استلمت الحكومة الانتقالية السورية الجديدة أعمالها ومعها أعباء ثقيلة وتركة كبيرة من الفساد وأزمة مالية خانقة نتج عنها انهيار اقتصادي، نتيجة سنوات من الحرب والعقوبات الاقتصادية ضد نظام الأسد البائد.
ميلاد الحكومة الجديدة انتظره السوريون خاصة مع قيادة جديدة غير مألوفة إلى حد كبير، وبينما أشاد البعض بنموذج حكمها وإدارتها الاقتصادية التي طُوّرت في إدلب تحت قيادة “هيئة تحرير الشام”، هناك كثيرون يتخوفون من فشل توسعة نطاق هذا النظام ليشمل سوريا بأكملها، لا سيما في ظل المشهد الاقتصادي السوري المتدهور.
تحديات مُعقدة
تواجه الحكومة الجديدة المؤلفة من 23 وزيرًا، تحديات معقدة تتراوح بين إعادة بناء البنية التحتية المُدمرة والتي كانت تمثل العصب الأساسي للنشاط الاقتصادي في البلاد، ومحدودية الموارد خاصة المالية منها اللازمة لإعادة البناء.
وتجلت الأزمة المالية والتمويلية خلال تصريحات رئيس حكومة تصريف الأعمال السابق، محمد البشير، عقب سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، حيث أشار إلى أن سوريا ليس لديها نقد أجنبي، ويتوفر لديها فقط العملة المحلية، التي لا تساوي شيئا، وأن الأسد ترك خلفه إرثا سيئا من الفساد الإداري، وأن الوضع المالي للبلاد سيئ للغاية.

تصريحات البشير عكست أن البلاد في حالة انكشاف مالي، خاصة وأن النظام البائد عمل على تراجع الموارد على مدار أكثر من عقد، وحول البلاد نحو الاعتماد على المعونات الخارجية والمساعدات.
لذا يبدو أن مهمة جسيمة تنتظر الحكومة الانتقالية الجديدة، التي تستمر مهمتها لخمس سنوات، هي مدة الفترة الانتقالية التي حددها الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، بإيجاد حلول للأزمة الاقتصادية والمالية ومعاناة السوريين اليومية، ما بين تأمين الكهرباء، وإعادة بناء البنية التحتية المُدمّرة، وخلق فرص العمل، وضمان الحصول على الضروريات الأساسية.
هذه الاحتياجات المُلحة غير قابلة للتفاوض، وتُشكّل حجر الزاوية لأي ثقةٍ تسعى الحكومة الانتقالية إلى بنائها، وبدون معالجة هذه الاحتياجات، تُخاطر الحكومة بفقدان شرعيتها، وقد تُغلق نافذة صبر الشعب أسرع بكثير مما كان متوقعًا.
تقديرات صادمة
شخص تقرير صادم صدر عن “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” الوضع المأساوي للاقتصاد السوري ومستوى المعيشة في البلد الذي ضربتها سنوات من الحرب وتعطل عجلة الإنتاج، حيث أفاد بأنّ الاقتصاد السوري بحاجة لـ55 عاماً للعودة إلى المستوى الذي كان عليه في 2010 قبل اندلاع النزاع إذا ما واصل النمو بالوتيرة الحالية.
ووفقًا للتقرير فإن بعد 14 عامًا من النزاع، يعاني 9 من كل 10 سوريين من الفقر، وربع السكّان هم اليوم عاطلون عن العمل، والناتج المحلي الإجمالي السوري هو اليوم أقل من نصف ما كان عليه في 2011.
كان الناتج المحلي الإجمالي لسوريا 61.3 مليار دولار في عام 2010 تراجع إلى 7.4 مليارات دولار في عام 2023، وهو ما أدى إلى تراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ليصل إلى 300 دولار، في حين كان 2748 دولارا في 2010، وذلك حسب أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي.
وإذا تمكنت الإدارة الجديدة للدولة السورية من تثبيت الأمن والعودة للإنتاجية خلال عام 2025، وتيسير عمل الأنشطة الاقتصادية المختلفة، والسعي لتشغيل المرافق العامة، والبنية الأساسية، فسيؤدي ذلك إلى تحسين واقع الناتج المحلي الإجمالي، بشكل ملحوظ، ليرتفع وفق بعض التقديرات إلى 20 مليار دولار أو أكثر.
مخاوف من الفشل
بينما يراقب السوريون الوضع عن كثب، متوقعين إجراءات سريعة وفعّالة لاستعادة الاستقرار وتحسين سبل العيش، تجد الحكومة الانتقالية الجديدة بقيادة الرئيس الشرع نفسها أمام مسؤولية ومواجهة مخاطر جسيمة، خاصة وأن فشلها من شأنه أن يفتح الباب أمام الفوضى من جديد، وقد تلجأ الإدارة الجديدة لاتخاذ إجراءات أمنية للحفاظ على سيطرتها، ما يفقدها دعم المجتمع الدولي، ليتكرر سيناريو الأسد مرة أخرى.
تتطلب تلك التحديات موارد لا تستطيع الجهود المحلية وحدها توفيرها خاصة وأن ما هو متاح الآن من موارد محدود ويكاد يكون منعدمًا.

