بسام الحسين – دمشق

ما إن تحاول إيجاد مكاناً لقدميك وسط باص النقل الداخلي، حتى تسمع ضحكات خافتة وتصادف عيون شاردة، أصوات انفجارات واشتباكات عنيفة على أطراف المدن والبلدات.. لا شيء غريب الأمر بات روتينياً للجميع.

 

كل السوريين مجبرون في الداخل على العيش ضمن أجواء الحرب، حياة جديدة رسمت وأجبرتهم على عيش تفاصيلها الصغيرة في الحياة اليومية، البعض يهرب عبر ترديد بعض عبارات “أزمة وبتخلص”، “قربت”، “الله يفرجها”، والبعض بات راح يأخذ المهدئات لنسيان وتجاهل ما يحصل علّ الأزمة تنتهي، فيما يحاول الجميع البقاء على قيد الحياة قدر المستطاع.

لا يريد سالم أكثر من النوم خمس ساعات متواصلة، فهل هو أمر مستحيل؟ يسأل قائلاً “منذ ثلاثة سنوات وأنا أجاهد حتى أتمكن من النوم، حتى ضعف جسدي وصرت أعاني من فقدان الوعي نتيجة الإرهاق الشديد”.

أصبحت المسكنات المركزية والأفيونية (التي تعمل على تثبيط الجهاز العصبي المركزي) أحد أكثر العقاقير طلباً من طرف المرضى والمصابين في #سوريا، لجهة تسكينها الآلام الناتجة عن إصابات القصف أمام غياب طرق العلاج السريرية في المناطق والمدن المحاصرة.

ويبلغ دخل سالم الذي يعمل في أكثر من مجال نحو 30 ألف ليرة سورية (80 دولار أمريكي)، وهو مدمن على شراء حبوب المهدئات والتي يبلغ سعر الواحدة حوالي 500 ليرة، وهو يحتاج إلى 10 علب كل شهر كما يخبرنا، ما يعني أنه يدفع 5 آلاف ليرة وأحياناً أكثر.

سالم طالب في كلية التجارة بجامعة دمشق يتوقف تخرجه على فصل دراسي يقول “نزحنا من منزلنا الذي تهدم لاحقاً، واستشهد أخي الذي يصغرني أمام عيني ولم أتمكن من سحبه ودفنه بسبب كثافة نيران القناصة، وخطف والدي قبل سنتين وطلب الخاطفون مبلغ كبير من المال لم نكن نملكه ولم نعد نعلم ما هو مصير والدي، أعيش مع والدتي وثلاثة أخوة في منزل مؤلف من غرفة واحدة وحمام ومطبخ مشترك، أنا المعيل الوحيد لهم، ولقد تركت دراستي وعملت بكل الأعمال من عتالة إلى مندوب مبيعات جوال.. وكل ذلك لكي أرهق نفسي وأعود إلى المنزل وأنام، لكن دون فائدة”.

يشير سالم إلى أنّ الأرق “لم يفارقني منذ تلك الأيام العصيبة، إلى أن ذكر لي أحد أصدقائي نوع من أنواع الحبوب توصف كمسكن للألم وقال أنها غير مؤذية، ومن يومها وأنا أتناول تلك الحبوب فهي طبية ورخيصة فسعر العلبة الواحدة 500 ل.س ولكني بت أضطر إلى تناول أكثر من حبتين يومياً”.

أما سارة 22 عاماً طلبة في كلية الحقوق جامعة #حلب، فلا تزال تتقاضى نفقات دراستها ومصروفها من والديها، تقول أنها تدفع حوالي 2500 #ليرة شهرياً على الحبوب المهدئة، وأصبحت حالتها أسوأ عندما قتل شقيقها على إحدى جبهات الحرب في ريف حلب الجنوبي.

وتشهد سوريا منذ اندلاع الاحتجاجات في 2011 حالة نزوح كبيرة للكفاءات على رأسها الأطباء النفسيين، وهذا ما يجعل وضع المرضى أصعب بسبب انعدام العلاج، وارتفاع تكاليف الاستشفاء.

أطفال مدمنون

كأن ظروف السوريون واحدة في الحرب عليهم، منهم من فارق أحبته وأهله، و منهم من اضطر أن يبقى إلى جانب جثث بعضاً من عائلته لأيام، ومنهم توجب عليه البقاء في ثغور الاشتباك لفترات طويلة.

لكن الأمر المرعب هو أن يعتاد الجيل الجديد رؤية أطفال دون العاشرة وهم يدخنون السجائر ويدمنون الحبوب أمام الجميع، ومن غير الطبيعي أن تشاهد شباناً في مقتبل العمر لا يستطيعون إكمال يومهم دون تناول مواد مهدئة أو منشطة وحتى علب سجائر. إذ ارتفعت نسبة عمالة الأطفال بسبب الحرب وبات الأطفال معيلاً أساسياً للأسر بدخل يومي يقارب الدولار.

صيادلة شركاء في الجريمة

ينتشر في دمشق وريفها وفي مناطق سيطرة النظام، ظاهرة الإدمان على المسكنات والعقاقير الطبية المهدئة، وذلك بحسب بحث وتقصي أجريناه، حيث تحدث عدد من الصيادلة العاملين في منطقة دمر، عن ارتفاع أعداد الأشخاص الذين يضطرون لشراء أدوية مهدئة ومسكنة دون وصفة طبية، وبمعدل شبه يومي ما أدى إلى رفع مبيعات الصيدليات من هذه العقاقير الطبية.

وقال الصيدلاني عبد السلام اسماعيل: “منذ أكثر من سنتين بدأنا نلاحظ ازدياد الطلب على بعض الأدوية التي تباع عادة دون الحاجة إلى وصفة طبية من الطبيب وعادة ما تكون هذه الأدوية رخيصة، يتراوح سعر العلبة منها بين 200 ليرة و300 ليرة، والأعمار التي تطلب هذه الأدوية تتراوح بين 13 و 17 عاماً. إضافةً إلى ارتفاع نسبة الفتيات اللواتي يقبلن على شراء هذه العقاقير.

ويتابع اسماعيل: “يمكننا أن نميز الأشخاص المريضين من الأشخاص الذين يدمنون على الأدوية، إذ يتصرف المريض بعدوانية تكون ملحوظة عندما نرفض بيعه العقار الذي طلبه”.

تؤكد بعض الدراسات التي أجراها بعض الصيادلة بأن نسبة الأشخاص الذين يشترون الادوية المهدئة تتراوح بين 7 و15% وتختلف النسبة حسب الكثافة السكانية وكانت النسب الاعلى في ريف دمشق.

فيما قال الصيدلاني عبد الحميد: “للأسف توجد صيدليات تبيع بعض العقاقير دون معرفة العواقب الوخيمة والمضاعفات حول هذا الأمر، وذلك بسبب تأجير عدد من الصيادلة شهاداتهم لأشخاص غير مؤهلين لهذا العمل أو لأقاربهم كالزوج أو الأخ، مما ساعد على انتشار هذه الظاهرة”.

صيادلة من دون شهادات صيدلة

وبحسب احصاءات لوزارة الصحة التابعة للنظام، فإن من بين كل خمس صيدليات في المناطق الريفية كان يوجد صيدلية واحدة فقط يديرها شخص حاصل على شهادة صيدلة (تم استطلاع 350 صيدلية في دمشق وريفها، فيما تتراوح شهادة الأشخاص الذين يديرون الصيدليات بين طلاب كلية الصيدلة من السنة الثانية إلى طلاب السنوات الأخيرة، ثم شهادة معهد طبي ومن ثم شهادة أدب انكليزي وهؤلاء ينافسون طلاب كلية الصيدلة في فرصة إدارة صيدلية ما، وقد يصادفك أشخاص يحملون شهادة معهد تجاري أو غيرها من الشهادات التي لا تمت للطب أو الصيدلة بأي صلة يديرون صيدليات وخاصة في الأماكن النائية.
أنواع الأدوية المطلوبة

أما عن الأدوية التي تشهد إقبال مرتفع يقول جورج وهو صيدلاني يملك صيدلية في ضواحي دمشق: “تأتي العقاقير المرخية للأعصاب في المرتبة الأولى ثم هناك مسكنات الألم بكافة أشكالها الكبسولات والشراب وحتى التحاميل”. ويضيف جورج بأن عدد كبير من الأشخاص قد يلجؤن لتناول مشروبات ومواد مسكرة إلى جانب الحبوب المهدئة كي يزيدون من فعالية العقاقير التي يتناولونها، مؤكداً أن معظم من يدمن العقاقير الطبية يدمنها من أجل تخطي مشاكل أصابتهم نتيجة الظروف الاجتماعية والنفسية الصعبة التي تمر بها البلاد، حيث لم تكن هذه الظاهرة منتشرة بالكثافة التي نراها اليوم.

أرقام واحصائات رسمية

تشير الأرقام الصادرة عن “وزارة الداخلية السورية” أن الوزارة ضبطت عدد من الشبكات التي عملت على تهريب وترويج المواد المخدرة داخل سورية كما ضبطت خلال عام 2014 “528” كغ مخدر حشيش و”27.5″ كغ مخدر هيروئين وكمية أخرى من الكوكائين و”4066″ كغ مواد أولية تستخدم في صناعة الحبوب المخدرة، و”2876113″حبة كبتاغون مخدرة و”1.656″ كغ من مادة المارجوانا، و”25″ كغ مخدر الافميتامين، و”25″ كغ من انهدريد الخل، و”15″ غراماً من الأفيون المخدر وطناً من بذور القنب الهندي.

لا يقبل السوريون على إدمان العقاقير المهدئة بسبب الاسترخاء أو من باب الرفاهية، بل هو أمر بات ضروري لدى البعض للحفاظ على حياتهم، يقول أحد الأخصائيين الاجتماعين أن الإدمان الذي نشهده اليوم هو أمر طارئ على المجتمع السوري وسيختفي هذا الإدمان مع اختفاء الأسباب التي أدت لوجوده.

ندخل العام الخامس بعد اندلاع الاحتجاجات في ظل واقع مؤلم ومدمر لملايين السوريين، حيث يحاصرهم الجوع والمرض والفقر واستمرار تدفق اللاجئين، يضاف لهم “الإدمان”، ويرجّح الأطباء زيادةً مستقبليةً في عدد “المدمنين” والسبب، تبعاً للدكتور أحمد، هو “التأثير طويل الأمد لمخلّفات الحرب، والضغوط النفسية التي يتعرض لها كل مواطن جراء فقدان رزقه وممتلكاته والأهم أحد أقربائه”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.