لسنوات طويلة عاشت المنطقة الشرقية من سوريا، حالة تهميش ممنهج من قبل سلطات “الأسد” الأب وابنه، حالة يمكن ملاحظتها بشكلٍ جلي في وجه المدن الرئيسية الشاحبة، دير الزور، الرقة والحسكة ثلاث محافظات تعيش وضعا مأساويا من جميع النواحي الخدمية تقريبا.
وعلى مساحة تقدر بـ 75.996 كيلومترا مربعا، أي ما يشكل أكثر من 37 بالمئة من مساحة سوريا، تربو المحافظات الثلاث بتعداد سكاني يقارب 3.6 مليون نسمة بنسبة تقارب 16 بالمئة من مجموع سكان سوريا البالغ قرابة 22 مليون نسمة وفق مكتب الإحصاء المركزي السوري، قبل قيام “الثورة السورية” العام 2011.
ويمثل هذا العدد مخزونا بشريا لسوريا، يتنوع في مكوناته بين العربي والكُردي، الآشوري، السرياني، الأرمني، والتركماني.
يقول الدكتور فارس الفارس، وهو سياسي ومن وجهاء مدينة البوكمال لموقع “الحل نت”: “مما يحسب للمنطقة الشرقية أنها نسيج اجتماعي متماسك رغم التنوع. وخاض أهلها حروبا ومعارك دامية ضد الاستعمارين الفرنسي والإنكليز..”.
من الأسس التي بنى عليها حافظ الأسد سياسته تجاه منطقة الجزيرة الفراتية، واستمر عليها ابنه بشار، هي صناعة موالين له من الوجهاء والشيوخ والمتنفذين في المنطقة، ودعمهم ليحلوا مكان من كانوا يعارضونه.
وأضاف المحلل السياسي من مدينة البوكمال بدير الزور، أن المناطق الشرقية في سوريا تعرضت للتهميش من قبل عموم الحكومات المتعاقبة في البلاد منذ أربعينيات القرن الماضي، وخاصة في فترة الانقلابات، إذ ركز قادة الانقلاب على دمشق ومحيطها الجنوبي، مما أدى إلى تفاقم مشاكل المحافظات الشرقية نتيجة الإهمال الشديد، مما حدّ من قدرتها على مواكبة الاستقلال السوري وعجلة التطور الحديث، واستمر الوضع على ما هو عليه حتى تولى حزب البعث مقاليد الحكم في سوريا عام 1963.
ومنذ ذلك الحين تعاني مناطق الجزيرة الفراتية من الإهمال في تطوير البنى التحتية والخدمات، بالإضافة إلى عدم الاكتراث بالكوادر المحلية وتركها في الصفوف الخلفية بعد القادمين من المحافظات الأخرى، خاصة حلب ودمشق، ومن ثم حاز أبناء المنطقة الساحلية على الوظائف الإدارية في المحافظات الثلاث بعد استيلاء حافظ الأسد على الحكم في عام 1971.
أسباب تهميش “الأسد” للمناطق الشرقية
في سياق الحديث عن أسباب تهميش المحافظات الثلاث منذ تولي حافظ الأسد السلطة حتى الإطاحة بابنه بشار الأسد، قال الباحث السياسي غزوان مصطفى الغدير لـ”الحل نت”: “إذا ما أردنا تفسير عملية تهميش المنطقة الشرقية، قد تنطبق نظرية المركز والأطراف في علمي السياسة والاجتماع، على سلوك حافظ الأسد وطريقة إدارته لنظامه، مع مراعاة السياق الزمني لفترة حكمه، وباعتبار أن المنطقة بعيدة المركز السياسي والإداري في دمشق، فإنها بعيدة عن اهتمام سلطة الأسد الأب، أما في فترة حكم ابنه بشار فقد سمعنا ولأول مرة بمصطلح (سوريا المفيدة) التي لم تكن المنطقة الشرقية منها، وكأن المناطق التي لا تقع ضمن رؤيته تلك غير مفيدة لسوريا. ولهذا كانت المحافظات الثلاث خارج اهتمامه وليست في سلم الأولويات، وكأنه بمنظوره لا تتبع سوريا أصلا”.
أما الدكتور فارس الفارس فأوضح عدة نقاط ارتكز عليها حافظ الأسد سياسته تجاه هذه المنطقة، فيسرد أسباب ما وصفه بـ”كراهية حافظ الأسد للمنطقة الشرقية”، موضحا ذلك بما يلي: “الأسباب التي دفعت حافظ الأسد إلى كراهية المنطقة الشرقية كثيرة، منها التركيبة الاجتماعية للمنطقة الشرقية، فهي مجتمع عشائري منضبط بقيادة مشايخ -قديما- كانوا معادين ضمنيا للأسد وهذه الطائفة أغلبها سنية، مما يجعلها تشكل خطرا على حكومة الأسد الطائفية، ورغم وجود التعددية والتنوع في هذا المجتمع إلا أنها شكلت كتلة واحدة متكاملة الرؤية والتوجه حتى تاريخ اندلاع الثورة في سوريا”.

وأردف الفارس أن “تدفق الموارد والثروات الباطنية كان له تأثير سلبي على المحافظات الشرقية، إذ كانت الزراعة والثروة الحيوانية عماد الاقتصاد السوري، ثم أصبحت المنطقة الشرقية في السبعينيات خزان النفط السوري. إلا أن الأسد والمتنفذين في سلطته احتكروا هذه الموارد واجتهدوا في جعل هذه المناطق (نائية وغير متطورة) حتى لا تفلت هذه الموارد من أيديهم، خاصة أن المحافظات الثلاث تقع على حدود ثلاث دول، وهي العراق وتركيا وبشكل أقل الأردن”.
وأشار الفارس إلى أن من بين أسباب تهميش الأسد للمناطق الشرقية وتحديدا الحسكة والقامشلي، كان بسبب القضية الكُردية، إذ لم يمنح الأكراد والقوميات الأخرى المنتشرة في المنطقة حقوقهم في المواطنة كالسوريين.
“سياسة فرّق تسد”
من جانبه، يرى الصحفي عقيل حسين، ابن محافظة حلب، أن حافظ الأسد عمل على تهميش وإفقار جميع المدن السورية، لكن أكثر المتضررين من هذه السياسة كانت المنطقة الشرقية، خاصة أن المدن الكبيرة مثل حلب ودمشق كان يروج لها أهل المال والصناعة والتجارة، مما اضطر حافظ الأسد إلى مواكبة النهضة في هذه المدن خوفا من ضياع سلطته فيها، على عكس المنطقة الشرقية التي تتميز بالفقر وقلة العمل في الصناعة والتجارة، ناهيك عن هجرة أهلها إلى دول الخليج العربي للبحث عن فرص العمل التي فقدوها في سوريا.
وفي هذه النقطة، يتفق الباحث غزوان الغدير مع الصحفي عقيل حسين حول كيف “فضل نظام الأسد للمراكز السياسية والإدارية (العاصمة دمشق) والمركز الاقتصادي (حلب)، ليس على حساب المنطقة الشرقية فقط بل على حساب البلد بأكمله، على الرغم من محاولته تفكيك البنى والحوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التقليدية حتى في المركزين. ورغم طغيان النظام وظلمه، إلا أنه كان عادلا في توزيع الظلم على كافة السوريين”.
وبالتالي، أدت هذه الأسباب إلى إبعاد المنطقة الشرقية عن إدارة مناطقهم، وما تمتلكه هذه المناطق من ثروات وموارد طبيعية، واستمر هذا الإقصاء طيلة فترة حكم “آل الأسد” لسوريا.
ويرى الدكتور فارس الفارس أن الأسد الأب “وضع خطة ممنهجة لزيادة الجهل والتهميش للمحافظات الثلاث منذ عام 1980، متبعا سياسة فرّق تسد. وأهم أسباب هذه السياسة أن المنطقة الشرقية تعتبر العمق الاستراتيجي لجميع الحركات المعارضة لحكمه، كما أن موقعها على الحدود العراقية جعلها مصدر خطر على الحكم في مخيلة الأسد، بسبب التفاعل الاجتماعي والقرب من المجتمع العراقي الذي كان الأسد يعتبره عدوه الأول في المنطقة”.
“صناعة موالين” من الوجهاء والشيوخ
من الأسس التي بنى عليها حافظ الأسد سياسته تجاه منطقة الجزيرة الفراتية، واستمر عليها ابنه بشار، هي صناعة موالين له من الوجهاء والشيوخ والمتنفذين في المنطقة، ودعمهم ليحلوا مكان من كانوا يعارضونه، وبالتالي عزلهم شيئا فشيئا.

ويقول الصحفي عقيل حسين، إن “منطقة الجزيرة تضم نخبا كثيرة في كافة المجالات، لكن سياسة الأسد في الاعتماد على الموالين له وإقصاء الآخرين، زادت من تدهور النمو الاقتصادي والإداري في المنطقة”.
يتفق والرأي ذاته، حيث قال الدكتور الفارس إن “الأسد رسم خطة لإفشال المؤسسات الاجتماعية من خلال دعم أكثر من شخصية لقيادة مشيخة عشيرة واحدة، ما خلق تنافسا سلبيا، لاسيما أن من حصل على دعم الأسد لم يتمكن من إدارة المنطقة والنهوض بها”.
وزاد الفارس بالقول لـ”الحل نت”: “النخب الحقيقية تم تهميشها واقصائها بشكل متعمد، ووضع الأسد معظمهم في السجون بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من التهم الملفقة، ومن بقي منهم فر إلى خارج سوريا، وهكذا فشلت النخب في تشكيل لوبي يواجه عمليات الإبعاد والتهميش المستمرة منذ عقود، والتي لم تنته حتى يومنا هذا”.
منع تطوير القطاعات الحيوية
رغم تركز الثروات الطبيعية والموارد الأخرى كالزراعة والمياه وتربية الحيوانات في المنطقة الشرقية، إلا أنها كانت وبالا على المنطقة وأهلها، إذ حرموا من مواردها بسبب النهب الممنهج من قبل سلطات “البعث”. وعملية فصل موازنة النفط والغاز عن موازنة الدولة كانت مؤشرا حقيقيا لعمليات الفساد الهائلة، إضافة إلى حرمان المختصين في هذا القطاع من أبناء المنطقة من المناصب الإدارية وإسناد هذه الوظائف للعديد من أبناء ذوي النفوذ (تحديدا المتحدرين من الساحل السوري)، الأمر الذي شكل عائقا أمام تطور العمل في هذا المجال.
أما الزراعة وتربية المواشي فقد شهدت أيضا إهمالا كبيرا في العقود الأخيرة، مع قلة الاهتمام بالتنمية الزراعية ودعم قطاعات إنتاج البذور وتسويق المنتج النهائي.
في هذا الصدد، قال أبو خالد الحسين، عضو جمعية فلاحية في الرقة، لموقع “الحل” إن “الزراعة كانت في تراجع مستمر، رغم أن المنطقة الشرقية تأتي في المركز الأول من حيث المنتجات الزراعية الأساسية، كالقمح والشعير والقطن والذرة والبقوليات وغيرها من المحاصيل، ولم تشهد دعما حقيقيا لتنميتها والاهتمام بها بالشكل المطلوب”.
وأردف الحسين، أن “الدولة السورية خلال حقبة الأسد أهملت مسار تطوير البذار ولم توفر الأدوية الزراعية والأسمدة بشكل جيد، ناهيك عن ارتفاع أسعارها، وتراخيص إنتاج القمح والقطن وغيرها”. كما تعمدت الدولة إهمال العناية بالأشجار المثمرة مثل النخيل والجانرك والتين والمشمش وغيرها التي تنمو في المنطقة.
علاوة على ذلك، تخلت الحكومات في عهد “آل الأسد” عن فكرة مواجهة التصحر. ولم يدعموا عمليات الري وإيصال المياه إلى المناطق البعيدة عن نهر الفرات. مما أدى إلى اتساع الصحارى حتى وصلت إلى المدن والقرى في المحافظات الثلاث.
وظيفة “الهجانة” ككنز
ولم يتوقف عهد “آل الأسد” عن تهميش القطاعات الحيوية ونهب المواد. بل تعمد إلى مصادرة مناطق الجزيرة السورية من الجانب الأمني أيضا، عندما جعل النظام الحدودي بمثابة “كنز” للمسؤولين هناك، إذ كانوا يشاركون في عمليات التهريب، فضلا عن أخذ رشاوى من المهربين.

