ترجمة: سولارا شيحا

لم تكن المجتمعات الغربية مستعدّة لفيروس “كورونا”، سواء فكرياً أو على صعيد السياسات الصحية. وتواجهها اليوم معضلات عديدة: هل يستفيد كبار السن على حساب الفئات الشابة؟ وكيف تُحدد قيمة حياة الإنسان؟ “ستيفن بينكر”، أستاذ علم النفس في جامعة “هارفارد”، يُجيب عن هذه الأسئلة.

 

– سيّد بينكر، كيف هي الحياة في الحجر الصحي؟

– حياتي على مايرام، بالرّغم من كوني في الخامسة والستين. ولكن حيوات العديد من الناس ليست بخير حالياً، أنا واعٍ لذلك.

 

– على مدى سنوات طويلة خشينا شبح حرب نووية أو سيطرة آلات ذكية أو الإرهاب البيولوجي، إلا أننا نجد أنفسنا اليوم أمام فيروس بدائي، ونبدو غير مستعدين للمواجهة، هل هذه سخرية الطبيعة أم سخرية التاريخ البشري؟

يذكرنا الوباء بوجوب معاينة وإعادة ضبط مخاوفنا من وقت لآخر، فسير الأمور لا يكون حسب رغباتنا أو توقعاتنا. لقد شكّلت الأمراض والأوبئة جزءاً من الحياة منذ بداية الوجود البشري، ونحن ندرك أن الطفيليات ومسببات الأمراض المختلفة يمكنها أن تنتشر بسرعة وعلى نطاق واسع، ولكننا في الوقت نفسه نجحنا مرة تلو الأخرى بمكافحتها، الجدري مثالاً. وكان علينا حقيقةً أن نكون مستعدين لهذا النوع من المواجهات.

-تتكلّم، كما عهدناك، بوضوح وتعقّل، هل ترى أن علينا المحافظة على قدر من الاسترخاء بنظرتنا للوباء؟ بالرغم من كل المعاناة التي يُسبّبها؟

-ليس باستطاعتنا ذلك، لأن الفيروس، من وجهة نظر تطورية بيولوجية، هو عدوّنا. بالنسبة لمسببات الأمراض نحن حلوى شهية، وليمة مغرية إذا جاز التعبير. والفيروس لن يفوّت الفرصة. نحن في المقابل، نملك الذكاء وقادرون على إعادة إنتاج الأفكار بسرعة كبيرة. يهاجم الفيروس، فنرد الضربة ونقاوم بتدابير النظافة واللقاحات والأدوية. نتكبّد خسائر بالفعل، إلا أننا سننتصر.

نصادف مؤخراً آراءً علمية تدّعي أننا من جلب الفيروس لأنفسنا. يحاججون بالشكل التالي: بتدميرنا للطبيعة، ندّمر ونقلّص بيئات ومواطن بعض الحيوانات، وندفع بها أقرب إلى عالم البشر. الأمر الذي سيؤدي حُكماً لانتقال الأمراض بين الحيوانات والبشر في مرحلة ما.

– لا أتفق مع هذا التفسير. لسنا هنا أمام انتقام الخفافيش! عاش الإنسان منذ ابتكاره الزراعة في حيّز ضيّق مشترك مع الحيوانات، وكانت الحيوانات وقتها، مثل اليوم، ناقلة للأمراض. بمعنى آخر، كنّا معرّضين، على مدى آلاف السنين، للفيروسات، التي يمكن أن تنتقل إلى البشر من الحيوانات.

لنتحدث عن الذكاء البشري، مازلنا لا نعرف كثيراً عن فيروس “كورونا”. هل هذا الغموض هو الذي يدفع دماغ انسان العصر الحجري الذي نملكه إلى حافة الجنون؟

– تؤدي المخاطر التي تهددنا، والتي لا نفهمها بالكامل إلى قلق مُلح ومزمن. نستخدم بالإنكليزية مصطلح “dread risks” (مخاطر مثيرة للذعر) للإشارة إلى مخاطر يكتنفها الغموض، مستحدثة وجديدة، ومن الممكن أن يكون لها نتائج كارثية. فيروس جديد خطير يندرج بالتأكيد تحت هذا التصنيف، ويدخل دماغنا عندها حالة الطوارئ.

–  ما هي التشوّهات او التحريفات التي تصيب الإدراك البشري لمدى التهديد الذي يُشكّله الخطر الحالي؟

– التحريف الإدراكي الأشد تأثيراً في فهمنا لانتشار وباء كورونا، هو بالتأكيد “انحياز النمو الأسّي” (exponential growth bias). لا يُمكننا هنا الاعتماد على مشاعرنا أو حدسنا، أو على تقديرات دماغنا الأولية. فمعدّلات الإصابة لا تنمو بشكل خطّي، وإنما بشكل أُسّي. وجهازنا العُضوي ليس مُعدّاً للتكهّن بهذه الأرقام. لذا نحتاج إلى حسابات ونماذج المحاكاة والرياضيات لتمكننا من فهم مجرى الأمور.

هل أنت مطلع على ما يُسمّى “اختبار التفكّر الإدراكي” (Cognitive Reflection Test)، أقصر اختبار ذكاء في العالم؟

لا، ولكن كُلّي آذان صاغية، تفضّل.

– أحد الأسئلة المطروحة هو: إذا كان عدد زنابق الماء يتضاعف يومياً، إلى أن تغطّي كامل سطح البُحيرة بعد ٤٨ يوماً، فكم يوم يستغرق تغطية نصف سطح البحيرة؟

– يستغرق الأمر يوماً أقل، أي ٤٧ يوماً!

-بالضبط، ولكن بشكل بديهي متسرّع، يُجيبُ كثيرون: ٢٤ يوماً.

وبإسقاط هذا على وضعنا الحالي، يعني ذلك أن العدوى بفيروس كورونا سريعة للغاية، ومن المحتَمل إصابة عشرات الملايين في جميع أنحاء العالم، وموت مئات الآلاف في وقت قصير جداً، في حال لم نفعل شيئاً. يضع هذا المواطنين وصُنّاع القرار تحت ضغط شديد.

– هل مايزال بإمكانهم إذاً اتخاذ القرار الصحيح بهدوء وحكمة؟

– لا يوجد قرار وحيد صحيح، إنها دائماً مسألة موازنة. نشهد الآن في جميع أنحاء العالم آليات عمل تشوّه إدراكيّ ثانٍ: ما يُسمّى “التحيُّز للمؤكَّدات” (Myside bias)، أي التمسُّك بالمُعتَقدَات التي تتشاركها مع حُلفائك الاجتماعيين أو السياسيين، ورفض كل الآراء الآتية من الحلف المعارض. يمكننا مراقبة عمل هذا التحيّز بظروف تكاد تكون مخبرية في الولايات المتحدة الأمريكية: درجة الإيمان بخطورة الوباء، والاعتقاد بالحاجة إلى اتخاذ تدابير صحّية قوية، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بموقع الشخص على طيف يسار- يمين. قلّل “ترامب” لفترة طويلة من شأن الخطر الذي يُشكّله الفيروس، لذا نجد المُحافظين معارضين للتدخلات الكبيرة في السياسات الصحية، في حين يُرحّب بها الديمقراطيون اليساريّون. إنه أمر مُدهش، لأن المُحافظين عادة أعلى حساسية وأشد انزعاجاً عندما يتعلّق الأمر بقلّة النظافة والملوّثات، ويُبدون عادةً اهتماماً أكبر لمواضيع النظافة الشخصية والصحّة، إلا أنهم في هذه الحالة، وبسبب “التحيّز للمؤكَّدات”، يتخذون موقفاً مُعاكساً.

– نعيش في أوقات مجنونة.

– نعم! يمكنك قول ذلك بصوتٍ عالٍ.

ما هو دور وسائل الإعلام في القصة بشكل عام؟ هل تسببت، برأيك، بإثارة الهلع، من خلال إعلامنا بكل جديد متعلّق بالوباء، والإحصاء المستمر لعدد الضحايا؟ أم أنها جعلت، بهذه الطريقة، الخطر ملموساً ومحسوساً، وساهمت في توضيح الصورة؟

– أظن أن وسائل الإعلام عموماً تَميل لتضخيم المشاكل الصغيرة، في حين بالكاد تُبلغ عن أي تقدّم إيجابي ولو كان كبيراً. ولكن في حالة فيروس “كورونا” كان الوضع مختلفاً، ففي البداية لم يتم التعرّف على المُشكلة الكبيرة القادمة، وبدلاً عن ذلك تم التقليل من حدّة خطر الفيروس، أمر نادر الحدوث فعلاً، ولم يكن مفيداً. لاحقاً ساهمت وسائل الإعلام بتقليص المشكلة والسيطرة على الخوف.

– هل تعتقد أن الإجراءات السياسية جاءت متأخرة في المجتمعات الغربية؟

– نعم، سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية. أولاً، كان استعداد الحكومات الغربية سيئاً، فلم يكن لديها المعدّات الضرورية لمواجهة وباء، مثل الكمامات وأجهزة التنفس. وثانياً، استهانت لوقت طويل بخطر الفيروس، لأن استعدادها الذهني لم يَكن كافياً. ردة فعل كوريا الجنوبية، على سبيل المثال، مختلفة كلياً: كانوا على أتم الاستعداد، وتم اتخاذ الاجراءات اللازمة بسرعة كبيرة. يمكن رد ذلك لخبراتهم السابقة مع الأوبئة.

– هل يمكننا القول إننا كُنا نعيش في حالة ما بعد تاريخية* مثالية؟

– حسناً، هذه طبيعة إنسانية. عندما نكون بحالٍ جيدة ننظر للمستقبل على أنه امتداد للحاضر. يتجلّى ذلك في كثير من الأمور، فلا ندَّخر مايكفي للتقاعد، ونحشو أجسامنا بطعام غير صحي، بالرغم من إدراكنا للعواقب على المدى الطويل. يهتم السياسيون بالدرجة الأولى بالانتخابات المُقبلة، عوضاً عن التفكير بالمجتمع بعد عشر أو عشرين سنة. ولا نُحضّر أنفسنا للأوبئة، لأننا لا نُريد الاعتراف بإمكانية انتشار فيروس جديد في أية لحظة.

– ولكن هل يُفكّر السياسيّون فقط في أعادة انتخابهم؟

– هذا هو حال نظامنا السياسي. يُمكننا اختيار سياسيين يفكّرون على المدى الطّويل، ولكن يجب عندها أن نكون مستعدّين لتقديم التضحيات أو التنازلات، لأن ذلك مُكلف على المدى القصير. ولوسائل الإعلام هنا برأيي وظيفة مهمة، يمكنها تذكير المواطنين والسياسيين بالتحديات التي يجب أن تشغلنا على المدى المتوسط، عوضاً عن إعلامنا بحماس عن كل الفضائح التافهة والزلّات السخيفة هنا وهناك.

عندما حذّر العالم الفيزيائي “كارل ساجان”، أثناء الحرب الباردة، أعضاء مجلس الشيوخ من مخاطر حرب نووية، قال له خبير استراتيجي معروف: “إذا كنت تعتقد حقاً أن نهاية العالم قد تُغيّر تفكير السياسيين في واشنطن أو موسكو، فأنت فعلاً لم تقضِ كثيراً من الوقت في هذين المكانين”.

تسود في الوقت الحاضر إرادة البقاء على حِساب جودة الحياة، هل تبالغ المجتمعات الغربية بردة فعلها، بعد التلكؤ بادئ الأمر؟

– لا إمكانية لحياة جيدة إن لم ننج.

أنت خبير وممثل للتنوير، ما الموقف المستنير برأيك هنا؟ ذلك الذي يعتبر كل حياة بشرية، أو بالأحرى كل سنة من حياة الإنسان، لا تُقدّر بثمن؟ أم الموقف الداعي إلى السعادة الأعم لأكبر عدد من الناس؟

– سؤال جيد بالفعل. برأيي يعود جذر كلي الموقفين، الإنساني والنفعي، إلى مفاهيم التنوير. نربط الموقف الأول بأسماء مثل “إيمانويل كانت”، والثاني بأسماء مثل “جيريمي بنثام” و”جون ستيوارت مِل”، كلا الموقفين ينتميان للتنوير.

– إلى أي موقف تميل؟

– إلى الثاني. علينا دوماً أخذ جميع التكاليف بعين الاعتبار، الكلفة البشرية المباشرة، والاقتصادية غير المباشرة. إلا أنني أعتقد أن كلفة انتشار الوباء دون رادع ستكون أعلى بكثير من عواقب الكساد الاقتصادي.

– من الناحية النظرية قد يبدو هذا جيداً، أما عند التطبيق فإن هذه الحسابات عرضة للأخطاء بطبيعتها. وفي النهاية، اختيار المجتمع للطريق الإنساني أو النفعي يبقى قراراً سياسياً.

– نعم، هكذا هو الأمر.

هل ننزلق باتجاه صراع أجيال؟ بمعنى أن الجيل الشاب يدفع كلفة اقتصادية عالية، في الوقت الذي يستفيد فيه المسنون من التدابير والإجراءات السياسية؟

– لدي أحفادٌ رائعون، وأتمنى جداً أن يرغبوا لجدِّهم حياةً مديدة وسعيدة، وأن يكونوا مستعدّين في سبيل ذلك لتحمّل أعباء اقتصادية! أمي تبلغ من العمر ٨٦ عاماً، لا، لن أعرّضها للخطر، وانتظر لها الموت!

– ولكن هذا يُظهر أننا نقوم بهذه الحسابات والموازنات، سواء أردنا ذلك أم لا.

– مجتمعاتنا قائمة، بشكلٍ مُحق، على افتراض أن لجميع الناس، بغض النظر عن لون بشرتهم، عمرهم، أو جنسهم الكرامة والقيمة نفسها. إلا أننا نُجبر في الأزمات على طرح السؤال: أية حياة تستحق أية قيمة تماماً؟ وبهذا نخرق التابوهات، ونشعر بوزر ذلك.

– أي أن موقفنا من الحياة يعتمد على معايير أخلاقية مزدوجة لا نريد الاعتراف بها أمام أنفسنا؟

– لا يُمكننا الاعتراف بهذه الازدواجية، لأنها تُجرّدنا من إنسانيّتنا. لهذا السبب لا نُعالج هذه الأسئلة بشكل صريح، ولكننا نقوم بطرحها ضمنياً. الحياة الإنسانية مأساوية بالفعل، وعلينا أن نتعامل مع هذا، كلٌ على طريقته.

– لكنّك تبقى متفائلاً عقلانياً؟

– بالتأكيد! نحن نتعلّم أيضاً من هذه الأزمة، نعمل ونطوّر عقلانيّتنا باستمرار، نبتكر أدوات تكنولوجية جديدة. التفاؤل يعني أننا نُقلِّص مأساوية الحياة البشرية. كل الذين سيأتون، سينتفعون من هذا.

– ماهي العواقب بعيدة المدى للوباء؟ على الصعيدين الاجتماعي والسياسي؟

– لدي إجابة واضحة: مُعظَم ما يُقال ويُكتب الآن، سيتبيّن لاحقاً أنه خاطئ. لننتظر ونرى.

 

هامش المترجم

*ما بعد التاريخية: مفهوم يشخّص الحاضر، خاصة في الديمقراطيات المتقدمة، بوصفه متجاوزاً لأنماط الصراع والمفاهيم والأيديولوجيات القديمة. ويعتبر أن المجتمعات الغربية تجاوزت مسببات الاضطراب والأزمات، وأصبحت بناها السياسية أقرب للتوازن والاستقرار.

المصدر: NZZ

ستيفن بينكر: أستاذ علم النفس في جامعة “هارفارد”، من أهم ممثلي علم النفس التطوري، والنزعة التنويرية التفاؤلية. له إسهامات في مجالي التاريخ والفلسفة. من كتبه الأكثر شعبية: “العنف: تاريخ جديد للبشرية”، “التنوير الآن: دفاعاً عن العقل، العلم، النزعة الإنسانية والتقدّم”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.