غزت الولايات المتحدة بلاد الشام قبل 15 عاماً، لكن مبدأ سياسة الأرض المحروقة في المنطقة أبقت النار مشتعلة.

عن سياسة الولايات المتحدة وتدخلاتها في بلاد الشام نشرت مجلة الفورين بوليسي تقريراً لكاتبه روبيرت دي كابلن أوضح من خلالها أن السبب في الفوضى العارمة التي لحقت بالعراق إثر سقوط نظام #صدام_حسين كان نظام البعث وليس السياسة الأمريكية، مؤكداً أن حكم #البعث في سوريا أفضل منه حالاً في العراق، فكتب:

تدخّلت الولايات المتحدة عسكرياً في العراق عام 2003، أي قبل 15 عاماً من الآن، وكانت النتيجة الحرب والفوضى. لكن النتيجة لم تتغير عندما لم تتدخل في سوريا في العام 2011، حيث تم الطعن في النظام هناك، فالنتيجة أيضاً لا تزال الحرب والفوضى. وعلى الرغم من تفسير وسائل الإعلام الصراع في بلاد الشام أنه نتيجة فشل السياسة الأمريكية، فالحقيقة أن سياستها في سوريا كانت مختلفة 180 درجة عنها في العراق، لكن النتيجة لم تتغير، حيث يتوجب على الصحفيين والمؤرخين الاعتراف بوجوب وجود قوة أعمق وأكثر جوهرية في العمل في كلا البلدين.

ويوضح الكاتب أن تلك القوة الأعمق هي إرث البعثية. ويضيف، كان هناك مزيج سام من القومية العربية العلمانية والاشتراكية على طراز الكتلة الشرقية التي هيمنت على سوريا والعراق لعقودٍ منذ الستينات، جعلت من نظام عائلة الأسد في سوريا ونظام صدام حسين في العراق أنظمة فريدة تماماً في العالم العربي. ويؤكد أن البعثية، هي الكابوس المريع الذي دمّر الأراضي الواقعة بين المتوسط والهضبة الإيرانية في أوائل القرن الحادي والعشرون، أكثر مما دمره جورج دبل يو بوش أو باراك أوباما.

كقاعدة عامة، كلما كانت العقيدة أكثر إجمالاً وتجريداً، كلما زاد الدم الذي يتبعها. ذلك لأنه بمجرد إسقاط زعيم أو تحدّيه، فإن مثل هذه العقائد لا تنص على وجود طبقات وسيطة من المجتمع المدني لتدعم البلد سويةً، فقط هناك النظام في القمة والعشيرة أو العائلة الكبيرة في الأسفل، أوضح الكاتب.

وأضاف: في لقاء لي مع المثقف إلياس خوري عام 1998، أي قبل ثلاثة سنوات من أحداث 11 سبتمبر، قال لي فيما يخص سوريا والعراق: “لم تنجح هذه الأنظمة فقط في تدمير مجتمعاتها، إنما نجحت في تدمير أي بديل يحل محلها. ولأنه لا وجود لبديل يمكنه البقاء، يبقى الاختيار بين السيطرة الكاملة أو الفوضى العارمة”.

كانت توقعات الخوري مستندة إلى معرفة أن كل من حافظ الأسد وصدام حسين استخدما عقوداً من وجودهم في السلطة لبناء أساس لجهاز استخباراتي مستحدث يشبه الدولة، شعوبهم بقيت تابعة، وليسوا مواطنين، مشحونون بالتناقضات العرقية والطائفية ليصبحوا أشبه بقنابل موقوتة، ذلك بدلاً من أن تتم تنميتهم اقتصاديا وسياسياً وصحياً. فتوجد تحت دروع الاستبداد فراغات مطلقة.

كانت العقيدة البعثية هي أساس هذا الفشل الكامل في صياغة الهويات العلمانية الحيوية التي تمتد عبر الخطوط العرقية والطائفية في سوريا والعراق. وبحسب الكاتب، فإن الإيديولوجية البعثية كانت أكثر فتكاً مما حصل خلال طغيان البرجوازيين في تونس ومصر وأماكن أخرى من العالم العربي. فعلى سبيل المثال، كانت لكل من مصر وتونس حضارات قديمة العهد، وبشكلٍ أو بآخر كانتا تشكلان دول منذ العصور القديمة ولهما هوية قديمة الحضور في التعامل، في حين أن العراق وسوريا ليستا سوى حدود جغرافية غامضة تحملان تاريخ أضعف مقارنة بباقي الدول، وبالتالي فإنهما تتطلبان أشكالاً أكثر تطرفاً من الوحشية لتتماسكا.

صُقل البعث قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية من قبل عضوين من الطبقة الدمشقية الوسطى، المسيحي ميشيل عفلق والمسلم صلاح الدين بيطار، اللذين انجذبا إلى العقائد البارزة التي تدور حول أوربا، حيث كانا طالبين في فرنسا أوال الثلاثينيات. فانبثق ما هو إعداد للقومية العربية الماركسية التي فتن بها كل من عفلق وبيطار، والنظريات الألمانية عن الهوية المثالية للدم والتراب التي كانت سائدة بين النازيين في ذلك الوقت.  ويشير الكاتب إلى أن كتبه العالم الفرنسي أوليفر روي عن الأصوليين الإسلاميين المتعلمين اليوم ينطبق على البعثيين العلمانيين أيضاً. لأن مجتمعاتهم قد تجاهلت المثقفين من الطبقات الدنيا والوسطى، فاستاؤوا من وضعهم وحلموا بالثورة التي من شأنها القضاء على البرجوازية العربية بشكل كامل وإحلال الدويلات المركزية مكانها ذات الفكر البروليتاري. ومع حلول الستينات، الناس الذين كانوا مثل عفلق وبيطار_ لا ينتمون للطبقات التقليدية لتجّار دمشق وبغداد، ولا يشكلون النخب العثمانية والأوربية في عهد الانتداب مع مفاهيم الحكم البسيطة _ لقوا اهتماماً من الضباط والناشطين العسكريين الصاعدين مثل الأسد الأب وصدام حسين.

وبحسب التقرير، فإن المعنى الفكري للأفكار البعثية والتجريدية تبدد عندما واجهت المجتمعات الأمية والتقليدية بشكل مباشر في بلاد الشام، فكانت الدولة مجرد نظام شرطة عقيم مبني على القمع وبعضاً من التطور الاقتصادي والتلاعب بالطوائف والعشائر. فبحسب الكاتب، تطور البعث في العراق في ظل حكم السنة إلى فلسفة معادية للشيعة، في حين أصبح سارياً ضدّ السنّة في سوريا في ظل حكم العلويين. وكان القاسم المشترك للبعث في كلا البلدين هو معاداتهم للأكراد، أياً كانت إدعاءاتهم المعلنة. فيرى الكاتب أن واقع البعث كان نوعاً متنامياً من الأمراض القومية العربية والذي سوف يكسح نفسه لاحقاً من قبل قوات إسلامية متطرفة.

ويضيف الكاتب، إن للبعث فوارق إقليمية. ففي العراق لم يجرؤ أحد على الهمس حول النظام في المنازل، حيث كان واقعهم أكثر قمعاً منه في سوريا في ظل الأسد الأب، فقد سمح بالمعارضة شرط ألا تكون علنية.

ويوضح الكاتب أنه قام بزيارة سوريا بشكل دوري في الفترة الواقعة من السبعينات إلى التسعينات بصفته صحفي، وتنقّل عبر الحافلات واجتمع بالناس في كل مكان بدون الحاجة إلى مرافقة. على النقيض مما كان في العراق، فبعد رحلة ليوم واحد من بغداد جنوباً إلى النجف في العام 1984، تلقى تحذيرات شديدة اللهجة بعدم محاولة ذلك مرة أخرى. وعندما سافر إلى شمال العراق بعد عامين، لم يتمكن من إتمام رحلته إلا بوجود مرافق، وذلك بعد أن حجزت سلطات النظام جواز سفره بشكل مؤقت.

كما أشار الكاتب إلى أنه في ثمانينيات القرن العشرين، كان يتوجب عليه تسليم نسخته الإخبارية إلى مسؤول يجلس خلف نافذة زجاجية سميكة ليقوم بدقّها على جهاز التلكس إلى رئيس التحرير، في حين في سوريا كان بإمكانه الذهاب إلى أي مكتب بريد ويرسل نسخته بدون تعرضها للتفتيش أو الإشراف.

كان العراق أشبه بساحة سجن كبيرة، وكان صدام حسين يطلب من شعبه دائماً أن يكون على أهبة الاستعداد للحرب. فبعد حربه مع #إيران في الثمانينيات، غزا صدام الكويت عام 1990، الخطوة التي من شأنها أن تكون بداية النهاية الدموية للبعثية التي ابتكرت في جامعة السوربون الفرنسية قبل ستة عقود. لهذا السبب، يشير الكاتب إلى أنه غير متأكداً من أن البعثيين العراقيون قد نجوا من الربيع العربي المنبثق عام 2011 في حال تركت الولايات المتحدة الأمريكية صدام حسين في السلطة قبل 15 عاماً. ولأن الخطوط الطائفية والعرقية بين السنة والشيعة والأكراد في العراق كانت أعمق في العراق منها في سوريا، وبسبب هيمنة نظام صدام بشكل قمعي أكثر، وفي ظل العقوبات والمزيد من الدمار، فإن انهيار بنية الدولة في العراق كان سيكون أسرع منه في سوريا في حال بقي النظام حتى الربيع العربي.

ويؤكد الكاتب أن السبب وراء شن صدام حسين للحروب متجاهلاً الصعاب، هو مفهوم المقاومة الذي يشكل محور البعثية. وأن امتداد النفوذ الإيراني إلى البحر المتوسط خلال الـ 15 سنة الماضية هو نتيجة تأثر المجتمع بتهالك البعثيين بقدر ما هو نتيجة لقرارات رؤساء الولايات المتحدة.

وبالعودة إلى البعث السوري، يرى الكاتب أن الأضرار التي خلّفتها الإيديولوجية البعثية لسوريا، وإن كانت أكثر اعتدالاً منها في العراق، ما زالت بالغة الشدة لدرجة أن الفوضى اندلعت بعد أن تعرض النظام للتحدي. فبعد 21 تغييراً في الحكومة خلال سنوات البعث الـ 24 الأولى بعد الاستقلال، نصّب انقلاب عسكري الأسد الأب في السلطة عام 1970. وقد ساعد المسؤولون الأمنيين في الكتلة السوفييتية في تحقيق الاستقرار من خلال أساليبهم في التعذيب والمراقبة. فلجأ الأسد إلى قمع الشعب بدلاً من توحيد طوائفه المتباينة من كردية وشيعية وسنية وأرمنية ومسيحية وعربية، ولو كان أقل وطأة مما فعله نظام صدام.

وبحسب التقرير، كان خوري قد أكد أن الحكم البعثي كان شاملاً لدرجة لم يخلق بديلاً لنفسه على الإطلاق، لذلك كان البعثيون بحاجة لإدارة العراق بعد إسقاط النظام على المستويات الدنيا على الأقل. ويرى الكاتب أنه كان على سلطات الاحتلال إدراك هذا الأمر تماماً كما أدرك المحتلون الغربيون والسوفييت أنه عليهم أن يغفروا للنازيين في المستويات الأدنى لكي يديروا ألمانيا بعد الإطاحة بهتلر. وبالطبع، تم نسيان هذا الدرس في العراق.

ويتوقع الكاتب أن يتم تطبيق هذا الدرس في سوريا، حيث سيستعان بالموظفين الذين يديرون الآن نظام بشار الأسد ويسمح لهم بالاستمرار في وظائفهم. حيث من المحتمل أن تتحول دمشق _ إذا ما تم إسقاط الأسد _ إلى بركة دماء تماماً كما حصل في #حلب و #الموصل و #بغداد بعد انهيار الحكم البعثي في تلك المدن. ويؤكد الكاتب أنه أياً كان ما يفعله الغرب في سوريا، فمن الأفضل أن تكون هناك خطة تفصيلية مسبقة لما سوف يأتي، مشيراً إلى أن رومانيا تعافت بعد أيامٍ قليلة من الفوضى بعد سقوط تشاوشيسكو، فقط لأن جناحاً أكثر اعتدالاً من الحزب الشيوعي استولى على السلطة في مرحلة انتقالية دامت عدة سنوات قبل أن تظهر الديمقراطية الحقيقية هناك.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة