“اخترت الإعلام كي لا ننسى ونندثر بعد أن يقتلنا الأسد، لأنني أردت أن يعرف العالم بأجمعه أية معاناة نعيشها وأن هناك قاتل يلاحقنا بالموت والصواريخ”.

تمر إدلب، الملاذ الآخير للسوريين سواءً كانوا من أهلها أو النازحين، سريعاً في نشرات الأخبار كمادة يومية، تتأرجح بين التحديثات العسكرية المُبهمة والسريعة، التي تحمل المزيد من الموت والعجز والنزوح، قوات الأسد تتقدم بشكل وحشي مستخدمة كافة أنواع الأسلحة حتى المحرمة دولياً، لانتزاع هذه الأرض من أهلها وإرسالهم إلى المجهول القاسي.

وخلافاً للأرقام والتقارير الجامدة، تأتي أصوات صادقة تحمل الحقيقة من قلب إدلب، من قلب معاناتها، ومن بين أشجارِ زيتونها التي أصبحت بيوتاً في العراء، أصوات تُذكّر العالم أن من بقيَّ هناك هم البشر الذين ينتمون إلى الإنسانية التي نسمع خطاباتها يومياً، أرواحٌ وعوائل لديهم أطفال وأحباب ومستقبل وأحلام وحياة.

عندما تتحدث عن الوضع الإنساني في إدلب، لا يمكنك إلا تذكر النساء اللواتي أصبحن أصوات أهل إدلب في مأساتهم، وعيوننا التي نرى بها وتبقينا هناك متصلين بكل هذه الأرواح.

فتيات يجمعن بين العمل الإعلامي والعمل الإنساني، أصوات الحقيقة تعايش القصف والنزوح والتهجير، يأخذن على عاتقهن مسؤولية صعبة وقاسية، لكنها ضرورية لتغطية الوضع بكافة تفاصيله.

منى بكور
٢٤ سنة بدأت رحلتها في الإعلام والصحافة عام ٢٠١٥، وكانت انطلاقتها من “راديو فريش”، و الآن هي مراسلة في إذاعة وطن وكاتبة ومحررة مع جهات آخرى.

تشرح منى بدايةً الدافع وراء اختيارها بأن تكون إعلامية :”اخترت الإعلام كي لا ننسى ونندثر بعد أن يقتلنا الأسد، لأنني أردت أن يعرف العالم بأجمعه أيَّة معاناة نعيشها وأن هناك قاتل يلاحقنا بالموت والصواريخ”.

تحاول النساء في إدلب استخدام كل الوسائل الممكنة لنقل صورة الواقع من خلال عملهن مع وسائل إعلامية، أو من خلال التدوين، وأيضاً استخدام منصات التواصل الاجتماعي كالفيس بوك والتويتر، لنقل المأساة لحظة بلحظة.

وتسعى منى لتغطية الوضع الإنساني الكارثي في إدلب من خلال توجيه النداء لكل العالم الذي ترك المدنيين يواجهون مصيرهم وحيدين، وإثبات صدق وحقيقة ما يحدث بعيداً عن البروباغندا التي تحاول إبعاد المدنيين عن المشهد، ساعيةً من خلال عملها لإيصال صوت المدنيين إلى كل المجتمعات المحلية والغربية والجهات الفاعلة وأصحاب القرار والمنظمات الإنسانية.

تصف منى التي نزحت ست مرات منذ آب\أغسطس ٢٠١٩ حتى الآن، أيامهم بأنها لم تعد تشبه أيام الناس العاديين، كل لحظاتهم مليئة بالرعب والخوف وانتظار القصف، والحرمان من الراحة والاستقرار، والمرض الذي يلاحق الناس خاصة مع اشتداد برودة الجو وهجمات الصقيع.

“حُرمت من أمومتي، أردت أن أكون أماً لكن من الظلم إنجاب طفل في ظل الظروف التي نعيشها، كل يوم يكسر قلبي الأطفال الذين لا ذنب لهم ولا رأي، لا يعرفون معنى الحلم والمستقبل، محرومين من أبسط سبل العيش، كل ما يحيط بنا هو الحزن والألم،نحاول خلق لحظات من الفرح والراحة لكننا لا نملكها”.

أما عن الصعوبات التي تواجهها منى في عملها فهي تختلف باختلاف الوقت والحاجة، فمع بداياتها عام ٢٠١٥، كان عملها يُواجهه استنكار المجتمع لوجود أنثى تحمل على عاتقها هذا الدور، مما جعلها تواجه صعوبة الاندماج في العمل، و مع تفاقم الوضع وحالة الطوارئ التي تعيشها إدلب، اختلفت الصعوبات ليصبح العمل هو حياة أو موت، فمن ناحية أصبح حاجة للمدنيين هنا لنقل أصواتهم، ومن جهة ثانية زادت مخاطر الهجمات والقصف ومخاطر الطريق.

أما معنوياً فتعاني منى من الإرهاق النفسي الذي تعيشه كل مرة ترى فيها المخيمات ومعاناة الناس المادية والمعنوية “تعذبني نظرات الناس وخاصةً أنني أعيش في منزل بسقف بينما يعيشون في خيمة لا تقيهم برداً ولا شتاءاً، حتى الطعام أصبح غصة”.

تعود أصول منى إلى مدينة كفرنبل المدينة التي صنعت علامة بارزة في الحراك الثوري المدني بلافتاتها ورسوماتها ومظاهراتها، وهي الآن خاليةً فارغة من معظم سكانها بعد أن دمرت البراميل والصواريخ بيوتها وحاراتها ومرافقها الصحية، متروكة للريح والدمار ورائحة الدخان والدم.

“كفرنبل هي محطة حقيقة في حياتي،المكان الوحيد الذي احتضنني واحتواني وجعلني أقوى، رأيت فيها كل معاني الثورة، والتقيت بشريك حياتي، أما إدلب فهي لنا كما هي للجميع، سوريا الصغيرة، ملاذنا الآخير بعيداً عن استبداد الأسد”.

ميرنا الحسن
ميرنا الحسن 26 عام صحفية داخل مدينة إدلب، تعمل في مجال الإعلام منذ عام ٢٠١٥، تحاول بشكل مستمر توثيق المجازر والوضع المأساوي في المخيمات من خلال تواصلها مع وسائل الإعلام المحلية والعالمية، ومن خلال صفحتها الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي.

تصف ميرنا الوضع في إدلب بالكارثة الإنسانية “فالنظام يحاول اتباع سياسة الأرض المحروقة والقصف يطال البشر والحجر والحيوانات وكل أشكال الحياة”.

تضيف ميرنا أن النداء الآن موجه للشعوب فقط وليس للحكام والرؤساء الذين تخلوا عن مسؤولياتهم تجاه الشعب السوري :” تعبنا من الخذلان المستمر من السياسيين والقوى المسيطرة التي لم تتحرك قيد أنملة لإنقاذ المدنيين أو حمايتهم من الكارثة، لكن ربما الشعوب تكون ورقة ضغط قوية لإن أي شعب ممكن أن يكون مكاننا في قلب المأساة، ولكن للأسف لا أظن أن أحد يسمعنا الآن، أو ربما يسمعوننا ويشاهدوننا دون أن نثير اهتمامهم وتعاطفهم لمساعدتنا”.

ويقضي المدنيون في إدلب أيامهم وساعاتهم بين البحث عن مأوى وبين الهروب من القصف ومحاولات تأمين ضرورات الحياة، تقول الحسن : “نقضي أيامنا بالخوف والرعب والهلع بسبب تقدم قوات الأسد والموجودين حالياً على بعد ١٥ كم عن إدلب، وهذا إنذار بكارثة إنسانية جديدة،في مدينة إدلب فقط مليون ونصف مدني، والجميع يحاول النزوح والبحث عن مأوى وبيت جديد رغم أن الاستقرار بعيد جداً عنا، كل البلدات معرضة للغارات الجوية والقذائف المدفعية وهجمات الصواريخ وكل الأسلحة.”

اختارت ميرنا العمل بالإعلام كجزء مهم من الثورة التي آمنت بها وناضلت من أجلها, وخاصة في ظل تصاعد حرب النظام السوري ومحاولته تشويه الحقيقة.

“من المؤكد أنَّ العمل في الإعلام كان حجر أساسٍ في النضال الثوري، ورأيت أنه من مسؤوليتي أن أشارك بنقل صوت جميع الفئات الموجودة على الأرض هنا. دافعي للعمل هو شعوري العميق بقدرتي على الإنجاز. نعم هنالك الكثيرات غيري من الزميلات الإعلاميات وكلُّ منهنَّ يمارس أدواراً معينة. وأنا كنت قد اخترت العمل التلفزيوني الذي شعرت أنَّه المناسب لي بعد تدرُّجي ضمن الصحافة المسموعة والمكتوبة في البدايات. وأعتقد أنَّ كوني فتاة تعمل في المجال التلفزيوني قد يساعد بتغيير نظرة المجتمع وكسر بعض العادات والتقاليد التي لا تحبذ ظهور المرأة إعلامياً.”

تعتبر الحسن أن أكبر الصعوبات التي تواجهها هي والصحفيين والإعلاميين بشكل عام، هو انعدام الاستقرار وغياب الأمان بسبب استمرار تواجد الطيران الحربي المكثف، مما يؤدي غالباً لانفلات أمني على الأرض، ويزيد من صعوبة تغطية الأحداث، “ولكننا رغم ذلك مستمرون وقادرون على تخطي مثل هذه العقبات”.

وتُعقب ميرنا أنّ كثرة الضغوطات والمصاعب أثناء تأدية المهام، لا تعني شيئاً أمام أحقية الرسالة التي تسعى لإيصالها والهدف الذي نسعى لتحقيقه،” لن يكسرنا إجرام نظام الأسد وحلفاؤه. باع الأسد بلادنا، ومن واجبنا أن ننقل الحقيقة ونظهر للعالم فشلَ وإخفاقَ الدول في تحمُّلِ مسؤولياتها تجاه مأساة الشعب السوري، بل وأنَّهم شركاءٌ في قتلنا من خلال صمتهم أو دعمهم غيرِ المعلن لنظام الأسد أو تغاضيهم عن استخدامه للأسلحة المحرَّمة دولياً.”

تؤكد ميرنا ما ذكرته منى سابقاً عن عدم وجود نظام دعم نفسي أو معنوي، وأنّ الإعلاميين حالهم حال المدنيين يواجهون جميعاً آلة الموت المحيطة بهم.

“ما يؤمّن لنا القليلَ من الدَّعم، هو الدافع الذي خرجنا من أجله، والقضية التي نؤمن بها. نحن نعلم يقيناً أنّه لا ثورة من دون تضحيات، وأنًّ طريقنا لا تفترشه الورود. ولكننا مستمرون إلى أن ننال الحرية بإذن الله.”

تظهر ميرنا في الفيديو الأخير لها على حسابها في التويتر، في أحد مخيمات إدلب أثناء العاصفة الثلجية، موجهةً نداء إنساني لكل العالم والمنظمات بأحقية الأطفال الذين كانوا حولها بالحياة، وأن هؤلاء الناس ما زالوا يعيشون ويضحكون رغم كل الفواجع المحيطة بهم.

وعن أحلامها تقول ميرنا:
“أحلم أن أعيش لأرى بنفسي فرحةَ النَّصرِ والحرية، أن أرى مطالبنا بالحرية والكرامة مُحقَّقة، وأن نستطيع العيش في بلدنا كمواطنين لنا حقوقنا وعلينا واجباتنا. نحن لم نطلب إلا حقوقنا الأصيلة فقابلتنا القوة العسكرية بكلَّ شراسةٍ لتحمي من هم في السلطة ولتبقي الأسد على كرسيه”.

تتابع: “أريد أن أعيش لكي نكرِّم ذكرى شهدائنا، ونشهد على تحرير معتقلينا الذين لا يزالون في سجون الأسد، هم وجميع المغيبين قسراً، ليكونوا معنا أحراراً ويشاركونا ولو حتى مرارة الموت. الموت هنا مع من نحب ربما أقلُّ بشاعةً من الموت داخل السجون المظلمة وتحت التعذيب.”

سنوات من النضال والمقاومة ومحاولات النجاة، ورفع الصوت وكسر النمط، ومواجهة حرب تحاول سحق الحياة والكلمة والحرية بشراسة، لكن ميرنا ومنى وكثيرات غيرهن ما زلن يصرخن ويروين حكايتنا وحكاية شعب كامل يطغى على ملامحه الألم واليأس والمعاناة والكوارث، حكاية يقتنص فيها الناس لحظات الفرح من بين الركام، ليخبرن العالم بأن من بقي في إدلب يستحقون الحياة، التي يحاول المجرمون انتزاعهم منها، وتجريدها من معاني الكرامة والحرية بقوة الصاروخ والبراميل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.