ترجمة: سولارا شيحا

 

«الغضب:

ربَّة الانشاد غنِّ! عن غضب “أخيل” بن “بليوس”، غضبه القاتل المُهلك كلّف الإخائيين خسائر لا تُعدُّ ولا تُحصى..»

ورد الغضب (menis) كلمةً أولى في العمل الأدبي المؤسس للتراث الغربي. تُرجمت هذه الكلمة بأشكال مختلفة إلى: الغضب، الحنق، الغيظ..

تُفتَتحُ “الإلياذة” بهذا الدُّعاء، فأخيل قد تعرَّض للظُّلم، وما سيلي لن يكونَ قصّة حرب طروادة، فالنشيد يُغطّي بضعة أسابيع لا غير من صراع عشر سنوات، وإنما قِصّةُ غضب “أخيل”. حنقه الذي يحتدمُ بدايةً عند سلبه غنيمته في الحرب: “بريسيس” المرأة الطروادية الأسيرة، وثانياً عند مقتلِ “باتروكلوس”، أقرب أصدقائه على يدِ “هكتور”.

انتقاماً للجرح الأول ينكفئُ “أخيل” تسعة أيام، رافضاً المشاركة في الحرب. وانتقاماً للجرح الثاني يَهدمُ طروادة ويذبح “هيكتور”، ويمثّل بجثته اثني عشر يوماً، يجرُّها حول أسوار المدينة، ويقدّمها طعاماً للكلاب.

الغضب في “الإلياذة” موضوعٌ جوهري وبطولي، تمنَحُه الآلهة للبشر. وتتجلّى الشخصية المسكونة بالغضب بوضوح تام، وبعلنية كاملة. يُعرِّفها ارتكاب الفعل، وتنفيذ الانتقام. ولا يترتّب على الحياة الداخلية للشخص الغاضب عند “هوميروس” أية عواقب، فالغضب ليس حالة نفسية، ولا يحتاج لتشخيص. “هيكتور” قَتَل “باتروكلوس”. فيجب على “أخيل” قتل “هيكتور”، رغم إدراكه أن في ذلك هلاكَهُ. يجب عليه أن يزيد على القتل تدنيس جثته، لأن الأمر يتعلّق بالشرف. شرفُ “أخيل” المَسلوب، يُمكن استعادته فقط عبر سلبه من “هيكتور”. يدخل “أخيل” المعركة، وحسب تعبير “كريستوفر لوجو”، تسقط طروادة.

شكّل ظهور الغضب، أو بالأحرى ظهورة مجدداً في الخطاب العام والسائد، ووصوله غير المتوقع إلى أروقة السُّلطة، إحدى الصدمات الأساسية لأولئك الذين نشأوا منّا ضمن التقليد الليبرالي الغربي. فبدءاً من المسيرات المؤيدة لـ”ترامب”، وهتافاتها الصارخة ضد “هيلاري كلينتون”: «احبسوها! احبسوها!»، مروراً بكل السّخط والسّباب الذي أحاط خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أصبح الغضب موقفاً سياسياً مهيمناً بطريقة غير مألوفة لكثيرين في الغرب. أُصيبَ الذين اعتقدوا مِنّا أن الحجج العقلانية هي مُحرَّكُ الثقافة بالذهول، أمام فكرة أنّها محرّكٌ لنوع محدد منها فقط، وأن أولئك الذين يملكون منفذاً لهذه الثقافة، يتحصَّلون على نمط معيّن من المعرفة، ونمط معيّن من الوجود.

ساد اعتقادٌ غير مدروس حول مفهوم هيغلي عن التطوّر، بأننا تجاوزنا الغضب بوصفه قوةً محرّكة. فقد شكّلت فاشية ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، المحرقة النازية والستالينية، صدمة للمجتمع العالمي، لدرجة أدّت إلى فرض أنظمة تعاون، سواء عن طريق توافق جزئي أو إلزاماً.

ليس من الصّدق الادعاء أن هذه الأنظمة احتُرِمَت دوماً، ويرى كثيرون أن تصرّفات “تاتشر” و”بوش” و”بلير” كسرت الميثاق الدولي بشكل لا رجعةَ عنه، إلا أن القادة شعروا، على الأقل، بالحاجة لتبرير أفعالهم ضمن مجال المنطق، حتى لو كان كلامُهم مجرّد أكاذيب. أما الانتقام، اللاعقلانية والفاشية فكانت كُلّها في مكانٍ آخر: في «البلقان»، «التطرف الإسلامي» أو «النازية الجديدة». لم تكن الديمقراطية الليبرالية مفهوماً وهدفاً صاعداً فحسب، بل طبيعيةً أيضاً: الحالة الطبيعية للوجود، التي ابتدأها الديموقراطيون اليونانيون، وصادق عليها عصر التنوير، وقدّسها السوق الرأسمالي بعد الاشتراكية القومية (النازية) والشيوعية السوفييتية.

بلغنا «نهاية التاريخ»، مقولة “فرانسيس فوكوياما” ذائعة الصّيت وسيئة السمعة، عن عَالمٍ تصل فيه المزاعم العقلانية للديمقراطية والليبرالية من الترسخ درجةً تُصبح فيها غير قابلة للجدل.

لن تخوض الديمقراطيات الناضجة أية حروب، حسب مقولة “فوكوياما”، لأن خوضها سيكون غير منطقي. إلا أن العنوان المُلفت يُخفي ارتباكاً حاضراً في كتاب “فوكوياما”، ويغيبُ في مُعظمِ النقاشات الدائرة حوله.

هذا الارتباك بالتحديد كان موضوع تركيز الفيلسوف الألماني “بيتر سلوتردايك” في كتابه “الغضب والزمان”، والذي بدا عام ٢٠٠٦ تحذيراً لطيفاً عن عالمٍ افتُرِضَ فيه الغضب (menis) ميتاً. بينما يَظهرُ اليوم تحليله لهذه الكلمة المفتاحية في الأدب الغربي أشبه بنبوءة واضحة.

يُعدُّ “بيتر سلوتردايك”، الأقرب لنجم إعلامي في بلده الأم، شخصيةً جدليةً في ألمانيا والمجتمع الفلسفي عموماً. منذ كتابه الأول “نقد العقل الكلبيّ” عام ١٩٨٣، الذي استكشف فيه النزعة التشاؤمية الساخرة في التاريخ الأوروبي، راق لـ”سلوتردايك” اتخاذ مواقف متمرّدة، مُناهضة لأيقونات وبعض شعارات الليبرالية. ويُعد كتابه الثاني “مجالات”، بأجزائه الثلاثة المنشورة بين عامي 1998 و2004، أهم مؤلفاته، والعمل المؤسس لسمعته، ويُمكن اعتباره العمل المعادل، المعني بالفضاء/المكان، لعمل “هايدغر” “الكينونة والزمان”، يستكشف فيه “سلوتردايك” المجالات الصُغرى microspheres” والمجالات الكُبرى “macroshperes” المُتعددة التي تَصِف وتُمكِّنُ وتُحدّدُ الوجود الإنساني. يُقدّم العمل الثيمة المركزية لفكر “سلوتردايك”، بأن الثنائيات التقليدية في الفلسفة: (الذات/الموضوع، الطبيعة/الثقافة) ليست خاطئة فحسب، بل أن التركيز عليها يطمس الواقع: الإنسان والحيوان والنبات والآلة.

يُعدُّ “نيتشه” مُلهم “سلوتردايك” الرئيسي، فكتاباته، التي جاءت في غير وقتها، تقوم بتفسير مصير الإنسان المُعاصر. “جينالوجيا الأخلاق”، حسب “نيتشه”، هي قصة خنق الأخلاق التدريجي لكل ماهو عظيم في الإنسانية. مما قاد الإنسان، البطولي فيما مضى، إلى حالة من “الاستياء”، أي حالة من العداء غير المُحقَّق تجاه قضيّة مُتخيّلة مثيرة للإحباط. يغذيها الشعور بالدونية، ويُبنى المُجتمع على تغذية هذه الدونية: الفكرة المسيحية عن سقوط البشر مثالاً، أو الفكرة الرأسمالية عن تحديد الثروة لقيمة الإنسان.

