يُعد مرقد السيدة زينب – هذا مع الوضع في الاعتبار أنه لا توجد رواية تاريخية متفقة عليها تؤكد على مدى صحة وجود جثمان السيدة زينب في هذا المرقد، فقد اختلف المؤرخون حول وجود جثمان في سوريا أو في مصر حيث وجود مرقد آخر بنفس الاسم في القاهرة- محطة صغيرة على طول الطريق الشيعي لمواقع الحج الشيعية في الشرق الأوسط. 

ويقع هذا المرقد في منطقة بضواحي دمشق كانت ذات أغلبية سُنّية لعقود من الزمن. بدأت حركة المرور إلى المرقد وأهميته كعقدة ثقافية في سوريا تتزايد في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات عندما دفع كبار القادة الشيعة أيضاً لبناء قبر ومدارس ومكاتب قريبة من منطقة السيدة زينب. 

ومع قرب نهاية الحرب الإيرانية العراقية في التسعينيات، بدأت موجات صغيرة من عمال البناء الأفغان المتجوّلين والمقاتلينَ السابقين بالتدفق إلى الموقع وشكّلوا مجتمعاً صغيراً هناك. إلا أن هذا المجتمع الصغير كان يحمل في داخله نواة انهيار الدولة السورية بصناعة و رعاية إيرانية.

السيدة زينب ساحة الحرب الطائفية الإيرانية

بدأ النشاط الإيراني جلياً في سوريا بعد انطلاق الاحتجاجات الشعبية في البلاد عام 2011  ضد الحكومة السورية، فتمثّل هذا النشاط بداية في تقديم خبرات عسكرية لقمع الاحتجاجات، ثم توسّعت لاحقاً لتشمل الدعم العسكري واللوجستي. 

لقطة خارجية لمقام السيدة زينب في العاصمة السورية دمشق، يظهر فيها المقام بقبة ذهبية واحدة ومئذنتين وبعض المباني السكنية. (غيتي)

لجأت إيران إلى تشكيل ميليشيات موالية لها في سوريا بذريعة حماية المقدسات الشيعية، وازداد عدد تلك الميليشيات بعد انتقال الحِراك السلمي في سوريا إلى حِراك عسكري وسيطرته لاحقاً على عدة أماكن قريبة من المقدسات الشيعية كمقام السيدة زينب ومقام السيدة سُكينة جنوبي العاصمة السورية دمشق. 

وبدأت تتحول منطقة السيدة زينب إلى ساحة حرب عندما هاجمت “جبهة النصرة” على مرقد السيدة زينب وما تلاها من تدنيس لضريح حجر بن عدي، وهو من أنصار علي وصهر النبي محمد، في ضاحية عدرا الدمشقية في أيار/مايو 2013، إلى تفاقم المخاوف الطائفية. مما وفّر فرصة لإيران لتوسيع نفوذها.

وربط قائد “فيلق القدس” السابق، قاسم سليماني، وقتها الدفاع عن ضريح السيدة زينب بضريح الإمام علي في النجف بالعراق، وضريح الإمام الرضا في مشهد بإيران، محذراً من أنه “إذا سقطت سوريا في أيدي هؤلاء [المتطرفين السنة] فسوف يدمرون المقدسات “الشيعة”.

وعملت القوات الإيرانية على الترويج لفكرة حماية الأماكن المقدسة والتي كانت تخدم غرضَين: جذب المزيد من المجنّدينَ في الخطوط الأمامية، وبناء كادر من الدعم للبقاء في الخلف كوثيقة تأمين في حالة سقوط الأسد. 

فإذا تمت إزالة الأسد من السلطة، فإن المقاتلين الأجانب الذين استجابوا للدعوة للدفاع عن المواقع الشيعية المقدسة يمكن أن يكونوا من الناحية النظرية بمثابة حصن في إنشاء دويلة أصغر بكثير من شأنها أن تسمح لإيران بالحفاظ على جسرها البري إلى لبنان و”حزب الله”. 

وساعد الاعتماد على رواية الاضطهاد في ربط القتال في سوريا بالقتال ضد المتطرفينَ السّنة في أفغانستان وباكستان. وبالاعتماد على ذكريات الشيعة الجماعية عن الاضطهاد الذي يعود تاريخه إلى معركة كربلاء، استفادت سوريا وإيران و”حزب الله” منها لحشد المقاتلين الشيعة. لنجد أنفسنا أمام نوعٍ جديدٍ من الفتاوى، هي فتاوى الجهاد في سوريا التي أصدرها كبار رجال الدين الموالين مثل آية الله كابلي وآية الله العراقي كاظم الحائري، الذي لديه عدد كبير من الأتباع بين القوات شبه العسكرية العراقية، مما وفّر الشرعية الدينية للقضية.

السيدة زينب مستوطنة إيرانية بالتهجير

الحقيقة، أن وجود المزار الديني في منطقة السيدة وحمايته ماهي إلا فكرة وهمية لا وجود لها إلا في عقول ساذجة من الشيعة؛ لأن إيران لا تقيم وزناً إلا لمصالحها وسياستها التخريبية في المنطقة وتمدّد نفوذها في دول الجوار. 

لقطة خارجية لمقام السيدة زينب في العاصمة السورية دمشق، يظهر فيها المقام بقبة ذهبية واحدة ومئذنتين وبعض المباني السكنية. (غيتي)

فأهمية المنطقة تأتي من موقعها الاستراتيجي بالقرب من العاصمة دمشق، والقريبة من المطار مما جعلها نقطة استلام للأسلحة القادمة جوّاً من إيران؛ فكان لا بدّ من السيطرة على هذه المنطقة حتى يمكن للقوات الإيرانية الحركة بسهولة وتنفيذ مخططاتها الإرهابية. 

ولهذا عملت إيران على السيطرة على المنطقة بالكامل وما يحيط بها من ضواحي خلال بناء مراكز دينية بهدف زيادة أعداد الزوّار الذين يأتون لزيارة الضريح؛ إلا أنها كانت في الحقيقة تهدف إلى الدعوة إلى التشيّع والتي بحسب حديثنا مع مصدر خاص بـ”الحل نت”، قال، راح ضحيتها ما يقارب من 250 قتيل موثّق. 

هذا ما دفع الأهالي للهروب إلى دمشق والمحافظات الأخرى خوفاً على حياتهم، ناهيك عن القصف العشوائي والعمليات الحربية التي تهدف إلى السيطرة على المنطقة”. 

واعتمدت إيران في هذا على مجموعاتٍ من الشيعة من إيران والعراق ولبنان وأفغانستان، هذا بالإضافة إلى الميليشيات الإيرانية التي عملت أيضاً على تطهير المنطقة والأماكن المحيطة بها عن الطريق التهجير القسري أو عن الطريق العنف المنهجي أو بالاستيلاء على منازلهم لصالح القوات الإيرانية أو مصادرة ممتلكات السوريين أو عن طريق الطرد والتعذيب، حتى أنّه يمكننا القول إن 50 بالمئة من البيوت أصبحت مُلكاً لعناصر من الميليشيات الإيرانية. 

في هذا الصدد تحدث لـ”الحل نت”، الصحفي السوري رامي السيد، الذي كان من سكان منطقة السيدة زينب قائلا: إن “مرحلة تهجير السوريين من أرضهم كانت قاسية جداً، ولم تكن قاصرة على مجرد التهجير الطوعي وإنما صاحَبها حالاتٌ من العنف والتّعدي على النساء والقتل”، وأشار في حديثه إلى ما أُطلقت عليها مجزرة “على الوحش” – نسبة إلى اسم شارع على الوحش الذي وقعت فيه تلك الواقعة – مَن قتل ما يقارب إلى 1500 شخص من قِبل القوات الإيرانية في محاولة منها الاستيلاء على أرضهم وبيوتهم. 

حتى أنه – أي رامي السيد- من ضمن الأشخاص الذين تم طردهم من بيوتهم لصالح الميليشيات الإيرانية، قائلا: “حتى لو أني فكرت اليوم في الرجوع إلى بيتي سأجده هو الآخر مستوطنة إيرانية شيعية”. 

هو أيضا ما عبّر عنه الناشط السوري، ضياء محمد، في حديثه مع “الحل نت”، عن التهجير من قبل القوات الإيرانية قائلا: “تخيّل أن يتم وضعك على طاولة تشريح، ومن ثم يأتيك طبيب، ويقول لك: لديك عدد كبير من الأعضاء في جسدك وهذا زائد عن حاجتك، ونريد مساعدتك في تحديد الأعضاء التي سنقوم باستئصالها، تخيّل أن يسألك هل تريد أن نستأصل عينك أم قلبك؟ بالضبط هذا هو ما حصل لنا، لقد تم إرغامنا على مغادرة منطقتنا ومنازلنا كشرط أساسي للسماح لنا بالعيش، لكن دون السماح لنا بأخذ ذكرياتنا وقلوبنا منها، لقد تم تهجيرنا بالقوة وبقيت قلوبنا معلّقة في أزقّتنا وبيوتنا”.

ضريح السيدة زينب.. مخزن سلاح

بعد السيطرة على المنطقة بالكامل من قِبل القوات الإيرانية، عملت على إغلاقها وإغلاق الطرق المؤدّية إليها لتصبح منطقة معزولة أو على حدّ وصف، رامي السيد، “وكأنها دولة أخرى داخل الدولة السورية”، مع وجود نقاط تفتيش دقيقة من المليشيات، مع وجود مزيج من المليشيات المختلفة والمتعددة الجنسيات مثل (فيلق القدس، لواء فاطميون، لواء زينبيون، وبعض من قوات النجباء) وكلهم خاضعون لـ”الحرس الثوري” الإيراني. 

كيف تحولت السيدة زينب من مزار ديني إلى قاعدة عسكرية إيرانية؟ (6)
لافتات معلقة فوق شارع مزدحم في حي السيدة زينب بدمشق، سوريا. (تصوير جون ريفورد / بلومبرج)

إلا أن كل هذه المظاهر ما هي إلا مجرد مقدمات لما هو أخطر هو “تحول هذه المنطقة بالكامل إلى مخازن سلاح إيرانية”، فقد قامت القوات الإيرانية ببناء تحصيناتٍ خرسانية ومرافق لتخزين الأسلحة فوق وتحت الأرض بالقرب من ضريح السيدة زينب.

ويرى البعض أن أنشطة القوات الإيرانية قرب مرقد السيدة زينب بريف دمشق الجنوبي تخدم المخطط الإيراني لإحداث تغيير ديموغرافي في سوريا وتأمين الممر البري بين طهران وبيروت. وبحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، فإن “حزب الله” اللبناني يعمل على توسيع قاعدة عسكرية سورية قديمة جنوب دمشق لاستخدامها كمركز تدريب و عمليات للطائرات بدون طيار. 

كما تشمل أعمال بناء تحت الأرض، بحسب “المرصد”، والتي تهدف على ما يبدو إلى “حماية الطائرات الإيرانية بدون طيار من الضربات الإسرائيلية”. ولعل هذا يفسّر لنا أيضاً الغارات الكثيرة التي تقوم بها إسرائيل على هذه المنطقة. 

في هذا السياق يقول رامي السيد: “لقد شهدنا تغييراً ملحوظاً في ظهور عدد قليل من قوات الإيرانية في الشوارع بالزي الرسمي في محاولة منهم للاختفاء، الذي لا يعني غيابهم التمام وإنما حتى لا يكونوا فريسة لضربات الإسرائيلية”. 

كما يقوم عناصر “حزب الله” بإنشاء تحصينات إسمنتية فوق وتحت الأرض في منطقة خربة الورد قرب السيدة زينب. كما إنهم يحفرون الأنفاق والملاجئ ويخزنون فيها الأسلحة والطائرات الانتحارية المسيرة وتظل الطائرات الانتحارية بدون طيار، والمعروفة أيضاً باسم “الذخائر المتسكعة”، موجودة حول المنطقة المستهدفة وتهاجم بمجرد تحديد الهدف. 

ليس هذا فحسب؛ فقد أنشأت إيران أكاديمية عسكرية في منطقة السيدة زينب  والتي أصبحت أهم موقع عسكري لتدريب المقاتلين التابعين لإيران، الذين يتلقون دورات لياقة بدنية عسكرية وتدريبات على استخدام الأسلحة تحت إشراف مدربي “حزب الله”. 

هذا بالإضافة إلى أن “الحرس الثوري” الإيراني، يمتلك مستودعاً آخر ضخم ضمن البلدة، يمكنه استيعاب مئات السيارات التي تحصّل عليها الميليشيات أثناء العمليات العسكرية في سوريا، بالإضافة إلى ورشات لإصلاح السيارات والآليات المتضررة، لقد فرضت إيران نفوذها المستحكم على كل شبر في المنطقة وضواحيها.

خطاب العنف والقتل الإيراني

لقد كانت منطقة السيدة زينب في أطراف العاصمة السورية، دمشق، مجرد بلدة سكانية تحمل طابعاً دينياً عند أصحاب المذهب الشيعي، لكونها تضم ضريح بنت الخليفة علي بن أبي طالب. لكنها تحولت بعد عام 2011 إلى مكان لإدارة عمليات ميليشيات مدعومة من إيران، ليفقد البُعد الديني نكهاته وأثره.

كيف تحولت السيدة زينب من مزار ديني إلى قاعدة عسكرية إيرانية؟ (1)
صبي عراقي يبيع حقائب اليد في شارع مزدحم في منطقة السيدة زينب بدمشق، سوريا. (تصوير جون ريفورد / بلومبرج)

ولتكتسب بعد ذلك أبعاداً عسكرية تخريبية، ومنطلقاً لحشد كل من هو مؤمن بفكرة المؤامرة التي تتبناها السلطة الحاكمة في الرّد على ما يحدث في سوريا، حيث تتهم المعارضة السورية إيران بتجنيد سوريين شيعة ضمن ميليشياتها لتعزيز نفوذها العسكري. 

كما أنها متهمة بنشر خطاب الكراهية الطائفية، والقيام بحملات لتحويل السكان السوريين إلى المذهب الشيعي. فبعد أن عززت إيران تواجدها في السيدة زينب، ساد “قانون الغاب” في البلدة، وبات القتل هو الحل الوحيد لأي مشكلة بين سكان المنطقة والشيعة. 

تبنت إيران السّرد الطائفي المتمثل في الدفاع عن العقيدة الشيعية ضد “التكفيريين”، وهو مصطلح يستخدم لوصف المتطرّفينَ السّنة الذين يطردون المسلمين الآخرين، ولكن أيضاً جميع مقاتلي المعارضة للأسد. 

ويذكر ضياء السيد في حديثه مع “الحل نت”: “لم تكن هناك أي نعرات طائفية بين السّنة والشيعة قبل مجيء الإيرانيين بشكل عسكري علني عام 2011، وإنما بدأ الصراع بين الشيعة والسّنة مع قدوم القوات الإيرانية لأنها تستمد وجودها من الصراعات الطائفية”.

وأخيراً، أن ما حدث أو ما يحدث في السيدة زينب من مشاهد العنف والقتل والاغتيال والتهجير والدمار والهدم تحت شعار الدين أو الدفاع عن المقدسات الدينية هي سياسة إيرانية تدمرية تهدف إلى زعزعة الأمان والاستقرار في منطقتنا العربية حتى يمكنها السيادة والسيطرة والتّمدد السياسي الدموي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات