بمقدار سهولة عبور الأوبئة الحديثة حدود الدول والقارات على نحو لحظي، هناك سهولة موازية في تفشي تقييمات سريعة، لحظية التكون، سطحية الأسانيد، ثقيلة التداعيات. منذ ملء فيروس كورونا “المسالك والممالك” في العالم، انقلبت المقولة “المتفشيّة” رأساً على عقب: من توقع انهيار النظام الصيني حين كان الفيروس محصوراً في حدود أقاليمها، إلى التبشير القطعي بـ”النموذج الصيني” كتجربة تعتلي قمة النجاح.

لا حاجة للنبش والتوغل في أن نكسة العالم في التعامل مع الفيروس تتعرض لنفخ دعائي كبير من جانب الصين نفسها، وبشكل أوضح من روسيا أيضاً، وهو ما أثار غضب الفرنسيين والألمان.

هنا العديد من المفارقات في سياق الأحاديث السائدة عن “النموذج الأكفأ”، ويتجاوز الأمر الإطار المعني بالحدث، فالنموذج هنا يفترض أن يكون حول إدارة الأزمة، لكن المطروح يقفز إلى شيء آخر، هو إدارة الدولة ومنظومة القيم.

يطيب للكثيرين النظر إلى الفرز على هذا المستوى من زاوية الاشتراكية والرأسمالية، ولا داعي للتوقف عند هذا المستوى، كون جميع المعنيين دول رأسمالية بالمعنى الاقتصادي، وأكثر الرأسماليات حداثة وجدّة تلك التي تنطبق على الصين. رأسمالية تقودها الدولة، وشركاتها وبورصاتها مملوكة للدولة.

إن التسويق للنموذج الصيني، في الجانب الدعائي المنظّم منه، يتظاهر بطابع ديمقراطي، مضمونه أن الشعوب الواقعة تحت صدمة “فشل الرأسمالية” في التصدي لكورونا ستختار تلقاء نفسها الترحيب بالصين وما تمثله! لكن هل لدى الصين أدوات متكاملة لتحقيق ذلك غير تشغيل العمال في منشآت لا يستغرق إنجاز أضخم مشاريعها عاماً واحداً كحال ميناء جوادار “الصيني” في باكستان؟ هل الحضارة العمالية هي النموذج الذي تتطلع إليه القطاعات الأكثر تضرراً من الفيروس؟

لا شيء من هذا حقيقي. الصين لا تستهدف الرأسمالية حين تسوّق لهشاشة الدول الغربية خلال الأزمة الصحية، بل عينها على المضامين الديمقراطية الاجتماعية المواكبة للرأسمالية، وهي المضامين التي يجد فيها أعتى ماركسي حرية القول والتعبير فيها أكثر بكثير مما قد يجده في أكناف الصين التي كانت شيوعية وما زالت تسمى شيوعية نظراً لأن الحزب الحاكم لم يغيّر اسمه حين تم تدشين الانقلاب “الاستهلاكي- الرأسمالي” ضد النمط الاشتراكي للحياة الموجهة من قبل الدولة منذ منتصف التسعينيات، أي بعد نحو عقد ونصف من إعادة العلاقات المقطوعة بين بكين وواشنطن.

يرصد الأكاديمي في هارفارد، كارل غيرث، مسار صعود الصين مذ كان طالباً هناك في الثمانينيات، ومعايشته للتحول السريع في هذا البلد، لدرجة أن “ما استغرق تبنيه من المستهلكين الغربيين عقوداً أو قرناً أو نحو ذلك، تمكن منه الصينيون في مجرد سنوات”. في كتابه الغني بالمشاهدات والملاحظات الذكية ، رغم عنوانه المبتذل والاستفزازي (على خطى الصين يسير العالم) الصادر بالانجليزية عام 2010، والترجمة العربية لدار كلمة عام 2012، يرصد الكاتب التحول السريع للصين من الاشتراكية وذمّ الكماليات الاستهلاكية، إلى مجتمع استهلاكي يبدو الأسرع تطوراً في العالم تحت قيادة الدوائر العليا في الحزب الشيوعي الصيني.

ومن الأمثلة البارزة على هذا التحول أنه في الوقت الذي كانت المناهج الدراسية في منتصف التسعينيات تهاجم وتحذر من “ثقافة السيارات الأميركية”، قرر قادة البلاد اعتناق الاستهلاكية الرأسمالية مع الإبقاء على الاسم الشيوعي وبعض مظاهرها في الخدمات الاجتماعية.

مع انضمامها لمنظمة التجارة العالمية، عام 2001، باتت الصين جزءاً من النظام الرأسمالي العالمي، وأجادت اللعب وفق القواعد التي وضعها الغربيون أنفسهم. وفي نهاية العام 2019، كانت الصين الأولى عالمياً في إنتاج السيارات، والأولى عالمياً في استهلاكها. ومن علامات تفشي الثقافة الاستهلاكية المتطرفة هو سوق السلع المقلدة، الأكبر في العالم، وقرصنة الملكية الفكرية للسلع وبراءات الاختراع، وسرعان ما شهدت الصين عودة أسواق ما قبل الشيوعية لشراء وبيع أي شيء، من حليب المرضعات إلى بيع الأطفال تحت مسمى التبنّي، إضافة إلى تأثير جانبي فادح لسياسة “الطفل الواحد” أدت إلى انحطاط كبير في وضع المواليد الإناث رغم التراث الفكري اليساري الصلب تجاه المساواة بين الجنسين.

على المسار التحولي- الانقلابي ذاته، ورغم الأدبيات الإيكولوجية الماوية، فإن مدن الصين اليوم في مصاف الأعلى تلوثاً في العالم، ومصانعها من الأكثر تلويثاً للبيئة والمناخ، والأجدى ربحاً للشركات الكبرى العالمية (سدنة المال في العالم)، والأفدح ضرراً على قطاع الزراعة.

بالطبع هذه التوصيفات ليست ذماً للتحول الصيني، ومديحاً لما كانت عليه أيام كارثة “الثورة الثقافية”، بقدر ما هو التفاتة لانحراف القيادة عن الشيوعية، وتحولها إلى جيش استهلاكي وإنتاجي للرأسمالية الصناعية والتقنية. باتت الملكية الخاصة فلسفة الحزب الشيوعي، فشرط النمو يستدعي طلباً محلياً مرتفعاً على الإنتاج.

وبحسب غيرث فإن ملكية السيارات باتت “رمزاً للحرية الفردية”. في هذه العبارة الملفتة، والذكية، حتى لو لم يتوقف عندها الكاتب نفسه، نعثر على مقايضة ما. هناك شيء ما في هذا المسار الصيني الرأسمالي، الذي تتحطم عليه الفكرة الكلاسيكية بأن الملكية الفردية، وحرية السوق، تؤديان إلى إنتاج منظومة قيم مواكبة لحفظ كرامة الفرد وحقوقه في الاختيار وإبداء الرأي والمشاركة السياسية. أثبت النموذج الصيني أن هذا مجرد تركيب لغوي قد صدف أن نجح في أماكن ما ليست من بينها الصين، على الأقل حتى الآن.

اعتمدت قيادة الحزب على تثبيت مكاسب القطاع العام وملكية الدولة، في موازاة حيلتها الجديدة: النمو ومراكمة رأس المال يتم في ساحة “الملكية الخاصة”، وهي خليط من قناع يشكل مجالس إدارية لشركات خاصة اسماً، مملوكة للدولة في رأسمالها الثابت. لكنها لم تضطر للمبالغة في هذا النهج، فالشركات الأكثر تحقيقاً للأرباح عالمياً، ما زالت تلك المملوكة للدولة، وعلى رأسها البنك الصناعي والتجاري، وبنك التعمير. وتملّك الدولة لم يعد مقيّداً بفلسفتها، فأصبحت – الدولة المالكة لوسائل الإنتاج- أشبه بشركات عملاقة تقود صفقات منعشة للرأسمالية العالمية، وترمي “عظمة كبيرة” لبنك من وزن “ستاندارد تشارترد” لإشراكها في مشروع “الحزام والطريق”.

وعلى سيرة الإنعاش، أدت الصين دورها الإنعاشي للرأسمالية خلال الأزمة المالية سنة 2008. من ناشد الصين حينها ؟ الرئيس جورج بوش الابن كان على رأس المعولين على الصين بأن تتحول من “مجتمع مدّخر إلى مجتمع مستهلك” لإنقاذ السلع المتكدسة في أنحاء العالم، وعلى أمل أن يصبح المستهلكون الصينيون المحرك الجديد للطب والنمو العالميين.

الواقع أن متابعة الأرقام الحديثة تكشف الدور الإنقاذي الذي تلعبه الصين ليس فقط في تثبيت الرأسمالية، بل تسويق رؤيتها الخاصة أيضاً، وهو توحيد الرأسمالية كشبكة علاقات ومسارات تجارية مترابطة، حرّة، تعتمد على الأكفأ والأجدى مالياً وخدمياً. على هذه النقطة بالذات، فلسفة “فتح الأسواق” (أو غزوها؟) انطلق مشروع الحزام والطريق، أضخم مشروع رأسمالي عالمي على وجه الأرض.

و”الحزام والطريق” ليس مجرد تعبير عمراني – إنشائي، إنما ثورة مضادة لليبرالية السياسية. الأوضح أن الصين تطمح إلى ما يمكن تسميته بـ”صفقة” حضارية يتم من خلالها التواطؤ مع الرأسمالية بنسختها المسماة النيوليبرالية، للفصل بين منتجات عصر التنوير: الرأسمالية والليبرالية (والشيوعية أيضاً من نتاج ذلك العصر)، وهي فكرة لها مؤيدوها بين مالكي الأسهم والبنوك الكبرى، كما لها معارضوها الذين لا يملكون قوة تستطيع التأثير على هذا المسار، كجورج سوروس. هذا الفصل ليس جديداً، فهو قائم أساساً في العلاقات الدولية كضرورة سياسية واقتصادية في عالم اليوم، لكن هل يمكن أن يصبح هذا الفصل ناتجاً عن إخضاع صيني للممثلين الفاشلين للمؤسسات الليبرالية الأعرق في العالم ؟

ما تسوّق له الصين ليس أن الرأسمالية باتت عاجزة عن قيادة مجتمعاتها وخائرة القوى، بل إن الرأسمالية ستكون أفضل حالاً حين تزيح الليبرالية جانباً.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.