د.عبد الصمد اسماعيل:

باتت جميع الأطراف المتنازعة في البلاد وخاصة تلك التي تحكم سيطرتها على منابع #النفط ومنشآتها تستخدم #المحروقات وسيلة ضغط حقيقية في حربها مع بعضها البعض وإذا كانت الحكومة السورية قد استطاعت الحصول على #الدعم_الإيراني في جهة توفير كميات من النفط اللازم لها إلا أنها فوق خسارتها لأهم مواردها فهي تقف عاجزة في أحيان كثيرة امام إمكانية إيصال الشحنات اللازمة من الوقود والمحروقات إلى المناطق التي تريد إيصالها إليها. فأصبحت البلاد تشهد حرباً حقيقية في هذا المجال تستعر نيرانها أكثر في تلك المناطق الساخنة والتي ما تزال تدور فيها رحى المعارك أو تقع تحت #الحصار.

 

وبفقدانها السيطرة على معظم حقول النفط خلال سنوات الأزمة، باتت الحكومة تعاني بشدة من مسألة الحرب الدائرة في البلاد منذ ما ينوف عن الخمسة أعوام.

فمن جهة فقدت أهم مواردها المالية والاقتصادية (150 ألف برميل كمية الصادرات النفطية قبل الأزمة) ومن جهة ثانية أصبحت عاجزة عن تأمين احتياجاتها واحتياجات المواطنين من المشتقات النفطية (245 ألف برميل كمية النفط المكرر يومياً في مصفاتي #حمص و #بانياس قبل الأزمة) فاتجهت لاستيراد كامل احتياجاتها من #المشتقات_النفطية من الخارج فكانت #إيران وعبر الخط الائتماني الذي فتحته لها أواسط عام 2013 أكثر الدول التي أمدت الحكومة السورية بكامل حاجتها من المشتقات النفطية التي كانت تخصص كميات كبيرة منها للعمليات العسكرية ويذهب الباقي لسد حاجة السوق المحلية. حيث أصبحت إيران تزود المصافي السورية بثلاث ناقلات نفط شهرياً لتكريرها.

الحكومة تفقد زمام السيطرة النفطيةoil-1

في الوقت الذي خففت الحكومة السورية من تبعات العقوبات الاقتصادية التي فرضت عليها وخاصة من قبل #الاتحاد_الأوربي وذلك بتغيير بوصلة أسواق تصريف نفطها إلى الشرق حينها، حيث كانت ما تزال تسيطر على معظم الحقول النفطية في البلاد وهدفت إلى رفع الطاقة التكريرية للمصافي، فكان قرار التوقف عن الإنتاج والانسحاب من قبل الشركات الأجنبية المستثمرة في مجال النفط في البلاد ضربة اقتصادية قوية جاءت استجابة للعقوبات الغربية التي فرضت على قطاع الطاقة والنفط في #سوريا، هذا من جهة.

ومن جهة ثانية وبعد سيطرة المعارضة المسلحة على معظم المنابع النفطية ومنشآتها في البلاد وخاصة في دير الزور والحسكة الغنيتين بالنفط فقدت الحكومة السورية قدرتها تماماً على تأمين حاجتها وحاجة الأسواق المحلية من المشتقات النفطية لتصبح مناظر الازدحام والاختناقات أمام الكازيات في العاصمة #دمشق وكبرى المدن السورية الأخرى مناظر مألوفة للعين قاسية على الحياة بتفاصيلها المتعددة بات معها المواطن غير قادر على تأمين حاجته من وقود التدفئة وغاز الطبخ وتشغيل المولدات الكهربائية الصغيرة والصناعي غير قادر على تأمين حاجة معمله أو مصنعه من وقود لتشغيله وسائقو الآليات غير قادرين على تأمين حاجة آلياتهم من الوقود سواء لأغراض شخصية أو لأعمال نقل ومواصلات يؤدونها للآخرين وحكومة عاجزة تماماً عن تأمين حاجة المشافي والمدارس والأفران وآبار المياه المغذية للمدن والبلدات من مادة #المازوت التي تشكل الدم الذي يسير بمعظم شرايين الحياة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.

واقع المشتقات النفطية قبل وبعد الأزمة

لا تعتبر سوريا بلداً نفطياً بالمعنى العام للمصطلح، إلا أنها كانت وما تزال بلداً منتجاً للنفط. فقد بلغ حجم الإنتاج النفطي في سوريا قبل اندلاع الأزمة 380 ألف برميل يومياً كان 150 ألف برميل منها يتم تصديره للخارج ويكرر الباقي في المصافي المحلية لتأمين جزء من حاجة البلاد للمشتقات النفطية والتي كانت تبلغ حوالي 16 مليون طن في حين كان حجم الإنتاج اليومي من الغاز يبلغ حدود 29 مليون م3.oil-2

ومع فقدان الحكومة لأكثر من 97% من إنتاجها النفطي الذي لا يصل اليوم إلى 9 آلاف برميل من النفط وحوالي 5.9 مليون م3 من الغاز يومياً باتت عاجزة تماماً عن سد حاجة السوق المحلية من المشتقات النفطية فبينما كانت كمية المشتقات النفطية المنتجة عام 2010 في مصفاتي #حمص و #بانياس 11.7 مليون طن متري فقد انخفضت إلى 4.2 مليون طن متري عام 2015 والتي انخفض حجم الاستهلاك المحلي منها بأكثر من 62% نتيجة أسباب متعددة أهمها هجرة الكثير من السكان إلى خارج البلاد وخروج مناطق كبيرة المساحة وآهلة بالسكان من تحت سيطرة الدولة لتبقى الحكومة كفيلة بتأمين المحروقات والوقود لتلك المناطق التي تقع تحت سيطرتها فقط مما كان سبباً واضحاً في تراجع حجم #الاستهلاك_المحلي بالأرقام الرسمية.

والمفارقة الكبيرة هنا تكمن في ارتفاع حجم مبيعات #شركة_محروقات عام 2015 لحدود 637 مليار #ليرة سورية مقابل 307 مليارات فقط في عام 2010 بالرغم من انخفاض حجم الاستهلاك من المشتقات النفطية كما أوضحنا سابقاً ولكن السبب يعود هنا وبوضوح إلى رفع أسعار المحروقات من قبل الحكومة وبأضعاف مضاعفة إلا أنه وإذا ما تم تقييم الرقمين بـ #الدولار الأمريكي ووفق سعر الصرف السائد في كل فترة فإن حجم المبيعات في عام 2010 يبلغ 6.14 مليار دولار في حين أنها تبلغ 1.21 مليار دولار فقط في عام 2015.

أرقام ومغالطات والحكومة تحقق أرباحاًoil-3

وتحت ذريعة ارتفاع تكاليف #استيراد المشتقات النفطية من الخارج اتبعت الحكومة السورية سياسات اقتصادية جديدة تلخصت في رفع أسعار المحروقات من جهة وسحب الدعم المقدم لها من جهة ثانية بالرغم من رصد 445 مليار ليرة سورية في موازنة العام الحالي لدعم المشتقات النفطية تحولت بعد قرارات #رفع_الأسعار إلى وفر مالي للدولة، فضلاً عن الأرباح التي أصبحت تحققها من بيع المشتقات النفطية مستفيدة من فارق السعر بين أسعارها العالمية المتدنية التي تشتري بها نتيجة انخفاض أسعار النفط الخام والأسعار التي تبيع بها في السوق المحلية والتي شهدت ارتفاعات متتالية كان آخرها في حزيران الماضي عندما رفعت الحكومة أسعار المحروقات بنسبة وسطية زادت عن 37% فارتفع البنزين بنسبة 40.6% واسطوانة الغاز بنسبة 38.8% أما سعر لتر المازوت فقد ارتفع بنسبة 33.3% ليصبح 180 ليرة بعد أن كان 135 ليرة للتر الواحد.

وعلى الرغم من اعتماد الحكومة السورية في الجزء الأكبر من حاجة البلاد من المشتقات النفطية على الخامات المكررة في المصافي المحلية إلا أنها كانت تشتكي دائماً من ثقل عبء الدعم المقدم للمشتقات النفطية وخاصة المازوت والسبب في ذلك كان يعود إلى أن النفط المسلم للمصافي كان يباع لها بالسعر العالمي وكأنه مستورد من الخارج مما كان يرفع من تكلفة الإنتاج (وكأن شخصاً ما يحسب على أسرته آجار المنزل الذي يملكه) مما كان يزيد من رقم الدعم.

والآن وبعد انخفاض أسعار النفط عالمياً لأقل من النصف مقارنة بأسعار ما قبل منتصف عام 2014 واعتماد الحكومة السورية على النفط الإيراني المستورد المؤجل الدفع ما تزال الحكومة تتحجج بذرائع مختلفة لرفع أسعار المحروقات كارتفاع تكاليف #الاستيراد نتيجة ارتفاع #سعر_الصرف وتزايد عبء الدعم المقدم للمشتقات النفطية مع صعوبة النقل والتأمين داخل القطر إلا أن في ذلك الكثير من المغالطات.

فالاستيراد يتم وفق الخط الائتماني وهو بالتالي مؤجل الدفع فإن أي ارتفاع في أسعار الصرف لا يكلف الحكومة حالياً أية تكاليف استيراد إضافية كما أن رفع أسعار المشتقات النفطية المازوت والبنزين والغاز محلياً بنسب عالية 12 ضعفاً و5 أضعاف و13 ضعفاً على التوالي قد جعلت الحكومة وفي ظل انخفاض أسعار النفط العالمية في موقع تحقيق الأرباح من بيعها وليس تقديم أي دعم لها.oil-4

فقد سجلت مبيعات محروقات في عام 2015 زيادة بنسبة 68% عن عام 2014 حيث بلغت المبيعات الإجمالية لشركة محروقات (مشتقات نفطية وغاز منزلي) عام 2015 حوالي 637 مليار ليرة سورية شكل المازوت منها 1.567 مليون م3، وكمية البنزين 1.215 مليون م3، والفيول 1.519 مليون طن، والغاز المنزلي 368 ألف طن. فإذا أخذنا بعين الاعتبار ما يلي:

-انخفاض أسعار النفط إلى النصف بين عام 2015 و2016 وعام 2014

-رفع أسعار المشتقات النفطية في عام 2016 بوسطي 37.3%

فإن ذلك يعني بالضرورة ارتفاعاً في حجم مبيعات شركة محروقات خلال العام الحالي وانخفاضاً شديداً في حجم مشترياتها وبالتالي لا تقدم الحكومة اليوم أية مبالغ كدعم للمشتقات النفطية المباعة للمواطنين بل على العكس فهي تحقق أرباح من جراء بيعها لهم. إلا أن المسألة الرئيسية هنا تكمن في تمويل المحروقات والوقود المخصص للآليات العسكرية في الحرب الدائرة والكميات المستهلكة فيها وهنا ليس من العدل مطلقاً اعتبار المبالغ المخصصة لذلك وفرق الأسعار مبالغ دعم تشتكي منها الحكومة وتحمل وزرها على المواطنين.

بين المعارضة والنظام والجماعات المسلحةoil-5

يبقى المواطن وخاصة في الريف الخاضع لسيطرة المعارضة هو الحلقة الأضعف في مسلسل تأمين المشتقات النفطية وخاصة المازوت الذي كان يشكل سلعة الحياة الأولى بالنسبة لهم قبل الأزمة فبه كانوا يتدفؤون وبه كانوا يشغلون آلياتهم الزراعية ومضخات مياه آبارهم ووسائل نقلهم وتنقلهم ويزرعون أراضيهم فضلاً عن الغاز المنزلي المعد لطبخ طعامهم.

ومع بدء الاحتجاجات في سوريا وتحول هذه المناطق إلى مناطق نزاع ومواجهات عسكرية بات المواطنون هناك يعانون بشكل كبير من مسألة تأمين الوقود اللازم لاستمرارية حياتهم مما كان سبباً لترك الكثيرين منهم لأراضيهم وقراهم وتوجههم نحو المدن الكبرى أو المناطق الآمنة.

إلا أن الكثيرين منهم ما يزال يرزح تحت وطأة الحياة الصعبة أمنياً واقتصادياً هناك. وتصل المشتقات النفطية إلى هذه المناطق بأسعار خيالية وبأكثر من عدة أضعاف زيادة عن أسعارها المحلية ومن عدة مصادر أهمها الجماعات المسلحة المسيطرة على المنابع النفطية والتي تقوم بتكريره بطرق بدائية وبيع مشتقاته بأسعار عالية عبر شبكة من التجار وسائقي الشاحنات والصهاريج ممن ينتمون اجتماعياً إلى كلا المنطقتين.

والمصدر الآخر هم تجار نقاط التماس بين المعارضة والنظام والذين يقومون من خلال علاقاتهم المشبوهة بالطرفين بتهريب كميات من المازوت إلى هذه المناطق وبيعها بأسعار تفوق الأسعار الرسمية في البلاد بكثير وتزداد هذه الأسعار ارتفاعاً بشكل جنوني في المناطق المحاصرة حيث تصل في الريف الإدلبي إلى 2.5 ضعفاً وفي ريف درعا إلى 3.5 ضعفاً وتصل إلى أكثر من 20 ضعفاً في #الغوطة_الشرقية وذلك بحسب جريدة الحياة اللندنية.oil-6

وبذلك فإن مسألة تقديم أية معونات غذائية أو طبية تبقى مسألة ناقصة بامتياز ما لم تتناول قضية تأمين الوقود اللازم لحياة هؤلاء المواطنين هناك لأن توفير كميات مناسبة من المشتقات النفطية لهذه المناطق كفيلة بتشغيل المشافي والأفران والمدارس ولإعادة تشغيل القطاع الزراعي الذي يعتبر أساساً في الحياة الاقتصادية لتلك المناطق ومصدراً رئيسياً للرزق عند أهاليها. لذلك فإن حرمان الأهالي هناك من المحروقات من قبل الأطراف المتنازعة مجتمعة والمتاجرة بها بأسعار جشعة تشكل عبئاً اقتصادياً وحياتياً كبيراً على كاهلهم وهم يرزحون أصلاً تحت نير انعدام الأمن والعمليات العسكرية المستمرة.

خسائر كبيرة ولكن؟

بحسب وزير النفط في الحكومة السورية فإن “خسائر القطاع النفطي المباشرة وغير المباشرة في سورية تجاوزت 60 مليار دولار”، إلا أننا لا يمكننا أن نغض الطرف عن الحيثيات والملابسات والمغالطات التي تمارسها الحكومة في مسألة تامين المشتقات النفطية في البلاد والتخفيف من حدة الأزمات التي تسببها شح تلك المشتقات أو عن طريقتها في توفير الدعم المقدم لها أو ترشيد استهلاكها ذلك أن المحروقات تتميز عن غيرها من السلع بضعف مرونة الطلب عليها وانعدامه في أحيان كثيرة خاصة لدى الأسر السورية التي تعتمد على المازوت في التدفئة وعلى الغاز في الطبخ وبالتالي فإن رفع مستوى أسعارها لن يكون كفيلاً بانخفاض حجم الطلب عليها كما تدعي الحكومة السورية لأن غالبية المواطنين لم يعودوا يملكون قدرات شرائية عالية أصلاً فأصبحوا مقتصدين في كل استهلاكهم وهم ليسوا بانتظار وسائل لترشيده.

فمع كل الأهمية التي تشكلها المحروقات والوقود في الحياة الاقتصادية واليومية للناس لم تستطع الحكومة حتى الآن إدارتها بالشكل المطلوب وجل ما كانت تفعله دائماً هو الرفع المستمر في أسعارها خلال سنوات الأزمة كوسيلة لتوفير موارد مالية لخزينة الدولة.

ولكن على حساب المواطن المغلوب على أمره وازدادت هذه الارتفاعات حدة مع استمرار المواجهات العسكرية في البلاد وخسارة الدولة سيطرتها على منابع النفط ومنشآته مما أدى إلى نقص واضح في توفر الوقود والمحروقات في البلاد المر الذي ترك آثاراً خطيرة على الاقتصاد الوطني وتكاليف الإنتاج فيه وبالتالي على الواقع الاقتصادي والمعاشي للمواطنين لما تشكله المحروقات من عنصر هام في الإنتاج والنقل والشحن والتخزين واستخدامها وخاصة المازوت بديلاً عن الكهرباء التي تعاني من انقطاعات مستمرة سواء للإنارة أو للتدفئة أو في الإنتاج الصناعي أو الزراعي الأمر الذي ينعكس زيادة في أسعار السلع والمنتجات والخدمات الرئيسية للناس وارتفاعات جديدة في مستويات الأسعار في الأسواق.

ومن هنا فإنه لا بد من العمل الجاد في مسار إعادة ترميم وتأهيل البنى التحتية التي تم تدميرها او تعطيلها في قطاع الصناعة النفطية وتأمين وتوزيع المشتقات النفطية من بنزين ومازوت وغاز والتي تشكل عصب الاستهلاك في الحياة اليومية للناس وتأمينها بشكل رسمي ونظامي وبأسعار مقبولة بهدف تخليص أهالي تلك المناطق من جشع تجار الحرب الذين يقومون بتهريبها وبيعها لهم بأسعار خيالية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة