مخطوط

بيروت – رامز أنطاكي

قال الأخضر الإبراهيمي المبعوث السابق للأمم المتحدة إلى سورية قبل أيام أن “ما جرى في سورية قد دمر حاضرها ومستقبلها وماضيها”، وهذا التصريح لم يكن التحذير أو الإعلان الأول عن الكارثة التي أصابت التاريخ السوري في آثاره، فالتقارير والدراسات تتالت من منظمات ومؤسسات متخصصة تحذر من التنقيبات العشوائية في المواقع الأثرية السورية، وسرقة وتدمير الآثار والإتجار بها.

لكن يبدو أن تفكير من يستغلون الوضع القائم في سورية من أجل تحقيق مكاسب مادية من خلال موضوع الآثار قد تفتق عن حيلة جديدة نوعاً ما في الساحة السورية، مضمونها هو أنه بدل المخاطرة بسرقة الآثار أو التنقيب عنها بهدف تهريبها وبيعها، يقوم البعض بتزوير مخطوطات أثرية يصنعونها من مواد حديثة على نحو تبدو معها أثرية قديمة وعتيقة، ليقوموا بعرضها على المهتمين من أجل بيعها.

العامل الإضافي في هذه الحيلة هو اللعب على الوتر الديني لدى الشخص الذين ينوون الاحتيال عليه، فالمخطوطات المزورة التي تم رصدها هي تقليد لمخطوطات دينية مسيحية، يبدو أن المقلدين يأملون من خلالها أن يستثيروا حمية المسيحيين الدينية، وأن يصوروا لهم أن شراءهم لهذه المخطوطات المقلدة سيكون عملية حماية للتراث المسيحي الشرقي من الضياع عبر التهريب أو التلف أو وصولها إلى أيدي جهات غير مسيحية، مما يؤدي بنظر بعض المسيحيين إلى خسارة المؤسسة الدينية المسيحية في سورية لتراثها المخطوط والأثري.

أغلب الحالات التي حصلت لمحاولات بيع مخطوطات دينية مقلدة تم الادعاء أن مصدرها سوري لم تحصل في سورية، بل حصلت في لبنان البلد الذي يضم عدد ضخماً من اللاجئين السوريين، هو الأكبر بين البلدان التي استقبلت هؤلاء اللاجئين، كما أنه البلد الذي يضم مراكز دينية مسيحية رئيسية في الشرق، وحيث تقيم الزعامات المسيحية من رجال دين في الأديرة والبطريركيات، وبالتالي فقد يشكل سوقاً مهماً لهذا النوع من المخطوطات.

المخطوطات المقلدة التي حصل موقع الحل السوري على صور لها تظهر مخطوطات متوسطة الحجم مصنوعة من الجلد لا الورق في أغلب الأحوال، وتضم رسومات ونقوش بعضها مذهب ومفضض، تمثل شخصيات دينية مسيحية كالسيد المسيح والسيدة العذراء وبعض القديسين وإشارات الصليب، كما أنها تظهر مكتوبة بالحرف اليوناني لا العربي… وقد قال أحد الخبراء في المخطوطات الدينية المسيحية الشرقية رفض الكشف عن اسمه “أن هذه المخطوطات المقلدة لا يمكن أن تمر تحت يد مختص أو عارف بشأنها دون أن يكشف بسهولة أنها لا تساوي إلا قيمة المواد التي تتشكل منها لا أكثر”، مؤكداً أنها لا تملك أي قيمة أثرية أو حتى دينية.

العلامات والأدلة التي تمكن الخبراء من كشف تقليد هذه المخطوطات متعددة، منها أن الرسومات التي تضمها لا تشابه أي من رسومات مدارس الرسم الإيقونوغرافي القديمة المعروفة، فهي كرسومات توحي بأنها تقليد سيء للفن الإيقونوغرافي الحديث، لجهة التفاصيل ووضعيات تصوير أشخاصها، كما أن بعض الرموز والإشارات الواردة لا تحمل طابعاً مسيحياً وهي غير مفهومة إما لمضمونها كرسم العين البشرية ضمن شكل مثلث أو لجهة طريقة ومكان رسمها كالأفعى… بالإضافة إلى أن الكتابات المدونة بالأحرف اليونانية لا تحمل معنى حقيقياً، فهي في أغلب الحالات مجرد أحرف يونانية سيئة الكتابة ولا تشكل كلمات مفهومة أو ذات معنى، مما يدل على جهل المزور بهذه اللغة، أما التقنية التي استعملت في ضم صفحات المخطوطة إلى بعضها فهي غريبة وشديدة البدائية ولا تشبه المألوف في هذا النوع من المخطوطات.

ويشير أمين أحد خزائن المخطوطات في لبنان إلى أن مخطوطات مقلدة من هذا النوع بدأت تعرض على المهتمين في لبنان بقصد البيع منذ أكثر من عام، وقد طلبت فيها مبالغ مالية كبيرة بل خيالية، لا يمكن أن تدفع حتى لو كان المخطوط أصلياً، ويشير هذا الأمين إلى أن المخطوطات التي عرضت عليها قد أرفقت بصور لها وبرواية حول العثور عليها إثر تنقيبات أثرية فردية في منطقة القلمون السورية، كما قال أصحابها الذين تواصلوا معه عبر الإنترنت إن خبراء من الجامعة الأمريكية في بيروت قد عاينوا المخطوطات وعرضوا على أصحابها شراءها منهم، وقد عرض مقلدو المخطوطات من جهتهم “نقل أمين خزانة المخطوطات إلى مكان وجود هذا المخطوطات المقلدة داخل الأراضي السورية لفحصها والتوثق من أصالتها”، وهو الأمر الذي رفضه.

انتشار الأمر دفع بعض المختصين المعروفين كالأب الحارث إبراهيم، مدير مركز القديس يوسف الدمشقي لترميم المخطوطات في دير سيدة البلمند البطريركي، إلى تحذير “كل المؤمنين والمهتمين بالتراث والآثار” منها عبر صفحات موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك بقوله: “منذ أكثر من سنة ونصف يجوب لبنان أناس يدعون أن بحوزتهم مخطوطات هامة وجدوها في الأديار والكنائس المهدمة في سورية… أريد أن تنبهوا جميع من تعرفون لكي لا ينخدعوا ويدفعوا ثمناً في شيء ثمنه بخيس جداً جداً”، معتبراً أن هذه المخطوطات مزورة تزويراً سيئاً وفاضحاً.

يأسف خبير آخر من عدم توفر إمكانية التوثق من حصول حالات بيع لمخطوطات مماثلة، فهو مع وثوقه من عدم إمكانية بيع مخطوطات كهذا لجهة ذات خبرة، يخشى أن تدفع الغيرة الدينية والرغبة في الحفاظ على التراث من الضياع بعض “أصحاب النوايا الطيبة” إلى بذل أموالهم لهؤلاء المحتالين أو مساعدتهم في عملهم عن حسن نية وجهل بحقيقة الأمر.

ويختم هذا الخبير الذي يحمل صفة رجل دين، أن الرغبة العميقة في الحفاظ على التراث التاريخي، دينياً كان أو لا، من قبل المهتمين على اختلاف انتماءاتهم، والألم الذي يشعرون به جراء تدمير وضياع هذا التراث، هو أمر طبيعي ومشروع وإن كان يبقى صغيراً أمام المشاعر التي تنتاب الأشخاص أنفسهم أمام أعداد القتلى والجرحى واللاجئين من البشر الذين يحتلون المرتبة الأولى دون شك في سلم الاهتمامات والأولويات، “إذ لا قيمة للتراث إن خسرنا الإنسان”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.