد تهديدات على أمنها. كما أن الاتفاق يحدد منطقة في أراضي لبنان على طول خط الحدود، فيها الولايات المتحدة تعترف الولايات المتحدة ضمنها بحق إسرائيل في (العمل للدفاع الفوري عن النفس)”.

ومسودة الاتفاق مفادها هي إلى جانب كل ذلك، تفكيك بنية “حزب الله” الأمنية والعسكري ومحو وجودها في الجنوب، وشلّ قدراتها وإنهاء أي فرص تخص حصولها على الإمداد والدعم العسكري واللوجيستي وإعادة بناء قدراتها التسليحية والقتالية. ذلك ما يتفق مع الأهداف الإسرائيلية المعلنة بشأن إنهاء قوة الردع للحزب في مواجهة تل أبيب. 

فشل إيران في بناء “منظومة ردع”

وعلى هذا الأساس تتفاقم أوضاع إيران في ظل ما يتعرض له وكيلها الأبرز والأكثر أهمية في الشرق الأوسط، مع تقدم إسرائيل في تحقيق نتائج داخل طهران بعد الضربات التي نفذتها هناك، وقد نقلت “فويس أوف أميركا” في تقرير لها، أن المساعي الإيرانية لبناء “منظومة ردع عبر توجيه ضربات مباشرة إلى إسرائيل” انتهت بالفشل “مما يجعل طهران أكثر عرضة للخطر في مواجهة عدوها الأساسي في المنطقة”. 

وبالتالي، فالهجمات التي نفذتها إسرائيل على طهران مؤخرا نجحت في “تفكيك نظام الدفاع الصاروخي أس-300 بالكامل”، وتقول طهران إنها “لا تزال تقييم الأضرار الناجمة عن الضربات”.

ونقل التقرير الأميركي عن المحلل في معهد “نيولاينز” للاستراتيجية والسياسة ومقره واشنطن، نيكولاس هيراس، قوله: “الغارات الجوية أظهرت أن إسرائيل تتمتع بالتفوق العسكري النوعي عندما يتعلق الأمر بالحرب على إيران”، مما يؤثر على “استراتيجية الردع” التي تنتهجها طهران. 

اعترضت منظومة القبة الحديدية الإسرائيلية صواريخ باليستية أطلقتها إيران- “رويترز”

وتابع: “لقد ضربوا أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة من طراز إس-300، وهو ما سمح لهم بالتهرب من الدفاعات الجوية الإيرانية، للوصول إلى المواقع المهمة لبناء المركبات للصواريخ الباليستية العابرة للقارات.. وهو عنصر أساسي في استراتيجية الردع الإيرانية”. بل إن تل أبيب “أرادت إرسال رسالة إلى الإيرانيين مفادها أنهم متأخرون كثيرا عن الإسرائيليين عندما يتعلق الأمر بالحرب التكنولوجية” المتقدمة.

في العموم، فإن تغيير معادلات الشرق في ما يخص مواجهة إسرائيل مع “حزب الله” يتمثل في تقويض نفوذ الميلشيا المدعومة من “الحرس الثوري” وإضعاف قدراتها الأمنية والعسكرية، وبناء أجسام عسكرية أخرى في المواقع التي كانت تخضع تحت سلطة الأمر الواقع بلبنان، بواسطة الجيش اللبناني وقوات “اليونيفيل” برعاية الولايات المتحدة، لضمان منع أي تهديدات بالمستقبل.

كما أن تشتيت النظام الإيراني بواسطة تنفيذ ضربات عسكرية في عمقه وعلى أهداف مباشرة يحول دون قدرته على الاستمرار في دعم وكلائه بالمنطقة، أو حتى تشكيل تهديد مباشر على إسرائيل، وإخراج كفاءاته القتالية والعسكرية من ساحات المواجهة وتحييد عناصره.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات