تبرز معضلة “تزويج القاصرات”  كواحدة من أبرز القضايا الاجتماعية في سوريا التي تفاقمت بفعل الحروب والأزمات، خاصة في شمالها، حيث تتكشف آثارها السلبية على الصحة الإنجابية والجسدية والنفسية للقاصرات، وصولًا إلى التحديات القانونية المتعلقة بتثبيت الزواج ونَسَب الأطفال. في ظل هذه الأزمات، تشير الإحصائيات الرسمية الصادرة عن “الحكومة السورية” إلى نموٍّ ملحوظ في عدد زيجات القاصرات، مما يعكس حجم المشكلة ويدعو لتكثيف الجهود لمواجهتها.

وفقاً لإحصائيات نشرتها منظمة “اليونيسيف” التابعة للأمم المتحدة في عام 2015، سُجّل ارتفاع لافت في عدد زيجات القاصرات في سوريا، حيث وصلت نسبة هذه الزيجات إلى 30 بالمئة في العام 2015، مقارنة بـ7 بالمئة قبل اندلاع “الثورة السورية” في بداية عام 2011. هذا التصاعد الحاد يشير إلى تغيرات جوهرية في البنية الاجتماعية والضغوطات الاقتصادية التي تعيشها الأُسر في ظل الحرب، خاصة سكان المخيمات في شمال سوريا.

القاضي يحيى الخجا، في تصريح خاص لصحيفة “تشرين” المحلية، قدّم رؤية تفصيلية عن هذه الظاهرة في المناطق التي تخضع لـ”الحكومة السورية”، حيث بيّن أن نسبة زواج القاصرات (دون الـ 18 عامًا) في المحاكم التي تخدم دمشق وقطاع واسع من الريف لم تتجاوز 6 بالمئة، مستندًا إلى سجلات “المحكمة الشرعية” التي كشفت عن إبرام 146 عقدًا لقاصراتٍ من إجمالي 1611 عقد زواج في الشهر الأول من عام 2021، و132 عقدًا لقاصرات من إجمالي 1533 في شهر شباط/ فبراير من نفس العام.

مع ذلك، تبقى هذه الأرقام تمثّل جزءاً من الحقيقة، حيث تفتقر المناطق الخارجة عن سيطرة “الحكومة السورية”، مثل إدلب وأجزاء من حلب وريفيهما، إلى مؤسسات رسمية توثّق هذه الزيجات، مما يجعل من الصعب الحصول على إحصائيات دقيقة عن زواج القاصرات هناك.

ورغم محاولات “الحل نت” التواصل مع الجهات المعنية في هذه المناطق عبر القنوات الرسمية، لكنها لم تتلقَ أي ردود تساعد في تقديم صورة واضحة عن الوضع الفعلي في تلك المناطق.

الأمم المتحدة في سوريا
نساء في مخيمات شمال غربي سوريا

مسببات “تزويج القاصرات”

يُعد زواج القاصرات قضية معقّدة في الشمال السوري، متجذرة في التقاليد الاجتماعية ومفاهيم الشرف والسترة، ومفاقمة بالأوضاع الإنسانية الراهنة. 

تنامي هذه الظاهرة يُعزى لعوامل متعددة، من بينها النزوح والتهجير الذي زاد من هشاشة الأوضاع المعيشية والأمنية، ودفع بالعائلات إلى تزويج بناتها في سنٍّ مبكّر للتخفيف من الأعباء الاقتصادية، أو الحماية من مخاطر الاعتداء والتحرّش. 

وهذا ما أكدته خديجة عفش، مديرة “مخيم الفلاح” الواقع في ريف حلب شمال غربي سوريا، إذ أشارت في حديثها مع “الحل نت”، إلى أن التهجير والنزوح لعبا دوراً رئيسياً في تفاقم ظاهرة زواج القاصرات، مؤكدة أن الظاهرة ليست جديدة ولكنها ازدادت بشكل ملحوظ بفعل الأزمة السورية.

يُعد انعدام فرص التعليم والظروف الاقتصادية الصعبة من بين الأسباب التي تدفع العائلات لهذا الخيار، مما يؤدي إلى تداعيات سلبية كارتفاع حالات الطلاق وتسجيل أعداد كبيرة من الأطفال دون وثائق رسمية. 

وهذه مشكلة واحدة من بين المشاكل التي ظهرت في الأعوام السابقة في مناطق “المعارضة” في شمال غربي سوريا، حيث أصبحت ظاهرة “زواج القاصرات” فيها مرتبطة بمشكلات مترتّبة عليه كفقدان توثيق الزواج والطلاق والولادات، ومشكلة اختلاط الأنسَاب. 

الخوف من التحرش والاغتصاب، ورغبة الأهالي في التخلّص من الأعباء الاقتصادية والمعيشية هي اسباب لتزويج القاصرات

القاضية السورية سمر الحسين

كما تعزو القاضية، سمر الحسين، تنامي هذه الظاهرة إلى الجهل وقلة الوعي، الخوف من التحرش والاغتصاب، ورغبة الأهالي في التخلّص من الأعباء الاقتصادية والمعيشية.

وأضافت القاضية الحسين، في تصريحها لـ “الحل نت”، أن الفتيات في المخيمات السورية المختلفة عندما يتطلقنَ، يقوم الأهالي بتزويجهنّ مرة أخرى، في سلسلة من المخالفات القانونية والإنسانية.

كما أكدت القاضية الحسين، أن  المشايخ ورجال الدين والمنظمات المجتمعية يلعبون دوراً مهمّاً في ذلك، حيث يتساهلون في عقود القِران في ظل الفلتان الأمني والإفلات من العقوبة التي تمنع هذا النوع من الممارسات تحت طائلة المساءلة القانونية.

بين النص الشرعي والتطبيق

في سياق النقاش حول زواج القاصرات في الشريعة الإسلامية، يبرز الأصل الشرعي المتمثل في زواج النبي محمد من عائشة، الذي روى البخاري عن هشام بن عروة، قائلًا إن النبي محمد تزوجها وهي ابنة ستّ سنوات وبنى بها وهي ابنة تسع سنوات. 

هذه الحادثة تُعد محورية في النقاشات الفقهية المتعلقة بسنّ الزواج في الإسلام. لكن، قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي، المنبثق من منظمة التعاون الإسلامي، رقم (217-1/23)، الصادر في دورته الثالثة والعشرين المنعقدة بالمدينة المنورة من 28/10 حتى 1/11/2018، تناول قضية زواج القاصرات بشكل مفصّل.

في القرار، يُعرف الصغيرة بأنها مَن لم تبلغ سنّ الحلم، مع الإشارة إلى أن تحديد سنّ الزواج يعتمد على البلوغ الذي ينضبط عادة بين الخامسة عشرة والسادسة عشرة، كما أجمع الفقهاء. وأضاف القرار أن الشريعة الإسلامية لم تحدد سنّاً معيناً لإبرام عقد الزواج، وأن سنّ دخول الزوجة للزوج يتوقف على الزمان والمكان.

في هذا الإطار، يُشير الشيخ تاج الدين فرفور، رئيس هيئة الشؤون الدينية السورية في اسكندنافيا، خلال حديثه لـ”الحل نت”، إلى ثلاثة أمور رئيسية عند التعامل مع الحكم الشرعي: النص الشرعي نفسه، تفسير هذا النص والقواعد التي بُني عليها التفسير، وكيفية تطبيق الحكم على الواقع. 

ويُضيف الشيخ فرفور بخصوص زواج القاصرات أن الزواج له شروطه، أهمها البلوغ والقدرة على الزواج؛ فالشريعة لم تحدد سنًا معينًا لزواج الفتيات، ما يجعل الأمر متروكًا للتقدير، لكن ليس كل ما هو مباح يجب تطبيقه دون تمحيص. 

وأكد الشيخ تاج الدين فرفور لـ “الحل نت”، على أهمية العرف المجتمعي الصحيح الذي يتبع القانون، خاصةً في الدول الإسلامية التي تعتبر الشريعة مصدرًا رئيسيًا من مصادر التشريع. وشدد على أن تطبيق أحكام الزواج يجب أن يكون متوافقًا مع مقاصد الشريعة الأساسية كحفظ النفس والعرض والعقل. 

ويُلفت الشيخ فرفور إلى أن تزويج الفتاة القاصر إذا كان يسبب لها ضرراً يُعتبر زواجاً “محرّماً”، مُدينًا الإغفال عن هذه الجزئية وتجارة بعض الأهالي في زواج بناتهم. 

تزويج الفتاة القاصر إذا كان يسبب لها ضرراً، يُعتبر زواجاً محرّماً.

الشيخ تاج الدين فرفور

ويُعرب رئيس هيئة الشؤون الدينية السورية في اسكندنافيا، عن قلقه إزاء الوضع في شمال سوريا، حيث خرجت بعض المجتمعات عن هذا الإطار القانوني، مُستبدلةً إيّاه بقوانين أخرى مبنية على الجهل، بسبب حُكم تلك المناطق من “سلطات أمر واقع” خارجة عن القانون الذي نصّ في سوريا منذ العام 1959، على أن سنّ الزواج للبنت هو السابعة عشرة.

المحكمة الشرعية في دمشق

ليس ذلك فحسب؛ بل ظلت سلطات “الأمر الواقع” في شمال سوريا يرون أن هذا الموقف تحريم لما أحلّه الله وباتوا يرون تسهيلهم لهذا الأمر نوعاً من إقامة شرع الله وتحدي للأنظمة “العلمانية” وهذا التوجه منهم له أثر كبير في توجيه عادات المجتمع المحلي الموجود في شمال سوريا. 

تحديات اجتماعية وجهود للتغيير

في ظل الاحتفاء بظاهرة الزواج المبكّر كجزء من التراث الثقافي لبعض المجتمعات، والتحفّظ على هذه الظاهرة بوصفها سلوكاً لا يتناسب مع متطلبات الحياة الحديثة وتعقيداتها، تبرز قصة “أحمد جبر”، أصغر جد في إدلب، الذي تزوج في سنّ السابعة عشرة. 

جبر، الذي يؤكد أن تحمل المسؤولية في سنّ مبكرة يُعد أحد أهم سلبيات الزواج المبكر، يلفت الانتباه إلى التحديات التي تواجه تأسيس الأسرة وتربية الأطفال. 

تزويج جبر لابنته في سنّ الخامسة عشرة أثار ردود فعل متباينة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث اعتبر البعض الأمر حرماناً للفتاة من حقّها في التعليم وتحميلها مسؤوليات تفوق قدراتها الجسدية والعمرية. فيما دافع آخرون عن الزواج المبكّر كممارسة “ثقافية” و”عادات” و”تقاليد” في بعض المجتمعات المغلقة، مؤكدينَ أن الجَدل حول الموضوع قد يكون مبالغًا فيه.

في هذا الإطار، تسعى الـ “يونيسيف” بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني المحلية في البلدان التي تعاني من ظاهرة زواج الأطفال للقضاء عليها بحلول عام 2030. 

الحروب المستمرة والفقر والتهجير تقف عائقاً أمام جهود هذه المنظمات، وتزيد من تعقيدات الوضع في سوريا، التي تعاني من أزمة حرب لأكثر من عقدٍ من الزمن أدت إلى تشرّد ونزوح ملايين الأشخاص وحرمان الأطفال من الحقوق الإنسانية الأساسية. 

منظمات المجتمع المدني، خاصة في المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق والخاضعة لسيطرة “المعارضة السورية” والتي تضم عشرات المخيمات للاجئين السوريين، نشطت بشكل كبير في التصدي لظاهرة زواج القاصرات، لكنها تبقى جهود ينقصها الدعم المادي والإعلامي.

وكانت منظمة الـ “يونيسيف” التابعة للأمم المتحدة قد حذّرت من أن زواج الطفلات يهدد حياتهن ورفاهيتهن ومستقبلهن، ويجعلهن أكثر عرضة للعنف المنزلي ويحرمهن من التعليم وفرص العمل، مشددة على أن الزواج المبكّر يعتبر انتهاكاً لحقوق الإنسان وممارسة ضارة تؤثر بشكل كبير على النساء والفتيات. 

أخيراً، يجب ألا يُنظر إلى ظاهرة زواج القاصرات من زاوية واحدة بل من زوايا متعددة تشمل الاجتماعية، القانونية، الشرعية، والاقتصادية. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات