منذ الإطاحة بالنظام السوري السابق، تتجه أنظار العالم إلى سوريا، حيث بدأت البلاد تأخذ منحنى مختلفاً، بعد 54 عاما من حكم عائلة الأسد، توزعت بين الأسد الأب والابن، إذ عانت البلاد في عهدهما من أزمات متراكمة، سياسية واقتصادية، ناهيك عن الفساد والقبضة الأمنية.
لكن هذا الواقع تغير بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد وهروبه إلى موسكو في الـ 8 كانون أول/ديسمبر الجاري، حيث بدأت حقبة جديدة في تاريخ سوريا، ستكون، مهما حصل، أفضل من العقود الخمس الماضية، لكن هذا بطبيعة الحال، يعتمد على رؤية السوريين لمستقبل البلاد ومتابعة ما بدؤوه في آذار/مارس 2011.
اليوم هناك رسالة واضحة يجمع عليها الشعب السوري بكل مكوناته وأطيافه، وهي أن تكون سوريا للجميع، تضمن الحقوق والحريات، لكل أفرادها بمختلف انتماءاتهم، إضافة إلى تمثيل هذه المكونات في الدولة السورية، وهذا ما يشغل تفكير الشارع السوري والعالم، الذي يراقب عن كثب ما يجري في دمشق.
غموض أم ضعف؟
لم تتضح بعد معالم توجّهات “الإدارة السياسية” التابعة لـ “إدارة العمليات العسكرية”، التي يرأسها أحمد الشرع، حيث لم يتوجه بعد بخطاب للشعب السوري، الذي ينتظر توضيحاً حول ما يجري في البلاد وإلى أين تتجه، بعد إعلان تجميد العمل بالدستور و”مجلس الشعب”.

عدم خروج الشرع بخطاب رسمي للحديث عن التغيرات التي طرأت على الساحة السورية مؤخرا، بات أكثر ما يقلق الشارع السوري، حيث اكتفى بتصريحات بثتها وسائل إعلام محلية ودولية، تتعلق بالواقع الاقتصادي والعلاقات الخارجية، وهي لا تتجاوز بعث طمأنينة مؤقتة، لكن هذا ليس كافياً، بالمقارنة مع التحول المفاجئ في سوريا.
ناهيك عن غياب عقد مؤتمر صحفي يوضح ما الذي تفعله حكومة تصريف الأعمال في الملفات المختلفة، السياسية والاقتصادية والعلاقات الخارجية، حيث يتوجب أن يخرج وزير الإعلام، أو أي شخص يمثله، بمؤتمر صحفي يومي يلخّص أهم مجريات الأحداث ويرد على أسئلة وسائل الإعلام، المحلية والدولية، وهو العِرف المتّبع في جميع بلدان العالم، بدلا من الاقتصار في ذلك على بعض وسائل الإعلام و”الناشطين الإعلاميين”.
يرى السوريون أن من غير الطبيعي أن يتوجهوا إلى وسائل الإعلام العربية والأجنبية لسماع ما يدور في بلدهم، في حين أن هناك مؤسسة سورية تم إيقافها عن العمل، حيث كان من الأجدر العمل على استمراريتها لتكون مصدرا لوسائل الإعلام الأخرى، بدلا من إعطاء امتيازات لوسيلة إعلامية سورية واحدة أو اثنتين.
إضافة إلى ذلك، فإن حكومة تصريف الأعمال، التي كُلفت بإدارة شؤون البلاد، لم تمثل كافة أطياف المجتمع السوري، بل اقتصرت على وزراء معظمهم من “حكومة الإنقاذ، التي بقي، محمد البشير، على رأسها، إذ كان ينبغي أن تحظى بتشكيلة أخرى تمثل الجميع، فالشعب السوري يمتلك خبرات عالية ومهارات في الإدارة بكافة التخصصات، بل ويصدّرها إلى دول العالم.
الشرع أضاع فرصا لإيصال رسائل داخلية وخارجية، كانت كفيلة بإنهاء 50 بالمئة من التساؤلات فيما إذا كان يعمل بعقلية الجولاني أم الشرع، وهذا سيبقى محط أنظار الجميع إلى حين رؤية واقع مختلف عما هو عليه الآن.
ما الذي يقلق السوريين؟
إضافة إلى تشكيلة حكومة تصريف الأعمال، فإن المقلق أن كافة قرارات التعيينات التي صدرت عن الشرع والحكومة، كانت لأشخاص مقربين من الحكومة ومن خلفيات راديكالية، إذ عُيّن علاء برسيلو مديراً عاماً لـ “الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون” في دمشق، وفق ما نقلت وسائل إعلام سورية عن مصدر لم تسمه، وهو ما أثار جدلا واسعا عبر منصات التواصل الاجتماعي.

السوريون أنفسهم تساءلوا عن خلفية برسيلو الإعلامية وقدرته على إدارة مؤسسة إعلامية رسمية بارزة بهذا الحجم تمثل سوريا، بينما قيل إنه كان “أدمن” لصفحة في “فيسبوك” مرتبطة بـ “هيئة تحرير الشام”.
برسيلو عمل مديراً لمنصة “المبدعون السوريون” في إدلب، وهي منصة مقربة من “الهيئة”، وظهر شخصيا في مقاطع فيديو يهاجم فيها مثلاً عمل النساء خارج المنزل، وغيرها من التفاصيل المُحافظة.
إضافة إلى برسيلو، فإن تعيين الدكتور ماهر الشرع، وهو شقيق أحمد الشرع، وزيراً للصحة في حكومة تصريف الأعمال، أثار أيضا تخوفات من تكرار نهج عائلة الأسد، إذ كان ماهر مستشاراً لوزير الصحة في “حكومة الإنقاذ”، وكان يُعرف حينها بـ “ماهر الحسين” ليخفي صلة القربى بشقيقه.
كما أن تصريحات المتحدث الرسمي باسم “الإدارة السياسية”، عبيدة أرناؤوط، أثارت قلقا جديدا حول توجهات، أحمد الشرع، ونظرته إلى عمل المرأة وتقلّدها مناصب قيادية، إذ قال أرناؤوط، إن “كينونة المرأة وطبيعتها البيولوجية والنفسية لا تتناسب مع كل الوظائف كوزارة الدفاع مثلاً”.
هذا التصريح يشير إلى رفض فكرة تولي النساء مناصب معينة في الحكومة، مما اعتبره العديد من السوريين والسوريات إهانة لدور المرأة في المجتمع وتقليلاً من كفاءتها وقدراتها، في حين تقلدت نساء سوريات مناصب قيادية في السابق، بينما تعزز دور المرأة أكثر خلال سنوات الثورة السورية، وتعرضت لانتهاكات مشابهة تماما لما تعرّض له الرجل، بدءا من الاعتقال والتعذيب، وصولا إلى القتل.
على ما يبدو أن حكومة تصريف الأعمال تتجه نحو تعميم ما عملت عليه في إدلب على مستوى سوريا، حيث تحصل للنساء هناك على حقوقهن في التعليم والذهاب إلى الجامعات، لكن لا يسمح لهن بالتمثيل السياسي، وهو الأمر نفسه بالنسبة للأقليات التي تعيش في إدلب.
تحديات أمام الشرع
من المؤكد أن هناك مجموعة تحديات، ليست بالسهلة، تواجه الشرع وحكومة تصريف الأعمال، تتمثل في الإرث الاقتصادي الصعب والواقع المترهل في مؤسسات الدولة وضعف الموارد، في حين وُضع الشرع تحت المجهر الدولي لتقييم توجهاته، فيما إذا كان يسعى إلى دولة مدنية أم لا، وهو الأساس في كسب شرعية السلطة.

على الصعيد الداخلي، فإن أكثر التحديات تتمثل في تحسين الواقع المعيشي للسوريين، الذي وصل إلى أدنى مستوياته خلال السنوات السابقة، حيث تجاوزت نسبة الفقر الـ 80 بالمئة من سكان البلاد، فيما أعلن الشرع عن خطة لزيادة الرواتب بنسبة 400 بالمئة، وسط تشكيك من تحقيق ذلك في ظل ضعف الموارد المالية، بل انعدامها في الوقت الحالي، في حين لم يتحدث عن جدول زمني.
كما أن فوضى انتشار السلاح يشكل تهديدا أمنيا، ما دفع بعض السكان إلى تشكيل لجان محلية لحماية ممتلكاتهم في أحياء العاصمة دمشق، إذ لم تفضِ دعوات تسليم السلاح إلى تجاوب من الأغلبية، وهذا يعود إلى أسباب متعددة، أهمها عدم الاستقرار وتخوفات من حدوث فوضى قبل الوصول بسوريا إلى برّ الأمان، فيما يحتفظ ضباط النظام السابق بكميات من الأسلحة والذخائر، خاصة في مناطق الساحل لاعتبارات أخرى.
لا نستطيع أن ننكر أن الشرع نجح إلى الآن في الحفاظ على مؤسسات الدولة من الانهيار وعادت عدد منها للعمل، أهمها المدارس والجامعات، إضافة إلى توفير المحروقات، لكن هذا ليس كافياً.
ما يريده السوريون هو لمس التغيير الحقيقي في سوريا بعد سنوات عجاف، وهذا ما يجب العمل عليه قبل آذار/مارس المقبل، على أبعد تقدير، وسط ترقب لما ستؤول إليه الأوضاع السياسية الداخلية..
على المستوى الخارجي، يريد الشرع أن يثبت أنه قادر على إدارة سوريا في هذه المرحلة، لكنه لم يصرّح حول دوره في المستقبل، بينما أرسل تطمينات للولايات المتحدة، تتعلق بالأسلحة الكيميائية التي كانت بحوزة نظام الأسد، إضافة إلى رسائل أخرى تؤكد عدم نيته خوض حروب أخرى في المنطقة، في إشارة إلى إسرائيل، وأنه يبحث عن الاستقرار.
على إثر ذلك بدأت الوفود الغربية بالوصول إلى دمشق، حيث التقى الشرع بدبلوماسيين بريطانيين وآخرين أوروبيين، وهو ما يشير إلى تقبل الغرب لوجوده على رأس السلطة في الوقت الحالي، لكن هذا الحال لم يكن مشابها في الدول العربية.
إذ تخشى دول عربية من وصول الشرع إلى السلطة، في ظل عدم رغبتها بهيمنة الإسلاميين، وهذا ما كان واضحا في مؤتمر العقبة ومخرجاته، التي أوصت بتطبيق القرار 2254، رغم بطلانه لغياب الطرف الآخر، وهو نظام بشار الأسد.
الشرع وجّه تطمينات إلى الدول العربية والغربية، بينما ما يزال وسيبقى تحت المراقبة، في ظل قلقٍ من ماضيه، إذ يُصنّف الشرع (أبو محمد الجولاني)، “إرهابياً عالمياً”، فيما قالت واشنطن إنها تدرس رفع هذا التصنيف.
إذاً، يدرك الشرع تماما أن شرعية السلطة في سوريا تتوقف على الاعتراف الدولي بها، وهذا يتوقف على عوامل عدة، أولها كسب الشرعية من الشارع السوري، بضمان حقوقهم الأساسية، والحريات الدينية والشخصية والتعامل مع الأقليات، وهنا يجب عليه الخروج من عباءة إدلب إلى سوريا ومنها إلى العالم، بالانفتاح بسياساته الخارجية، مما يمهّد الطريق أمام رفع العقوبات والبدء بمرحلة إعادة الإعمار، وهو ما سيلغي مشروع “الوصاية”، الذي تفكر به بعض الدول.
وأخيراً، يجب على الشرع، باعتباره الحاكم الفعلي للبلاد، أن يبني قراراته باعتبار أن الشعب السوري اليوم بات يتمتع بوعي سياسي عالٍ، ولا يمكن خداعه بقرارات سطحية لا تُحدث تغييرا جوهرياً، وألا يعتمد على دائرة ضيقة من الشخصيات، التي لم نرَ منها إلى الآن سوى ما تم إعادة تدويره من “حكومة الإنقاذ”، حيث أصبح القلق يخيّم على الكثيرين من هوية قادته الجُدد.
- ماذا تعني إجراءات “المركزي” لضبط سعر صرف الليرة بالنسبة للاقتصاد السوري؟
- دمشق ترسل فادي صقر لإقناع النازحين في حميميم بالعودة إلى مناطقهم.. ماذا حصل؟
- انتهاكات جديدة للجيش الإسرائيلي في درعا والقنيطرة.. تفاصيل
- تشكيل تحالف سياسي بدمشق.. ما مطلبه الأساسي؟
- كارثة على الطرقات.. لحوم مجهولة تغزو بسطات سوريا وسط الغياب الرقابي
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة

سوريا.. ما احتمالية تطبيع العلاقات مع إسرائيل؟

شرعي سابق بـ”تحرير الشام” يدعو لتوطين “المجاهدين” في الساحل السوري

وسط صمت حكومي.. قتلى وجرحى بغارات إسرائيلية على درعا

تغييب بنود عن الدستور الجديد وتمييع حقوق السوريين تثير انتقادات واحتجاجات
الأكثر قراءة

وسط صمت حكومي.. قتلى وجرحى بغارات إسرائيلية على درعا

وسط صمت حكومي ..درعا تشيّع قتلى الغارات الإسرائيلية

وسط الغلاء وتآكل القدرة الشرائية.. كيف يشتري السوريون “كسوة العيد”؟

وزيرة خارجية ألمانيا تطّلع على الدمار في حي جوبر بدمشق

وزيرة الخارجية الألمانية في دمشق: بداية سياسية جديدة؟

هل يضمن “الإعلان الدستوري” تحسين الأحوال المعيشية للسوريين؟
المزيد من مقالات حول في العمق

التوافق الكردي-الكردي واتفاق إدماج قسد خطى نحو تسوية سورية؟

خيارات بغداد الصعبة.. كيف تتحرك واشنطن لتطويق إيران من العراق؟

عصى ترامب تجلد “الحوثيين”: هل تخلت طهران عن حليفها الأخير؟

أحداث الساحل ومشاركة دمشق بمؤتمر بروكسل.. خطوة غربية للوراء لتحديد مسار سلطة الشرع

سوريا الجديدة تبدأ من الشمال الشرقي: مسار تكتيكي أم اتفاق تاريخي؟

تهريب الأسلحة من إيران إلى القرن الإفريقي: توظيف “الحوثيين” لدعم تنظيم “القاعدة”

ضباط الأسد في موسكو: هروب تكتيكي أم مناورة روسية؟
