شنت إسرائيل سلسلة من الهجمات على المواقع السورية بعد سقوط الأسد، مستهدفةً بشكل أساسي مواقعًا عسكرية تابعة للنظام السوري وحلفائه، وخاصة “حزب الله” اللبناني وإيران. واعتمدت إسرائيل في تبريراتها لهذه الهجمات على أنها تسعى إلى منع نقل الأسلحة المتطورة – وخاصة الصواريخ – من إيران إلى “حزب الله” عبر الأراضي السورية. كما تهدف إسرائيل إلى تقويض الوجود الإيراني في سوريا، والذي تعتبره تهديدًا لأمنها القومي. 

ربما تكون مبررات إسرائيل صحيحة إلى حد ما، إلا أن هذه الهجمات كانت متكررة ولم تعد مقتصرة على مسارات وطرق نقل الأسلحة أو على مناطق التواجد الإيراني الذي بات معدومًا بعد سقوط الأسد. وهذا يؤكد أنه حينما توجه إسرائيل الضربات الجوية العسكرية على المواقع السورية، كانت لديها حسابات خاصة غير معلن عنها؛ نسعى في هذه المقالة إلى استعراض دوافع إسرائيل وغاياتها من هذه الهجمات على الأراضي السورية.

الهجوم على البنية التحتية

قال الجيش الإسرائيلي، إن سلاح الجو شنَّ هجومًا يوم الاثنين الفائت على منطقة القرداحة غرب سوريا، في موقع عسكري كان يتم فيه تخزين أسلحة النظام السابق في سوريا. وأضاف بأن التطورات الأخيرة في المنطقة أدت إلى اتخاذ قرار بمهاجمة البنية التحتية في الموقع، مشيرًا إلى أنه “سيستمر في متابعة ما يحدث في الساحة السورية وسيفعل كل ما هو ضروري لحماية مواطني إسرائيل”. 

تقع القرداحة، وهي مسقط رأس الأسد، على بعد حوالي 80 كيلومترًا شماليًا من مرفأ طرطوس. وقد سيطرت إسرائيل على المنطقة العازلة داخل الأراضي السورية، وقامت بقصف أهداف عسكرية في أنحاء البلاد كافة منذ سقوط الرئيس السوري السابق بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر. 

وتفيد تقارير صحيفة “الشرق الأوسط” بأن إسرائيل لن تسمح بأي وجود عسكري لجماعة “هيئة تحرير الشام”، التي كانت في مقدمة الفصائل المسلحة التي أطاحت بالأسد، في جنوب سوريا. كما أفاد “المرصد السوري لحقوق الإنسان” بأن انفجارين وقعا قرب مرفأ مدينة طرطوس الساحلية تزامنًا مع تحليق طيران عسكري. 

وأضاف “المرصد”، أن المقاتلات الإسرائيلية شنت أكثر من 500 غارة على مواقع عسكرية سورية منذ سقوط الأسد في الثامن من ديسمبر وحتى نهاية عام 2024. 

الباحث في مركز “جسور” للدراسات، رشيد حوراني، يفسر الضربات الإسرائيلية قائلاً: “تقوم إسرائيل بعمليات قصف متكررة منذ سقوط الأسد وحتى الآن، لإبقاء الجيش السوري الجديد ضعيفًا وغير قادر على مواجهتها، كما أنها تتخوف من أن يقوم النظام الجديد باستثمار البنية التحتية لوحدات النظام من مراكز أبحاث وأسلحة وتطويرها”.

الضربات الاستباقية وتدمير الترسانة السورية

علنًا، صرحت إسرائيل عدم ثقتها في “هيئة تحرير الشام”، الفصيل الإسلامي الذي قاد الحملة التي أطاحت بالأسد والذي انبثق من جماعة كانت تابعة لتنظيم “القاعدة” حتى قطعت العلاقات معه في عام 2016. وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن إسرائيل لن تتسامح مع وجود “الهيئة” أو أي قوات أخرى تابعة للحكام الجدد في جنوب سوريا، وطالب بأن تكون المنطقة منزوعة السلاح. 

قوات وزارة الدفاع تدخل مدينة طرطوس دعماً لقوات إدارة الأمن العام ضد فلول النظام – “سانا”

ويرى حوراني أن “إسرائيل تتخوف من مرجعية النظام الإسلامي الجهادي، الذي تصف استراتيجيته بالقط المتربص الذي سيتحين الفرصة لضرب إسرائيل على غرار ما فعله نظام الأسد”.

ومن الناحية التاريخية، أشار الخبير حسين الديك في حديثه مع “الحل نت”، إلى أن الحدود السورية الإسرائيلية كانت تُعرف بأنها “الجبهة الباردة”، أي الجبهة الأكثر أمانًا واستقرارًا منذ العام 1973، لما شهدته من غياب خرق عسكري أو تهديد لأمن الدولة، وذلك بفضل وجود نظام حافظ الأسد ومن بعده نجله بشار الأسد. 

ولكن بعد سقوط هذا النظام، ظهرت تخوفات وهواجس أمنية قوية في الداخل الإسرائيلي وعلى أعلى المستويات السياسية والعسكرية والأمنية بأن الحكام الجدد يهددون الأمن الإسرائيلي، مما يستدعي اتخاذ ضربات استباقية ووقائية لتجريد هذا النظام الجديد من كافة الترسانة العسكرية. 

إضافة إلى ذلك، تمر سوريا بمرحلة تحول وانتقال ضبابية غير واضحة المعالم، مما يبقي الهواجس الأمنية الإسرائيلية قائمة. ولا يمكن إغفال أن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو، تعمل بشكل سريع ومباشر على إرباك الداخل السوري؛ إذ كان خطاب نتنياهو الأخير أمام الكنيست بعنوان “النهضة والسبع جبهات”، ما يدل على أن الجبهة السورية في المقدمة تخضع لإعادة تقييم استراتيجية.

أما فيما يتعلق بتدمير الترسانة السورية، فإن إسرائيل تشعر بقلق كبير من الأسلحة الموجودة في سوريا، خاصة مع تصاعد التطورات اليومية في الأراضي السورية. ويرى الدكتور حسين الديك أن إسرائيل تخشى من أن تستخدم الإدارة السورية الجديدة الترسانة العسكرية الموجودة في سوريا، ولهذا تعمل على تدميرها؛ إذ كانت إسرائيل تقنّع نفسها سابقًا بأن الأسد لن يستخدم هذه الترسانة مما قد يهدد أمنها القومي، فلم تكن في عجلة من أمرها للتخلص منها أو مهاجمة المواقع العسكرية. 

ومنذ سقوط الأسد، اتبعت إسرائيل سياسة منظمة لتدمير كل الترسانة العسكرية ومواقع تخرين الأسلحة في سوريا، سواء عبر خرائط سلمها النظام السابق أو أحد عملائه، والتي تمكن إسرائيل من الوصول إلى المخازن في اللاذقية وطرطوس وغيرها وتدميرها باستخدام عمليات استخباراتية دقيقة. 

ويضيف الديك: “تهدف الضربات أو الهجمات الإسرائيلية إلى خلق حالة من الضباب الهش والضعيف، تسهل تفكيك الدولة السورية إلى دويلات طائفية (درزية وعلوية وكردية وسنية)، لتبرير قيام دولة يهودية في المنطقة. وهذا ما حاولت إسرائيل فعله في العراق ولبنان، ويبدو أن هذا ما كان يقصده نتنياهو في خطابه أمام الجمعة العامة، حينما أعلن سنغير وجه الشرق الأوسط. هنا يتبادر السؤال: هل يسمح حلفاء سوريا بتنفيذ هذا المخطط؟ أتصور أن هذا المخطط صعب المرور به بين دول المنطقة العربية”.

النفوذ التركي في سوريا وموقف الإدارة الجديدة

يرجع جزء كبير من الضربات الإسرائيلية ضد المواقع السورية إلى التواجد التركي الواسع في سوريا. فقد أدت العلاقات المتوترة غالبًا بين تركيا وإسرائيل إلى تصاعد التوترات، خاصةً خلال حرب غزة، وقد أفاد مسؤولون إسرائيليون من واشنطن بأن الحكام الإسلاميين الجدد في سوريا، الذين تدعمهم أنقرة، يشكلون تهديدًا لحدود إسرائيل. 

الناشط السياسي، ماجد عند النور، نشر على منصة “إكس” (تويتر سابقا) ما جاء على حساب قناة “الجزيرة”: “إسرائيل ناشدت واشنطن الطلب من تركيا عدم إقامة ثلاث قواعد جديدة في سوريا.” وبعد ذلك، علّق: “معظم التصعيد الإسرائيلي على سوريا سببه التصريحات التركية اللامسؤولة ومحاولاتها إظهار توسع نفوذها في سوريا”.

وتابع عبد النور الذي عيّن حديثا كعضو في اتحاد الصحفيين السوريين: “بدءًا من تصريحاتهم حول ترسيم الحدود البحرية التي أثارت حفيظة اليونانيين والقبارصة والمصريين، مرورًا بتصريحاتهم حول وضع قواعد عسكرية متقدمة في العمق السوري، وليس انتهاءً بالحديث عن اتفاقيات أمنية وإظهار اهتمامهم المبالغ فيه برعاية المسجد الأموي لإثبات الرابطة الدينية، على غرار ما كانت تحاول فعله إيران”. 

الدبلوماسية التركية الأخيرة تجاه سوريا أرهقت الحكومة السورية الجديدة منذ يومها الأول لتسلم حكم دمشق بحسب عبد النور. فالأتراك يصرّون والحكومة السورية تعمل جاهدة على المراوغة والتبرؤ من أقوالهم دون محاولة إزعاجهم أو إحراجهم؛ لكن إلى متى؟ على الأتراك أن يدركوا أن إسرائيل لن تسمح باستبدال النفوذ الإيراني في سوريا بنفوذ تركي مهما كان الثمن، وعليهم أن يدركوا أن الحكومة الوليدة في دمشق لا تملك الرفاهية السياسية والدبلوماسية التي تجعلها تدفع ثمن تلك السلوكيات”.

ويرى الخبير حسين الديك، في حديثه مع “الحل نت”، أن هناك قناعة إسرائيلية بأن التحالف التركي مع الإدارة السورية الجديدة سيشكل تهديدًا قويًا لإسرائيل، ولذلك تحاول إسرائيل أن تقطع الطريق على تركيا وتمنع قيام دولة مركزية في سوريا، لأن مثل هذه الدولة سيكون لها دور أكبر للأتراك. ففي السابق، كانت ثلاث دول قوية هي تركيا وإيران وإسرائيل؛ تراجعت إيران بعد الحرب الأخيرة وسقوط النظام السوري وبعد حرب لبنان، لكن بقي الوجود الأكبر لتركيا، كونها عضوًا في حلف “الناتو” ولديها علاقات استراتيجية مع دول العالم مثل الصين وروسيا والدول العربية. 

ولهذا، هناك حالة من التنافس بين تركيا وإسرائيل على الواقع السوري؛ إذ تخشى إسرائيل من التحالف بين سوريا وتركيا. وتعتبر تركيا دولة قوية من الناحية الاقتصادية والسياسية، مما يشكل خطرًا على إسرائيل، ولهذا تقوم إسرائيل بالضربات والتدخلات في الشأن السوري الداخلي، مثل الحديث عن الأقليات في سوريا كمحاولة لإضعاف النظام ومنع التحالف مع تركيا، حفاظًا على أمنها القومي. 

وقد أكد حوراني أن إسرائيل تتخوف من الدور التركي المتنامي في سوريا في ظل علاقتها المتذبذبة مع الجانب التركي، وإعلان تركيا مؤخرًا تعيين ملحق عسكري لها في سوريا، ودلالات ذلك ستنعكس على الواقع العسكري السوري من حيث التدريب والتسليح وحتى الحماية من خلال اتفاقيات دفاع مشتركة. 

وحتى إن سعى مسؤولون إسرائيليون لإقناع المسؤولين الأميركيين بضرورة احتفاظ روسيا بقاعدتها البحرية في البحر الأبيض المتوسط بمقاطعة طرطوس السورية وقاعدتها الجوية في حميميم بمقاطعة اللاذقية، فإن ذلك يبقى جزءًا من استراتيجية أوسع.

من يتحمل المسؤولية؟

يرى العديد من المحللين السياسيين أن الإدارة الجديدة القائمة في سوريا تتحمل مسؤولية كبيرة فيما يتعلق بعدم الاستقرار الداخلي والجبهات المفتوحة مع إسرائيل؛ إذ إن وجود الشرع وجماعته في الحكم منح إسرائيل ذريعة إضافية لتبرير ضرباتها على الجبهات السورية بحجة تأمين حدودها من الإسلاميين.

ومع ذلك، يرى آخرون أن موقف الإدارة الجديدة هو موقف معلن ورافض لكل ما يحدث، لكنها تعمل الآن على خلق شرعية دستورية داخل سوريا من خلال مؤتمر الحوار الوطني، كما تتحدث اليوم عن لجنة سورية لإعلان دستور مؤقت، وعن إقامة علاقات مع دول الجوار، وكجزء من المنظومة العربية. 

وقد أُشير أيضًا إلى أن هناك العديد من المشاكل الداخلية، مثل عودة اللاجئين، والفقر، والبطالة، والاقتصاد، وفضّ حالات التمرد في مناطق عدة، مما يؤدي إلى اشتباكات يومية داخل الأراضي السورية. 

وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، طالب بوقف التهديدات الإسرائيلية، وصرح خلال زيارته لتركيا بأن سوريا لن تكون مصدر تهديد لأي دولة، بما في ذلك إسرائيل، مؤكدًا أنه يجب على كل دولة الحفاظ على أمنها مع الحفاظ على أمن الآخرين، و”أننا نحن أيضًا في حالة تأهب ضد التهديدات الجديدة”. ويضيف أن هذا النظام الجديد ليس في وضع يسمح له بفتح جبهة مع دولة مثل إسرائيل التي تحصل على الدعم الغربي دون شروط وحدود، كما أن النظام الجديد لا يمتلك حاليًا الأدوات العسكرية اللازمة للرد على الضربات الإسرائيلية، إذ إن ما يشغل الإرادة الجديدة هو توحيد الصف السوري وليس شيئًا آخر.

وعليه، إذا كانت الإدارة الجديدة تسعى إلى توحيد الصف السوري الداخلي وإقامة علاقات دبلوماسية قوية مع دول الجوار وغيرها، فعليها التخلص تدريجيًا من هيمنة النفوذ التركي على قراراتها، وجعل من أعداء تركيا أعداء لها، خاصة وأنها في مرحلة بناء تحتاج إلى دعم الجميع ومؤازرتهم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة