كيف نفهم النص المقدس في إطار مشاركة حضارية حقيقية……
 
د. محمد حبش
 
 
 
إنه اللقب الذي منحه النبي الكريم لعبد الله بن عباس وهو أحد أشهر الصحابة الكرام الذين اختارهم النبي الكريم ليكونوا معبرين عن روح #القرآن، ومن عجيب قدر الدهر أن الفتى القرشي الذي صحب الرسول طفلاً، استطاع بالفعل أن يقفز فوق سياق جيله اليافع واتصل بالكبار وزاحمهم مجالسهم ومواقعهم، ونال لقب ترجمان القرآن…..
 
ويقال إنه الرجل الذي وضع الرسول يده على صدره وقال اللهم فقّهه في الدين وعلمه التأويل….
 
ومع أن صاحبه عبد الله بن عمر كان أشبه الناس به نسباً وقرباً وسيرة وتاريخاً، فقد قاربه في العمر ولزم النبي مثل ما لزم، وكلاهما كان ابن صحابي هام كريم، عمر والعباس، وكلاهما كان مصدر ثقة ونور وعلم، ولكن اشتهر في فقه #الإسلام شدائد ابن عمر ورخص ابن عباس……
 
وعند هذه النقطة بالذات نجدد القول بأننا جميعاً انتقائيون في علاقتنا بالتراث، ولولا ذلك لكان أحد الرجلين ضالاً على الأقل، أو كان كلاهما في ضلال، ولكن قناعتي أن كلاً منهما على هدى فيما اختار، ولا يوجد أصلاً سبيل لنحترم تاريخنا وعقولنا في آن واحد إلا بسلوك سبيل القرآن الكريم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ونتقبل منهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم،
 
وقديماً قيل الفقيه الفقيه من يبشر الناس بعفو الله ولا يقنطهم من رحمة الله، والفقه كل الفقه في التيسير أما التشدد فيحسنه كل أحد…
 
كان ترجمان القرآن هذا أكثر الناس جدلاً في تاريخ الصحابة، فقد رويت عنه أقوال مدهشة، تضع عقول فقهائنا في الكف، وراحوا يمارسون انتقائية عجيبة في أقواله وفتاويه، فيقبلونها تارة ويردونها تارة، فيقولون تارة إنها لم تثبت عنه، وتارة إنه رجع عنها، وبالفعل كيف يمكن أن تقبل منه أن عورة المرأة كل شيء حتى قلامة ظفرها، ثم تسمع منه إنه لا حرج في بدوِّ ما يظهر عند المهنة وفي الشعر المسترسل، وأن الأطراف ليست بعورة؟… وكيف يروي عنه أن المتعة حلال وأننا فعلناها في عهد أمير المتقين، وأننا ما زلنا نتمتع حتى قال رجل برأيه ما شاء، وتروي عنه القول بأن الخلع ليس بطلاق، وأن الطلاق مهما تعدد لا يقع إلا واحداً، ويجوز الجمع في #الصلاة بلا مطر ولا سفر، ومخالفاته الخمس في المواريث التي أثارت عليه خصومه.
 
واشتد عليه خصومه بالإنكار، فالرجل لا يفتيهم بما تعودوه، ولا يكرر عليهم ما حفظوه، إنه ترجمان القرآن والسنة، يترجم كل يوم بما يلبي حاجة الناس، وكان إذا جبهه الناس حاضر الحجة قوي البيان، وبعد حواره الشهير مع ابن الزبير، الذي فحمه فيه، قالت له أسماء: ويحك يا بني.. ألم أنهك عن ابن عبّاس وعن بني هاشم فإنّهم كُعُمُ الجواب إذا بُدِهوا.
 
وحين جبهه رجل فضولي غليظ ينازعه في فتواه في نكاح المتعة، ويشتمه، أجاب ابن عباس بجواب باقلاني غاندوي رائع فقال: إنك تشتمني وفيَّ ثلاث خصال: إني لآتي على آية من كتاب الله فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به ولعلي لا أقاضي إليه أبدا، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين، فأفرح به، وما لي به من سائمة.
 
رؤية تشارك فيها مع #المعري:
 
فلا هطلت علي ولا بأرضي .. سحائب ليس تنتظم البلاد
 
وقد ضاق الفقهاء بالمروي عن ابن عباس ذرعاً، ولم يجدوا مهرباً من هذا إلا التشكيك في الاسناد او أن يقولوا إنه رجع عن رأيه في ذلك كله، ولا زلنا نستمع من الفقهاء أن المعراج المنسوب الى ابن عباس مكذوب وأن كتاب تنوير المقباس من تفسير ابن عباس مكذوب كله وأن دعاء نصف شعبان المنسوب إليه مكذوب كله….
 
وبلغ حد العجب من فتاوى ابن عباس أنها صارت محل تندر الشعراء، ومما قاله
 
قـد قلـت للشـيخ لمّـا طـال مجلسـه يا صـاح هـل لـك فـي فتيا ابن عباس
 
هـل لـك فـي رخصـة الأطراف آنسة تكــون مثــواك حــتى رجْعــة النـاس
 
وتندر الناس بفتاوى ابن عباس، وقال بعضهم لبعض: ما شئت من رغائب الدنيا فانسبها إلى ابن عباس، فالرجل بستان الرياض الناضرة.
 
وعلى رغم معارضيه ومناوئيه، فقد نجح في استقطاب أهل التسامح والغفران، والعقل والانفتاح والبصيرة، وهم كثير، وكان بيته أكثر البيوت زواراً، وأغشاهم بالضيف، وفيه كان الجميع يجدون موارد السرور، قال عطاء: ما رأيت مجلسا أكرم من مجلس ابن عباس أكثر فقها وأعظم جفنة، إن أصحاب القرآن عنده وأصحاب الشعر عنده، وأصحاب الفقه عنده يصدرهم كلهم في واد واسع.
 
فما هو السر في هذا الجدل؟
 
قناعتي أن ترجمان القرآن هو الرجل الذي يترجم معاني القرآن للأجيال المختلفة وللعصور المتقلبة وللشعوب المختلفة وأنه كلما رحل القرآن من جيل إلى جيل فإنه يحتاج إلى ترجمة جديدة، وكما نحتاج أن نترجمه للعجم والحبش والقبط، لاختلاف اللغة فنحن أحوج أن نترجمه للعصور الآتية، ونعبر به من عصر الى عصر، ومن باراديم إلى بارادايم، ومن البر إلى البحر، ومن الحر إلى القر، ومن مكة إلى لوس أنجلوس، ومن خط الاستواء إلى القارة القطبية، ومن قريش إلى الأنغلوساكسون، ومن عصر المعلقات العربية إلى عصر المحطات الفضائية، ومن دار الندوة إلى الكابيتول، ومن أهل الحل والعقد إلى #الكونغرس، ومن ابن جدعان إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
 
إن ترجمة كهذه ستسبب بكل تأكيد هذا الغضب الذي مارسه التقليديون من حراس الماضي على علم ابن عباس ترجمان القرآن الأول، ولا شك سيصيبها تلك السهام التي أصابتهم….
 
من حقنا أن نمارس ما مارسه ترجمان القرآن في السنوات السبعبن التي عاشها بعد رسول الله، ونحن قد عشناها بعده ألفاً وخمسمائة عام.
 
ولو عاش ترجمان القرآن بيننا اليوم لقدم ترجمة طافحة بالعقل والواقع والحضارة، ولن أستغرب أبداً أن يروينا ما كان يرويه بهذه اللغة الجديدة:
 
ما رآه المواطنون حسناً فهو عند الله حسن…
والسيارات والطائرات والقطارات لتركبوها وزينة…
لا تجتمع الأكثرية على ضلالة….
وحيثما كانت مصلحة الوطن والناس فثم شرع الله….
الإنسان أخو الإنسان لا يخذله ولا يظلمه ولا يكذبه….
بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه الإنسان….
ما أفلح قوم ولوا أمرهم جاهلاً أو جاهلة……
الشؤم في ثلاثة: الجهل والحقد والبغي…..
كان رسول الله أكثر الناس ديمقراطية في أصحابه…
من بدل دينه فانصحوه….
من أطاع القانون فقد أطاعني، ومن عصى القانون فقد عصاني…..
اليوم أكملت لكم دينكم وأنتم أعلم بدنياكم….
هذه هي الترجمة التي نحتاجها للإسلام، وهؤلاء هم التراجمة الذين يمكن أن يجددوا روح الإسلام في عصر التحولات الكبرى، وهذه هي مدرسة ابن عباس التي رفضها التقليديون وانتمى إليها التنويريون.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.