مع تداعي الأحداث في سوريا منذ التحول المباغت الذي قادته فصائل “المعارضة السورية”، وانتهى بفرار بشار الأسد إلى روسيا، فإن مشهد هروب الأخير ليس أكثر من حركة طفيفة وربما عشوائية على المسرح، لتكشف عن أحداث في الكواليس وأبعد مما هو ظاهر وأعمق مما يظهر على السطح. فالتموضع الجديد الذي تشهده سوريا، يكشف عن تعقيدات جمّة، وتداخلات عنيفة، محلية وإقليمية، سياسية وميدانية وعسكرية.

هذا فضلا عن الضغوطات التي تمارسها بعض القوى والأطراف الخارجية، بينما تسعى إلى تفخيخ الداخل السوري بها، ليكون ضمن وسائلها الإكراهية لتحقيق مصالح فئوية، تختزل باقي القوى أو شل إرادتها.

ذلك تحديدا ما يتخوف منه السوريون. فالموقف الراهن مفتوح على احتمالات عديدة، ويؤشر إلى نتائج إيجابية بقدر ما يبعث بهواجس وقلق لدى كثيرين، لا سيما بعد انقضاء نظام البعث وقد مضى على حكمه نحو خمسة عقود أو أكثر قليلا، بينما ما تزال تتكشف بشاعة وجرائم وتوحش سياساته الأمنية في صيدنايا وغيرها من المسالخ البشرية في سجونه العلانية والسرية. إذ إن فصائل “المعارضة السورية” التي وصلت للعاصمة دمشق بعد تقدمها في حلب وحماة ثم حمص، تبدو في لحظة تاريخية أكثر من حساسة ودقيقة.

وبالتالي يتعين أن لا تغفل خريطة سوريا التي تقف على أطرافها وتخومها قوى عديدة، تضطلع بمهام الإدارة السياسية والمجتمعية، ومنع التفلت الأمني وتحديدا من قبل التنظيمات الإرهابية، مثل “داعش”، ولهم استحقاقات في تلك التطورات، بمعنى أن لا يتم اختزال المسار “الثوري” عند لحظة النشوة بالوصول لدمشق، في حين أن تعدد اللاعبين وهم جزء من الصورة منذ 14 عاما، يجعل من الضروري البحث عن الشركاء الآخرين، وتمثيل القوى السياسية والمجتمعية كافة حتى الوصول إلى عقد اجتماعي ودستور جديدين يضمن الحقوق المدنية والمواطنية من دون تمييز أو استثناء.

سوريا… ضرورة الحوار الداخلي

ومن ثم، يبدو من الضروري بل والملح أن تكون هناك قاعدة وطنية ينبني عليها ثمة حوار سياسي في الداخل، وأن تتخفف حدة التبعية وحمولة الإملاءات والاشتراطات الخارجية التي تعيق التفاهمات بين القوى السياسية المحلية مع بعضهم البعض، وبدلا من التشاركية يكون الصدام الحتمي، وانفتاح فصل جديد من الصراع الذي قد يبدو ظاهره قومي أو طائفي وجهوي، بينما في الحقيقة يخدم مصالح إقليمية وأجندة توسعية عبر إدارة الصراع من القوى الخارجية.

صورة جوية تظهر المركبات في الشارع بالعاصمة دمشق، بعد سقوط نظام بشار الأسد، سوريا في 10 ديسمبر 2024. رويترز / محمود حسانو

فالتحركات في سوريا إما أن تفتش عن مسارات البناء السياسي، حتى تراكم شرعية جديدة، وتلملم الشتات السوري على سردية سياسية تلائم تنوعاته المختلفة، ثم ترمم الدولة الوطنية (ومؤسساتها وأجهزتها) المتهالكة نتيجة الفساد والقمع، وإلغاء التعدد مقابل الواحدية في نموذجها البعثي وذراعها الأمني الذي مارس البطش والعدوان ولا يحمل من صفته البعثية سوى ابتعاث النهب والتدمير والإبادة بناء على مدى رؤية إقليمية وأهداف جيوسياسية محددة، أو تتحول إلى كل ما سبق في صيغة جديدة وتقع في دائرة التكرار والمأساة.

نحن في مرحلة انتقالية، ولا ينبغي أن تكون انتقامية أو اختزالية أو تعمد الإقصاء. بالتالي، فالقوى السياسية اللاعبة في سوريا عليها أن ترى في الانسحاب الإيراني فرصة ثمينة لخروج الأطراف التي مثلّ دورها عبئا سياسيا منع الحل وساهم في عسكرة الثورة، وليس هذا فحسب، إنما هناك من القوى التي تفرض على وكلائها التبعية، بما قد يؤدي إلى تقويض الحل/ البناء السياسي، وقد يرفع من وتيرة التوتر والصدام والدخول في عسكرة جديدة.

مرحلة انتقالية “غامضة”

ليس ثمة شك أن التعقيدات الجيوسياسية بالمنطقة سوف تفرض على القوى الإقليمية التحرك سريعا وبناء علاقات مصالح مع الأطراف والقوى للتأثير على مسار الأحداث بسوريا، حتى لا تكون هناك أعباء على مصالحها، مع سقوط نظام بشار الأسد، تدخل سوريا مرحلة انتقالية غامضة ومحفوفة بالتحديات، حيث تتنافس القوى الإقليمية والدولية على صياغة مستقبل البلاد.

وليس خافيا أن تركيا تلعب دورا في سوريا منذ بدايات الأحداث عام 2011، وهو الدور الذي لا يبدو أنه سيتوقف، في ظل البحث عن النفوذ الإقليمي وحتى الطموح الاقتصادي المرتبط بإعادة الإعمار. غير أن هذا الدور المتزايد يأتي على حساب الشعب السوري بمختلف أطيافه، ويهدد الاستقرار الذي تبحث الخطوات الانتقالية المفترضة من قبل القوى السياسية الوصول له، بما يحد من أي صراع أو فوضى، وبخاصة احتمالات عودة تنظيم “داعش” الإرهابي من جديد. 

إذا كانت سردية أنقرة السياسية تقوم على فكرة أحادية وشمولية، بشأن منع قيام دولة كُردية بما يهدد أمنها القومي، فعليها أن تبدأ انعطافة جديدة ومغايرة، لا سيما مع استجابة “الإدارة الذاتية” للمستجدات ورفع علم “الثورة السورية”.

وبينما ألمح مدير “المرصد السوري لحقوق الإنسان” إلى مساعي محمومة من قبل “المخابرات التركية” لما وصفه بـ”محاولات إشعال فتنة عربية كُردية”، فإن الخروقات التي تقوم بها فصائل “فجر الحرية” تفاقم الأوضاع الأمنية، ليس فقط عند المستوى الميداني، إنما في الحدود الإنسانية.

وقال “المرصد السوري” في تقرير له، إن القوات التركية وفصائل غرفة عمليات “فجر الحرية” شنت هجوما عنيفا على “سد تشرين” الذي يربط بين منبج والرقة، واستخدمت القوات المهاجمة أسلحة ثقيلة تشمل الدبابات والطائرات المسيّرة، مما يثير مخاوف من تضرر السد وحدوث كارثة إنسانية محتملة.

وتابع: “تستمر الاشتباكات العنيفة بين فصائل “فجر الحرية” وقوات سوريا الديمقراطية “قسد” بالقرب من السد، دون ورود معلومات عن سقوط خسائر بشرية حتى اللحظة في صفوف الطرفين. ويأتي هذا التصعيد على الرغم من إعلان وقف إطلاق النار من قبل القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، بوساطة أميركية”.

فيما رصد “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، صباح يوم الخميس، اندلاع اشتباكات متقطعة بين “قوات سوريا الديمقراطية” من جهة، وفصائل “الجيش الوطني” الموالية لتركيا من جهة أخرى، على محور “سد تشرين” الفاصل بين منطقتي منبج والرقة، دون ورود معلومات عن سقوط خسائر بشرية.

إذاً، مثل تلك الأدوار الإقليمية بحاجة إلى مراجعة وتعديل سلوكها، بحيث تتجاوز سوريا محنتها ومأزقها وتتمكن من استعادة عافيتها على مستوى بناء مؤسساتها الوطنية ومنع أي شروخ مجتمعية بأكثر من اللازم تباعد بين المكونات وبعضهم البعض. كما أن تركيا التي تربطها حدودا مباشرة مع سوريا بحاجة إلى سياسة ومقاربة جديد لإدارة ملف علاقاتها الخارجية الاستراتيجية، بحيث ينتقل من إدارة الفوضى في سوريا إلى دعم الاستقرار. 

لا نوايا للكُرد بحكم ذاتي

وإذا كانت سردية أنقرة السياسية تقوم على فكرة أحادية وشمولية، بشأن منع قيام دولة كُردية بما يهدد أمنها القومي، فعليها أن تبدأ انعطافة جديدة ومغايرة، لا سيما مع استجابة “الإدارة الذاتية” للمستجدات ورفع علم “الثورة السورية” أو “استقلال سوريا”، وإبداء استعدادها للحوار مع “هيئة تحرير الشام” لبناء دولة سورية ووطنية، وذلك بما يبعث برسالة مفادها أنه ليست هناك نوايا لأي حكم ذاتي، وليس في خطاب الكُرد السياسي أي حمولة عداء مع تركيا. 

وبقدر ما هناك هذا الانفتاح السياسي الكُردي، يتعين على أنقرة مبادلة الأمر ذاته، إلا إذا كان العداء بالمحصلة للكُرد واعتبارهم بالكلية وسيلة للاتهامات الجاهزة والتعمية عن سياسات ومصالح خلف الورقة الكُردية.

وقد أعلنت “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا، يوم الخميس، أنها قررت رفع علم الاستقلال السوري، الذي اعتمدته “الثورة السورية” منذ عام 2011، على مؤسساتها كافة في مناطق سيطرتها بشمال وشرق البلاد، بُعيد إسقاط نظام بشار الأسد.

لقطة جوية تظهر رجلاً سورياً يلوح بعلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق “أ.ف.ب”

وجاء في بيانها أن “علم الاستقلال بألوانه الثلاثة: الأخضر والأبيض والأسود مع النجمات الحمراء الثلاث، يعدّ رمزا للمرحلة الجديدة بعد انتهاء حقبة القمع والتسلط التي فرضتها الحكومة السورية على الشعب لأكثر من نصف قرن”. 

وقالت أيضا، وفق وسائل الإعلام، إنها قررت رفعه على جميع المجالس والمؤسسات والإدارات والمرافق التابعة لها في مناطق سيطرتها كافة.

ضرورة إنهاء الدعم العسكريتاري لسوريا

المرحلة الجديدة بسوريا، تتطلب جهودا وازنة من الأطراف المنخرطة في العملية السياسية، حتى لا تتحول المنطقة إلى ترسانة سلاح في يد محور مماثل لطهران، يساهم في رفع درجة الاحتقان والصراع بالإقليم، ذلك ما يفرض على الولايات المتحدة أن تتجهز لمقاربة جديدة سياسية إلى جانب دورها في منع عودة “داعش”، حيث ضمان انتقالي سياسي آمن ومستقر، خاصة مع الانقسام وتباعد الرؤى بين قوى المعارضة. 

ويمكن القول إن استمرار الفراغ السياسي في سوريا، ربما يساهم في حدوث سيولة أمنية، وارتفاع حدة التوترات، وتكرار نزاعات وصدامات بين الفصائل وبعضها، أو محاولة “داعش” إعادة التموضع وترتيب صفوها للاستفادة من التطورات الميدانية لصالحها.

الدعم الأميركي للشركاء في سوريا وإقليميا، يسفر عن إمكانية أن تكون سوريا دولة طبيعية في محيطها السياسي والإقليمي فضلا عن علاقتها الخارجية، وليست محطة للتزود بالسلاح لحساب الدعم العسكريتاري والميلشياوي من قوى ولائية وتبعيتها الإيرانية.

ولهذا تصر نائبة الناطق بلسان وزارة الدفاع الأميركية، سابرينا سينغ، نهاية الأسبوع، على أن القوات الأميركية ستباشر مهمتها في سوريا لمنع أي عودة محتملة لـ”داعش”، وعدم استغلال التنظيم الإرهابي للوضع الراهن على الأرض. 

وقالت إن واشنطن مستمرة في العمل مع أنقرة لتخفيف التصعيد أو أي مواجهات محتملة في المنطقة. فيما أكدت المشاورات المكثفة التي تضطلع بها واشنطن مع الشركاء الإقليميين، الأردن ولبنان والعراق وتركيا وإسرائيل، لتنسيق الجهود بشأن الأوضاع بسوريا إثر سقوط بشار الأسد.

كما شددت على مصلحة واشنطن في عبور سوريا المرحلة الراهنة نحو بناء دولة آمنة ومستقرة وتتمتع بالسيادة، مشيرة إلى التأكيد على دور الشعب السوري في رسم ملامح مستقبله. وذلك ما أكده نائب مستشار الأمن القومي الأميركي جون فاينر، بأن القوات الأميركية ستظل في سوريا لمهمة كبيرة ستكملها هناك.

وتزامن مع فرار “الأسد” بدء واشنطن تنفيذ ضربات جوية استهدفت طاولت عناصر تنظيم “داعش” الإرهابي. وبحسب القيادة المركزية الأميركية “سنتكوم”، في بيان، فقد أوضحت تنفيذ “عشرات الغارات الجوية الدقيقة التي استهدفت معسكرات وعملاء معروفين لداعش وسط سوريا، بهدف منع الجماعة الإرهابية من القيام بعمليات خارجية وضمان عدم سعيها إلى الاستفادة من الوضع الحالي لإعادة تشكيل نفسها”.

من هنا، تبرز الأدوار الحيوية للقوى الدولية وشركائهم الإقليميين حيث يضحى بمقدورهم صناعة حالة من الاستقرار، تخفف من شروط الصراع المحتمل في سوريا، وفي المقابل طرح فرص وبدائل سياسية عديدة.

الدعم الأميركي للشركاء في سوريا وإقليميا، يسفر عن إمكانية أن تكون سوريا دولة طبيعية في محيطها السياسي والإقليمي فضلا عن علاقتها الخارجية، وليست محطة للتزود بالسلاح لحساب الدعم العسكريتاري والميلشياوي من قوى ولائية وتبعيتها الإيرانية، كما في العقود الماضية. ناهيك عن تهديدات “داعش” (وقد كانت سوريا محطة مركزية لها هي الأخرى) والتي تماثلها في الخطر مخزونات السلاح الكيماوي لنظام “الأسد”.

وتكاد زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن للمنطقة لا تخرج عن الإطار السياسي التوافقي والتشاركي ذاته بين القوى، وضمان منع أي تهديدات جديدة، ومن المتوقع زيارة (بلينكن) اليوم الجمعة أنقرة، لمناقشة ضرورة التعاون الثنائي مع المسؤولين في مجال مكافحة الإرهاب والاستقرار الإقليمي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات