في أعقاب التضخم وارتفاع الأسعار وأزمة الوقود في فرنسا، نظمت أحزاب اليسار مظاهرات حاشدة في باريس للاحتجاج على الظروف المعيشية، والمطالبة باتخاذ تدابير جادة حول رفع مستوى الرواتب، ومكافحة ارتفاع الأسعار، وتحديد سن التقاعد عند الستين عاما، وفرض ضرائب أكثر على الأغنياء والشركات عالية الأرباح، واتخاذ إجراءات جَدية لمواجهة التغيّر المناخي.

بينما تستمر موجة الإضرابات التي شلت الحياة الاقتصادية في فرنسا، وتتأزم العلاقات بين المراكز النقابية والحكومة، يراقب النواب الفرنسيين، أثناء المرور على دوائرهم الانتخابية، احتمال نشوب حركة وغضب اجتماعي واسع النطاق، ملاحظين بداية صعبة هذا الخريف، مشابهة لبداية السنة الدراسية عام 2018، حين أفلت الوضع فجأة واشتعل الغضب، وبدأت فرنسا تتأرجح بسبب ضريبة الكربون التي أفاضت الكأس، متسائلين هل يكون البنزين الصاعق الذي يسبب الانفجار هذا العام، وفق ما نقلته صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية.

ما الأسباب؟

الصحيفة الفرنسية، أوضحت أن النواب الآن يقيسون ويراقبون ويحللون الحالة الذهنية للشعب الفرنسي، على أمل أن يكونوا قادرين على توقع الحركة القادمة، خاصة أن معظمهم لاحظ إرهاقا وميلا للاستقالة، إلا أن “الأمر بدأ يتغير، كما يقول النائب الجمهوري أنطوان فيرموريل، لأننا عندما ننتظر ساعة للحصول على البنزين الذي يكلفنا غاليا، لن يعود الأمر استقالة، إنه غضب حقيقي”، مضيفا أن لديه “انطباعا عن فوضى عامة” في إقليم لوار، لأن “الناس يعانون، ولم يعد بإمكانهم تغطية نفقاتهم، والدولة لم تتوقع إضرابات المصفاة”، قائلا إنه “قلق للغاية”.

حذر توماس ميناجي، وهو من التجمع الوطني، من أن هناك “سأما حقيقيا لا يستطيع الناس تحمله بعد الآن. يجب أن يكون الرئيس إيمانويل ماكرون شديد الحذر في قراراته”، وحذر من “الفوضى” قائلا “نحن لسنا هنا للتظاهر والعرقلة. نترك ذلك لحزب فرنسا الأبية وأقصى اليسار”.

بحسب الصحيفة الفرنسية، فإن الكثيرين رأوا أن تنظيم الإضرابات في الفترة الأخيرة “أخبار جيدة للغاية، لأنها دليل على أننا ننتقل من الاستقالة إلى التنظيم، خاصة أن الحركة إذا لم تنتشر، فذلك يعني أن الناس سوف ينمّون الكراهية في صمت، مما يعني صعود اليمينية مارين لوبان للسلطة”.

قد يهمك: مآلات الصراع الخفي بين روسيا والصين؟

استطلاع للرأي

وسط استمرار الاحتجاجات والإضرابات التي شلت الحياة الاقتصادية في فرنسا، وتأزم العلاقات بين المراكز النقابية والحكومة، كشف استطلاع رأي أجرته صحيفة “لوبوان” الفرنسية، أن 66.2 بالمئة من المشاركين في التصويت يخافون من حدوث “انفجار اجتماعي” في البلاد خلال الأسابيع القادمة.

بحسب الاستطلاع، الذي ظهرت نتائجه على موقع الصحيفة، فإن 33.8 بالمئة فقط من المصوتين أجابوا بالنفي عن السؤال الذي طرحته لوبوان، وكان “هل تخشى وقوع انفجار اجتماعي في فرنسا خلال الأسابيع القادمة؟”.

المظاهرات جرت وسط مخاوف أمنية أن تستغل من قبل متطرفي اليسار وذوي السترات الصفراء “غيتي”

بالتالي، من المرجح أن تعكس نتيجة استطلاع الرأي تخوفا لدى الرأي العام الفرنسي من اشتداد وطأة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد، في حين تواصل بعض المركزيات النقابية البارزة الإضرابات التي بدأتها منذ نهاية أيلول/سبتمبر الماضي، احتجاجا على عدم رفع الأجور، وارتفاع الأسعار، وتفاقم أزمة الطاقة مع اقتراب دخول فصل الشتاء القارس.

قد يهمك: معارك “ضارية” في الانتخابات النصفية الأميركية.. هذه أبرز التفاصيل

احتجاجات كبيرة

في السياق ذاته، فرّقت الشرطة الفرنسية، يوم أمس الأحد، مئات المحتجين بالغاز المسيل للدموع في العاصمة باريس، الذين تظاهروا احتجاجا على الغلاء المعيشي واستمرار أزمة نقص الوقود. هذه الاحتجاجات جاءت على إثر زيادة التضخم وارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية في فرنسا.

بسب وسائل الإعلام، فإن متظاهرين حطموا واجهات مصارف في باريس، فيما قال منظمو المظاهرات إن عدد المشاركين بلغ 140 ألف شخص، وتتلخص مطالب المتظاهرين بخمس نقاط وهي، التقاعد في سن الستين، وزيادة الأجور، ومساعدة للاستقلال تبلغ 1100 يورو للشباب، وتجميد الأسعار وفرض ضرائب على الأرباح الفائقة والتحول البيئي، ومن بين المطالب أيضا فرض ضرائب أكثر ‏على الأغنياء والشركات التي تحقق أرباحا كبيرة، واتخاذ إجراءات جدية في مواجهة التغيّر المناخي.

احتجاجات في باريس بسبب التضخم “إنترنت”

هذا وتزداد تكاليف المعيشة في فرنسا بسبب نسبة التضخم التي رفعتها الحرب في أوكرانيا. فوجدت العائلات نفسها أمام وضع صعب لسداد فواتيرها، وخصوصا تلك المتعلقة بالطاقة، مثل الكهرباء والغاز. حيث بات هاجس دفع الفواتير، وإكمال الشهر بما تبقى من الراتب، حديث الناس اليومي، بل أيضا أصبح يهدد بانفجار اجتماعي يلوح في الأفق، مع دعوات لتظاهرات ضد الغلاء.

المتظاهرون رفعوا لافتات كتب على واحدة منها “موجة حر اجتماعي، الشعب متعطش للعدالة”، بينما حذرت أخرى من أن “التقاعد جيد لكن الهجوم أفضل”، في إشارة إلى إصلاح نظام التقاعد الذي تريده الحكومة ويرفضه اليسار. وقال منظمو “مسيرة” الأحد، إنها تشكل استكمالا لجهود الاتحاد العمالي العام.

قد يهمك: أثر أزمة الغاز على الصناعات الأوروبية ونقلها للخارج

حركة “غضب اجتماعي” متوقعة

في سياق متّصل، عبّرت الشرطة عن تخوفها من “قدوم أشخاص عنيفين من اليسار المتطرف ومن السترات الصفراء المتطرفين الذين يرغبون في الإخلال بالتظاهرة”. وقال مسؤول أمني، إنه “تم تحذير المنظمين من هذه المخاوف”.

كما وقبل كلمة منتظرة لرئيسة الوزراء إليزابيت بورن، وجّه وزير الحسابات العامة جابريال أتال، انتقادات إلى “مسيرة لمؤيدي عرقلة البلاد”، في إشارة إلى الإضراب في مصافي ومستودعات شركة “توتال إينرجيز” الذي بدأ قبل نحو ثلاثة أسابيع، مما أدّى إلى نقص في الوقود يؤثر على العديد من قطاعات النشاط الاقتصادي.

النقابات بدأت إضرابها يوم 27 أيلول/سبتمبر الماضي، وامتدت المواجهة بشأن الرواتب إلى قطاعات أخرى في فرنسا، على الرغم من توقيع مجموعة “توتال إنرجيز”، يوم الجمعة الفائت، اتفاقا بشأن الأجور مع نقابتين، ودعت إلى إنهاء الإضراب، في حين رفض الاتحاد العام للعمال توقيع الاتفاق.

هذا وأدت الإضرابات إلى تشكّل طوابير طويلة خارج محطات الوقود وأثارت قلق قطاعات الاقتصاد كافة، من العاملين في الرعاية الصحية إلى المزارعين. من جانبها، مارست الحكومة ضغوطا كبيرة لبدء المفاوضات لإيقاف الإضرابات؛ إذ تعطل ثلث محطات الوقود في الأيام الأخيرة في البلاد.

حكومة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أجبرت بعض العمال المضربين على العودة إلى عملهم هذا الأسبوع وفتح مستودعات الوقود، في خطوة أثارت حفيظة النقابات، إلا أن المحاكم أيّدتها.

على الرغم من أنه تم التوصل إلى اتفاق بشأن زيادة الأجور ليل الخميس الجمعة، مع اتحادين يمثلان أغلبية العمال هما “الاتحاد الفرنسي الديمقراطي للعمل” (سي اف دي تي) و”الاتحاد العام للأطر، الاتحاد العام للكوادر” (سي اف او سي جي سي)، انتقد أتال استمرار الإضراب في المجموعة النفطية على الرغم من اتفاق يشمل الأغلبية. فقد أكد في مقابلة مع قنوات “أوروبا1″ و”سي نيوز” و”ليزيكو”، أن “حق الإضراب موجود بالتأكيد، لكن في لحظة ما يجب أن تبقى البلاد قادرة على العمل”.

أتال أضاف، “الأمر المؤكد هو أن هناك عددا قليلا من النقابيين الذين يعطون أحيانا انطباعا بأنهم يجلسون على مصالح الملايين من الفرنسيين”، منوّها أنه “من غير المقبول أن يستمر التعطيل بينما وقعت اتفاقات أغلبية لتحسين الأجور في الشركات”.

الاتفاق ينص على زيادة شاملة في الأجور بنسبة 7 بالمئة من بينها 5 بالمئة للجميع والباقي قد يختلف من شخص إلى آخر. كما ينص على مكافأة قدرها راتب شهر واحد يبلغ في الحد الأدنى ثلاثة آلاف يورو وعلى الأكثر ستة آلاف يورو. لكن الاتحاد العام للعمال يواصل المطالبة بنسبة 10 بالمئة مقابل “التضخم إلى جانب تقاسم” الأرباح التي حققتها شركة النفط وبلغت 5,7 مليارات دولار (5,8 مليارات يورو) للفصل الثاني وحده من العام.

رغم ذلك، دعا عددا من الهيئات النقابية إلى تنظيم “إضراب عام”، ودعت 4 نقابات وعدد من المنظمات الشبابية لاتخاذ يوم غد الثلاثاء، يوما للتعبئة للإضراب العام. وتعهّد عمال مصفاة فرنسية ومستودع للوقود، في 5 مواقع تابعة لمجموعة “توتال إنرجيز” مواصلة الإضراب، مما يفاقم المخاوف حيال إمدادات البترول قبيل احتجاجات مطلع الأسبوع المقبل.

احتجاجات في فرنسا

بالإضافة أن نقابة “سي جي تي”، تسعى إلى استخدام احتجاجات عمال المصافي نقطة انطلاق لإضراب على مستوى البلاد في القطاعات التي يمكن أن تعرقل أجزاء من البنية التحتية الفرنسية هذا الخريف. في حين أن الإضرابات قائمة بالفعل في بعض المفاعلات النووية التابعة لشركة الكهرباء الفرنسية “إيه دي إف”، وأعلنت نقابات فرعية المشاركة في إضراب أوسع نطاقا الثلاثاء المقبل.

حيث إن الاتحاد العام للعمال يواصل المطالبة بنسبة 10 بالمئة، مقابل “التضخم إلى جانب تقاسم” الأرباح التي حققتها شركة النفط وبلغت 5,7 مليارات دولار (5,8 مليارات يورو) للفصل الثاني وحده من العام.

قد يهمك: موسكو ترد على تفجير جسر القرم بانفجارات في كييف.. استراتيجية جديدة للقتال؟

أرقام كبيرة

في سياق موازٍ، لن تكون مظاهرات اليساريين الوحيدة في البلاد، بل ستتبعها مظاهرات أخرى لنقابات العمال مصحوبة بإضراب عام وشامل، بسبب عدم توصل نقابات العمال إلى أي اتفاق مع الحكومة بخصوص فض الإضرابات في القطاع النفطي. كما ويبدو أن هذا الشتاء سيكون قاسيا لناحية العلاقة بين الحكومات من جهة، والنقابات من جهة أخرى.

ضمن هذا الإطار، قال وليد عباس، مدير تحرير راديو “مونتي كارلو”، إن الحكومة الفرنسية قادرة على الضغط على شركات النفط، وتحديدا “توتال إينرجي”، من أجل الدخول في المفاوضات مع العمال بصورة أكثر نزاهة.

عباس، بيّن في حديث إلى تلفزيون “العربي”، من باريس، أن “توتال” حققت أرباحا تجاوزت 10 مليارات يورو خلال هذا العام، ووزعت حوالي مليارين ونصف المليار يورو على حملة الأسهم، كما قام رئيس الشركة بزيادة راتبه بنسبة 50 بالمئة، في وقت يطالب العمال المتظاهرون بزيادة رواتبهم بنسبة تتراوح بين 7 و10 بالمئة، لتجاوز نسبة التضخم، والحصول على نصيب مما حققته الشركة من أرباح.

صحيفة “لي زيكو” الفرنسية، نقلت هذا الأسبوع عن المرصد الفرنسي للظروف الاقتصادية قوله، إن تراجع القدرة الشرائية للمواطن الفرنسي ستستمر العام المقبل أيضا، كما أن ارتفاع المداخيل خلال النصف الثاني من هذا العام لا يمكن أن يسد الثغرات التي تسببت فيها الخسارات المسجلة خلال الشهور الأولى من عام 2022. واعترف المرصد بأن الوضع سيزداد سوءا خلال عام 2023، وتوقّع تقلصا للقدرة الشرائية بنسبة 0.3 بالمئة.

محطة وقود في فرنسا “إنترنت”

الصحيفة الفرنسية أضافت نقلا عن ماثيو بلان، الباحث الاقتصادي في المرصد، قوله إن الأرقام حول الوضعية الاقتصادية عام 2023 تشير إلى أن البطالة سترتفع بنسبة 8 بالمئة، وسيضيع نحو 175 ألف وظيفة، مما سيؤثر حتما على منظومة الأجور.

 بينما تؤكد الحكومة من جهتها أنها ستخلق 100 ألف منصب شغل جديد العام القادم، توقّع المرصد الفرنسي ارتفاع نسبة التضخم بنحو 4.2 بالمئة، وتراجع نسبة الاستهلاك بسبب المشاكل الاقتصادية التي أثرت على الأجور.

هذا ويبدو أن الحرب في أوكرانيا فرضت واقعا صعبا على العديد من الدول في العالم، حيث باتت الدول الأوروبية تعاني بشكل متفاوت من أزمة الطاقة، الناتجة عن قطع روسيا عبر خط “نورد ستريم 2” الطاقة عن الاتحاد الأوروبي، كما ويشير المحللون أن دولا مثل ألمانيا وفرنسا من أكثر الدول تضررا.

قد يهمك: كيف ساهم تفجير جسر القرم بمفاقمة المشكلات الروسية اللوجستية؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.