محمد أبو بسام (58 عاما)، عسكري متقاعد برتبة مساعد أول، خدم في صفوف حرس الحدود (الهجانة)، قال لموقع “الحل نت“: “معظم الضباط المسؤولين عن الحدود كانوا من الساحل، وكانوا يسمون خدمتهم في الهجانة بـ(الخليج)، بسبب الاستفادة من التهريب والإتاوات والرشاوى التي كانوا يتقاضونها من جهات عديدة. كما أن العزائم والولائم كانت تقام على شرفهم من قبل المشايخ والوجهاء والأغنياء وأصحاب الأعمال في المنطقة، بغية التقرب منهم وكسب الود”.
واستدرك أبو بسام ذلك بذكر حادثة مرض ضابط تم نقله إلى مستشفى الطب الحديث – الذي أنشأته شركة “شل” العاملة في حقل النفط – في مدينة الميادين 45 كم شرق مدينة دير الزور، فيقول: “بعد أن عالج الأطباء الضابط وتعافى، خرج يتمشى في أروقة المستشفى. ووقف مندهشا من حداثتها وقال بلهجة عامية: (كيف بدنا ناخدا عالضيعة)”.
وتعرض هذا المشفى وغيره من المرافق العامة والبنية التحتية لقصف شديد خلال الحرب في سوريا، حيث تهدم الكثير منها كليا أو جزئيا، كما أن النسبة الأكبر من المدارس في المنطقة دمرت بالكامل ولم تعد صالحة لممارسة العملية التعليمية.
وفي ضوء كل ذلك، يأمل أبناء الجزيرة الفراتية، أن يُنصفوا ليس فقط في تنمية مناطقهم، حيث إن ذلك حق لا بد منه، ولكنهم يأملون أن يشاركون في تقرير مستقبل بلادهم، سواء من حيث اختيار شكل النظام السياسي، أو في التفاصيل التي تلي شكل النظام الذي سيؤسس قريبا، مثل قانون الإدارة المحلية، والتقسيم الإداري للبلاد بشكل عام وإقليمها بشكل خاص، وعلاقة وصلاحيات كل قسم إداري مع العاصمة.
ويجب ألا ينسى أن التنمية في أي منطقة تقع بالدرجة الأولى على عاتق حكومة البلاد ومن ثم أبنائها. ومن ناحية أخرى فإن عودة أهالي تلك المنطقة إلى مدنهم وقراهم والاستثمار فيها وجعلها مركزا ووجهة (زراعية وسياحية وغيرها) لا تحتاج إلى حكومة، بل هو واجبهم ومسؤوليتهم.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة

انتقادات بسبب إقامة جلسات للجنة المؤتمر الوطني لأبناء الرقة والحسكة بدمشق

الجزيرة السورية.. ثروة زراعية مهدرة في ظل عقود من التهميش

الإرث الحضاري بشرق سوريا.. بين تهميش الأسد وتخريب “داعش”

التعليم في شرق سوريا.. عقود من التهميش الممنهج
الأكثر قراءة

وصفت بـالتاريخية لحظة تصديق الشرع على الإعلان الدستوري

هل تستفيد المصارف السورية من تعليق العقوبات عن “البنك المركزي”؟

هجوم لفلول النظام على حاجز للأمن العام بدمشق

نزوح الآلاف من الساحل السوري باتجاه لبنان.. تفاصيل

ميليشيات عراقية تعتدي على سوريين وتعتقلهم

ميليشيا عراقية تعتدي على السوريين.. دمشق تندّد والسوداني يأمر باعتقال المتورّطين
المزيد من مقالات حول في العمق

التوافق الكردي-الكردي واتفاق إدماج قسد خطى نحو تسوية سورية؟

خيارات بغداد الصعبة.. كيف تتحرك واشنطن لتطويق إيران من العراق؟

عصى ترامب تجلد “الحوثيين”: هل تخلت طهران عن حليفها الأخير؟

أحداث الساحل ومشاركة دمشق بمؤتمر بروكسل.. خطوة غربية للوراء لتحديد مسار سلطة الشرع

سوريا الجديدة تبدأ من الشمال الشرقي: مسار تكتيكي أم اتفاق تاريخي؟

تهريب الأسلحة من إيران إلى القرن الإفريقي: توظيف “الحوثيين” لدعم تنظيم “القاعدة”

ضباط الأسد في موسكو: هروب تكتيكي أم مناورة روسية؟