في هذا الصدد أكد الخبير الاقتصادي، عدنان عبدالرازق، في حديث خاص مع موقع “الحل نت“، أن قلة الموارد لدى الدولة السورية هي أهم ما يعيق الحكومة الانتقالية الجديدة عن تنفيذ الخطط الاستثمارية في الفترة المقبلة.
وأوضح أن الموارد في سوريا تراجعت أو تكاد أن تكون انعدمت سوى الموارد القادمة من النفط أو الضرائب أو حتى فوائد المؤسسات الاقتصادية الحكومية، حيث بقي الآن لدى سوريا بعض الموارد التي تأتي من الرسوم الجمركية والمعابر.
حلول حكومية لتوفير الموارد المالية
رأى الخبير الاقتصادي، أن الوضع الحالي ستعمل الحكومة الحالية على إيجاد حلول له من أجل توفير الموارد المالية، ومن بينها تحسين الخدمات في سوريا لتأمين مستلزمات الإنتاج، لافتًا إلى أنها إن أمنت عوامل الطاقة من نفط وكهرباء يمكن للمشاريع الإنتاجية أن تزيد الإنتاج وبالتالي يكتفي السوق المحلية ذاتيًا وربما تُصدر للخارج.
هناك احتمالات عديدة تتعلق بتلقي المساعدات من دول الخليج أو حتى الاتحاد الأوروبي، خاصة بعد تعهد الدول المانحة، بينها الاتحاد الأوروبي، تقديم مساعدات إلى سوريا، فيمكن أن تدعم هذه الأموال سوريا من خلال تسخيرها لتأمين الخدمات وتحسين واقع المعيشة للسوريين.
الخبير الاقتصادي، عدنان عبدالرازق
سيقدّم الاتحاد الأوروبي نحو 2.5 مليار يورو (2.7 مليار دولار) من المساعدات إلى سوريا، في سياق جهوده الرامية إلى إعادة إعمار البلد بعد إطاحة الرئيس بشار الأسد.
أما فيما يتعلق بتمويل المشروعات الكبرى، رأى الخبير الاقتصادي، أن هناك حلول محددة منها طرح هذه المشروعات وفق نظام B.O.T أي أن يتم جذب رجال أعمال ومستثمرين للاستثمار بالمشروعات والحصول على عائدها لأجل محدد يتم الاتفاق عليه ومن ثم تعود ملكية تلك المشروعات للدولة مرة أخرى.
تشير التقديرات إلى أن سوريا بحاجة إلى ما لا يقل عن 36 مليار دولار من الاستثمارات الاقتصادية خلال السنوات العشر القادمة، وأن تحقيق هذه الاستثمارات يتطلب زيادة الإنتاجية بنسبة 4 بالمئة سنويًا، وهو تحدٍّ كبير.
العقوبات الغربية
أوضح الخبير الاقتصادي، أنه حال لم تتحقق الجدوى من ذلك ربما تضطر الحكومة السورية أن تتجه نحو الاقتراض سواء من “صندوق النقد” أو “البنك الدولي”، على الرغم من أن لتلك مؤسسات شروط وإملاءات لها تبعات سلبية، تتعلق بطبيعة هوية الاقتصاد السوري منها على سبيل المثال سحب يد الدولة من قطاعات وتقليص الدور الحكومي.
وكانت المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، أكدت جاهزية الصندوق لدعم سوريا، موضحة أن التواصل بدأ بالفعل مع المسؤولين السوريين، لتفهم حاجة المؤسسات الرئيسية في البلاد كـ”مصرف سوريا المركزي”.

واختتم حديثه مؤكدًا أن الوضع المالي في سوريا حرِج وخطر، وأن أحد أهم أسباب بقائه حتى الآن في وضع مُتأزم هو استمرار تطبيق العقوبات الاقتصادية الغربية والأميركية والتي تحول دون وصول مساعدات واستثمارات.
وأكد أنه يمكن لسوريا أن تتلمس طريق الإنتاج وتحقيق الكفاية والتصدير حينما تزول العقوبات الاقتصادية عنها، وحينما تحقق الأمن والأمان ومن ثم طرح مشروعات للاستثمار وعقد مؤتمر دولي لإعادة الإعمار، لكن إن بقي الوضع كما هو عليه وبقي سيف العقوبات المفروضة على سوريا فإن المعاناة سوف تستمر وربما يطول أمدها.
خطوات حكومية
فيما أورد الخبير الاقتصادي، إياد أنيس محمد، خلال تصريح خاص لموقع “الحل نت”، أن الحكومة الانتقالية السورية الجديدة تواجه تحديًا كبيرًا في ظل استمرار العقوبات الغربية على سوريا، ما يعيقها عن تحريك عجلة الاقتصاد وتمويل إعادة إعمار البلاد.
على تلك الحكومة اتخاذ بعض الخطوات التي تمكنها من الوصول إلى أداء تمويلي أفضل في الدولة السورية، في ظل الظروف الراهنة وتحديات العقوبات، لتمثل بداية لتعافٍ اقتصادي يعتمد على الموارد الداخلية والعلاقات الإقليمية.
الخبير الاقتصادي، إياد أنيس محمد
وأشار إلى أن أولى تلك الخطوات تتمثل في معالجة ملف العقوبات، عبر إجراء مفاوضات دبلوماسية تستفيد من خبرات الوافدين لتخفيف القيود تدريجياً، مما يفتح المجال أمام حلول اقتصادية مستدامة.
وأضاف أن ثمة أمر مهم لابد أن يكون من أولويات الحكومة في الوقت الراهن، وهو استثمار الموارد المتاحة لتحقيق إيرادات سريعة تدعم خزينة الدولة الفارغة.
استغلال الموارد
اقترح الخبير الاقتصادي، خلال حديثه أن يتم استغلال الموارد الطبيعية مثل الفوسفات، الرمال السيليسية، الإسفلت، والزيوليت، وغيرها التي تتميز بسهولة الاستخراج وقلة تكاليف الإنتاج الأولية، مشيرًا إلى أن هذه المواد يمكن تصديرها لأسواق قريبة، مما يولد سيولة فورية.
وأضاف أنه يمكن تعزيز الصادرات الزراعية والصناعات الغذائية، التي تتمتع بميزات تنافسية، بما يشكل رافعة اقتصادية، حيث يمكن تحقيق ذلك عبر حل المشاكل الحدودية مع العراق، السوق التقليدي للمنتجات السورية، وتفعيل أسواق الخليج والسوق المصري بعد تحسين الطرقات وتطهيرها من تجارة الممنوعات، فضلًا عن تفعيل خطوط الترانزيت مثل نصيب وباب الهوى ليعزز من حركة التجارة أيضاً.

وأفاد بأن إعادة تشغيل مصانع القطاع العام، كالإسمنت والحديد، سواء بالإدارة المباشرة أو عبر التشاركية مع القطاع الخاص، إلى جانب الاستفادة من المصانع المصادرة، من شأنه أيضًا أن يُحيي الإنتاج المحلي ويساعد على خلق فرص عمل، وفي الوقت ذاته، يمكن حماية الصناعة الوطنية الخاصة من منافسة الاستيراد المجحف للحفاظ على ما تبقى من القطاع الصناعي.
وشدد على ضرورة فصل المسارات الاقتصادية عن السياسية مع دول الجوار، والاستفادة من تحسن العلاقات مع تركيا وقطر، والسعودية، لفتح أبوابها للاستثمار والتعاون التجاري.
هذا وتواجه الحكومة الانتقالية السورية الجديدة مرحلة حاسمة في بناء مستقبل مستدام وشامل، وستُحدد الأشهر المقبلة ما إذا كانت حقبة ما بعد الأسد في سوريا ستكون مرحلة بناء أم فرصة ضائعة أخرى، في ظل الآمال الكبيرة للسوريين بالتغيير وعدم قدرتهم على تحمل أعباء جديدة.
- الخطر الذي يتسلل مجدداً.. عن احتمالات عودة “داعش” إلى سوريا
- هيئتان لـ العدالة الانتقالية والمفقودين… ما المطلوب لضمان عمل مستقل؟
- “الليرة الجديدة”.. هل تنقذ الاقتصاد السوري أم تعمّق أزمته؟
- هل أصبحت سوريا مؤهلة لتلقي التمويلات الجديدة؟.. البنك الدولي يجيب
- وزير الدفاع يعلن دمج كافة الوحدات العسكرية.. ما دور بريطانيا بإعادة هيكلة الجيش؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة
الأكثر قراءة

وسط ترقب لانفراجة من واشنطن.. “المركزي السوري” يخفض سعر الدولار مقابل الليرة

وسط اتهام للمقاتلين الأجانب.. الأمن العام يفتح تحقيقا في مقتل أربعة أشخاص باللاذقية

هل تنجح قرارات المركزي الأخيرة في إعادة بناء الثقة بالقطاع المصرفي السوري؟

هل تنتعش جيوب السوريين بعد رفع العقوبات الأميركية.. خبير يوضح

هل تبيع الحكومة الجديدة القطاع العام السوري كاملًا؟.. مستشار وزير الاقتصاد يجيب

نجوم سوريا يتفاعلون مع رفع العقوبات.. فرح وشكر من كل الأطراف!
المزيد من مقالات حول اقتصاد

“الليرة الجديدة”.. هل تنقذ الاقتصاد السوري أم تعمّق أزمته؟

هل أصبحت سوريا مؤهلة لتلقي التمويلات الجديدة؟.. البنك الدولي يجيب

العقوبات تُرفع والمراقبة تبدأ.. هل ينجح “الشرع” في تنفيذ الشروط الأميركية؟

مع دخول الصيف.. أزمة الكهرباء تفاقم الأوضاع في الحسكة ومطالب بالرقابة على “المولدات”

الوجود الأميركي في سوريا: فصل اقتصادي جديد؟

عملة سورية جديدة تطبع في النمسا: ما الفئات والرموز؟

من الرياض إلى أبوظبي.. حصيلة مكاسب “ترامب” الاقتصادية خلال جولته الخليجية