يتجاوز الفرد السليم، عند “نيتشه”، استياءه: «يعيش النبيل في الثقة والانفتاح… رجل الاستياء ليس مستقيماً ولا ساذجاً ولا صادقاً، وليس صريحاً مع نفسه. روحُهُ نصف مُغمضة».

يتناول “سلوتردايك” هذه الفكرة في تحليله لـ”فوكوياما”، ويُشير إلى أن مفهوم “الثيموس” (توق روح الإنسان للإقرار بكرامته ـ المترجم) جوهري في “نهاية التاريخ”. و”الثيموس” بدوره مفهوم هومري أيضاً، يفترضُ علاقةً جسدية بين الدم والتنفُّس. هو حالة تمزج بين “الحيوية / الحماسة” والرغبة في التقدير والاعتراف، أي الرغبة في صيانة شرف المرء. وهو مايدفعُه لقتال ورد الظلم المحسوس ضد الذات. أي أنه قريب من الغضب “menis”، الذي يُمثّلُ الفعلَ الناتج عن “الثيموس”.

وهو كذلك الفعلُ في تحليل “فوكوياما” الديالكتيكي الهيغلي: أطروحة، نقيض، تركيب. “الثيموس” هو الذي يدفع بالتاريخ نحو الديمقراطيات الليبرالية الناضجة، النظام الأكثر موائمةً للرغبة الإنسانية بالاعتراف. بينما عجزت الشيوعية، على سبيل المثال، عن غرس تقدير الذات، عند فشلها بالاعتراف بفردانية كل فرد. أي أن الديمقراطية الليبرالية، بحسب “فوكوياما”، قامت فقط على إشباع “الثيموس”. يستطيع الفرد، بصفته ذاتاً فاعلة حُرّة في مجتمع يعتمد على المُشاركة (التصويت، الشراء)، تصديق وتعزيز رغبته في التقدير والاعتراف. سيشكّل عالمٌ ديمقراطي ليبرالي بشكلٍ كامل، لا حاجة فيه للتوق للاعتراف، نهاية التاريخ بالفعل.

يُفرّق فوكوياما هنا بين مفهومين: “إيزوثيميا” و “ميغالوثيميا”. “الإيزوثيميا” تُنشدُ الاعتراف بالذات، متساويةً في الكرامة مع الآخرين، وهي ماتشجّعه وتمكّنه الديمقراطية الليبرالية الحقيقية. بينما “الميغالوثيميا” تعني المُطالبة بأن تكون كرامة المرء فوق كرامة الآخرين، وتتولد عن الأنظمة السياسية غير العادلة. انتشار الديمقراطية الليبرالية إذاً هو انتشار لـ”الإيزوثيميا”.

يفتتح “سلوتردايك” كتابه “الغضب والزمان”، بتتبع “الثيموس” إلى جذوره الهومرية، فيصفه بالقول: «إنه المركز الإندفاعي النابض للنفس الفخورة… والبطل نبيٌ، توكلُ له مهمة التحقيق الآني لرسالة قُوّته». يُحقق البشر هنا، كما في أماكن أخرى في عوالم “هوميروس”، مشيئة وعواطف الآلهة: «ليس البشر من يملكُون انفعالات، وإنما الانفعالات تملكُ بشراً»، أي ليس لـ”أخيل” غضبٌ، بل الغضب لديه أخيل.

وللغضب عند “هوميروس” كرامة. عندما يُضام المرء، لايمكنه التخاذلَ عن الرد، حتى وإن كان في الأمر هلاكه، كما في حالة “أخيل”. فقد لَعنَ “أخيل” نفسه بذبحه لـ”هيكتور”. ولكن لا مكان للمنطق قبل تنفيذ فعل الانتقام، يستحيل المنطق في هذه الحالة: القوة الفاعلة هنا أحادية الموضوع، وتحتل خشبةَ المسرح عاطفةٌ وحيدة.

بدأ صعود المنطق مع “أفلاطون”، أي مع فجر الفلسفة الغربية. يقترح “أفلاطون” في الكتاب الرابع من “الجمهورية” أن للروح بنيةً ثلاثية. بدايةً لدينا المنطق (logos): العقل، العقلاني، المنطقي، يتموضع في الرأس. ثم لدينا الثيموس (thymos): العواطف، الإنفعال، الحيوية، وموضعه الصدر. ومن ثم إيروس (eros): الشهية، الرغبة، وموضعها المعدة. ويشبِّه “أفلاطون”، في مؤلفه “فيدروس”، المنطقَ بسائقِ عربة الروح، يوجِّهُ الثيموس والإيروس، اللذان يحاولان شد الروح باتجاهات مختلفة. أي يعود الأمر للعقل لضمان عملهما سويةً.

ويرى “سلوتردايك” في هذا التصوّر أولى محاولات «ترويض الغضب»، أو «تدجينه الأخلاقي». فمن واجب النفس عند “أفلاطون” أن تضمن اعتدال عمل الغضب. يُصبح المنطق مُهيمناً، وتغدو العقلانية هي ما يجبُ ابتغاءه. ويتم البحث عن الحقيقة من خلال المنطق.

ومع ذلك، ليس بالامكان إقصاء الغضب بواسطة أي حظرٍ، فلسفياً كان أم سياسياً. بل إن تاريخ الغضب، عند “سلوتردايك”، ليس إلا تاريخ محاولة احتوائه، فيما يسمّيه «بنوك الغضب». فتؤجّل المسيحية مثلاً الغضب، غضب الله الذي يظهر جليّاً جباراً في العهد القديم، والذي يختفي في العهد الجديد، إلى يوم الحساب النهائي، وحينها يُتاح لغضب الله فرض نفسه مُجدداً.

ويُعدُّ الغضب في التحليل النفسي مركَّباً عُصابياً، يُداوى في العلاج النفسي، أي أن الغضب، يقول “سلوتردايك”، «ممنوعٌ من التعبير المُباشر، يضطر إلى الإلتفاف ومواراة نفسه عبر عمليات التسامي، والاستبطان، الإحالة، والتشويه»، ويمكن العثور على منابع الغضب في الفرد: تراوما وفشل التعرُّف على الهوية الذاتية، وعدم القدرة على التكيّف.

ليكون الفرد فعّالاً في أي مجتمع، يتوجب عليه مواءمة نفسه معه، على أمل أن يكون مُنتجاً وأن يُكافَأ في آن. يُلاحظ “سلوتردايك” أن «جزءاً من عمل الأنظمة الأخلاقية المعقدة (الثقافات)، يتمثّل بالتحفيز الذاتي للفاعلين عبر تعزيز مصادر “الثيموس”، مثل الكبرياء، الطموح، والحاجة إلى الاعتراف، والشعور بالنقمة وحس العدالة». يعمل الغضب والعدالة يداً بيد. أن يُهان المرء، أو أن يُساء تقدير الذات أو ألّا تُقدَّر بالمطلق، هو أن يُعاني المرء ظلماً: لا عدلاً.

ويرى “سلوتردايك” أن تدجين الغضب هذا يؤسَفُ له، وحسب “نيتشه”، فإنه يحوّلنا من الكائنات التي نحن عليها إلى شيءٍ آخر زائفٍ. يصبح الغضب نشاطاً هامشياً: في السياسة يصير مضمار المجموعات المستبعدة. وكما اعتاد دوماً، استشفَّ “سلوتردايك”، محطّم الأصنام، منذ عام ٢٠٠٦ مستقبلاً لا نهائياً من بقرطة السياسة، من التأجيل اللانهائيًّ للغضب بواسطة ليبرالية، تعمل بعناية ودقة، يكتب سلوتردايك واصفاً  “عصر التطرُّفات”، مصطلح “إريك هوبزباوم” الدّال على الفترة بين بداية الحرب العالمية الأولى وسقوط الاتحاد السوفييتي:

«يبدو أن عصر التطرّفات قد ولّى، مضى مثل شبحٍ، وباستعادة الأحداث الماضية، يبدو أن أحداً لا يفهمُ مالذي جعله بهذه السطوة. إن كان للراديكالية أهمية في نصف الكرة الغربي، فهي مستمدةٌ من كونها سلوكاً جمالياً لا أكثر، ربّما أيضاً من كونها عادةً فلسفية، ولكنّها لم تعد أسلوباً سياسياً. لطالما فَهِمَ الوَسَطُ، ذاك الوحش عديم الشّكل، قانون الساعة. يجعلُ من نفسه بطل الرواية، والممثل المنفرد على مسرح مابعد التاريخ.  كل ما يملسه، يتحوّل لمِثلِه: مُنصاع، عديم الشخصية، وطيِّع… المطلوب اليوم أشخاصٌ مُملّين مطواعين، والمُتوَقَّع منهم الجلوس على الطاولات المُستديرة للتوصّل لأكبر صيغة تسوية في العالم! الوَسَطُ الرخو بلا هوادة يخلق الهجائن من كل شيء».

وهو أمرٌ بغيضٌ من وجهة نظر “سلوتردايك”، لكنّه ظنَّه آنذاك وضعاً من الصَّعبِ تجاوزه. “بنوك الغضب” كانت صامدة، ومستفيدة من المُطيعين.

يُذكِّرُ موقف “سلوتردايك” بمفكّر ألماني ثانٍ، وَجَدَت نظريّاته طريقها من جديد إلى الخطاب الفلسفي السائد عند طرفي الطيف السياسي: المُنظّر السياسي “كارل شميت”. الذي ولد كاثوليكياً عام ١٨٨٨، لكنّه سُرعان ما هجر الدين، إلا أن أعماله بقيت متأثرة بهيكلية التفكير الثيولوجي، وكان عنوان أحد مؤلّفاته المُبكّرة “اللاهوت السياسي”، الذي يُحاجج فيه بأن كل النظريات الحديثة للدولة هي «مفاهيم لاهوتية تَمَّت عَلمَنَتُها». “كارل شميت”، النازي غير التّائب، والّذي لُقِّبَ بـ”زعيم فقهاء الرايخ الثالث”، رأى أن جميع الدّول تحوي عُنصراً ديكتاتورياً، يتجسَّدُ بأنها تسمَحُ بإعلان حالة الاستثناء  (أوضاع استثنائية يمكن فيها للزعيم الخروج عن سيادة القانون). وبالنسبة لـ”شميت” «صاحب السيادة هو من يُقرر حالة الاستثناء»، ويرى أيضاً أن “حالة الاستثناء” مفهوم يُماثل المعجزة الدينية.

“مفهوم السياسي” أكثر أعمال “شميت” تكامُلاً في التحليل السياسي، ينتقد فيه بشدّة لاذعة، عام ١٩٣٢، أولئك المملين المطواعين، مثلما فعل “سلوتردايك” بعده بخمسة عقود. “السياسي” بالنسبة لـ”شميت”، حالة وجودية يتشاركها جميع البشر (الغربيين). والسياسة المُعاصرة هي نظام مساومة، ولذا تفتقر للحسم، ويصبح فيها كلُّ قرارٍ هشّاً، بسبب طبيعته المؤقتة والمشروطة، وبرأيه يتجلّى هنا خلل الديمقراطية الليبرالية.

تشابكت مفردتا “ديمُقراطية” و “ليبرالية” في عصرنا الحالي، بطريقة توحي أن علاقتهما طبيعية وأزلية. بينما اختلف الأمر بالنسبة لـ”شميت”: “الديمقراطية الليبرالية” اقتران تاريخي وليس طبيعياً. يُحاجج “شميت” بأن اعتماد الليبرالية على الإجرائية والبيروقراطية يودي إلى عالم منزوع السياسة، وبالتالي منزوع الإنسانية: «توجد سياسات ليبرالية للتجارة، للكنيسة وللتعليم، ولكن لا توجد بتاتاً سياسة ليبرالية، وإنما نقد ليبرالي للسياسة لاغير. تختصُّ النظرية المنهجية لليبرالية فقط بالنزاع الداخلي ضد قوى الدولة». أي أننا أمام خطر فقدان “السياسي”، أو أمام خطر تحطيمه واستبطانه وتحويله إلى استياء، من خلال الفشل بتمكينه.

إذاً كيف يُمكن تعريف “السياسي”؟ يكتب “شميت”: «لنفترض أن التفريق القطعي في عالم الأخلاق هو بين الخير والشر، وفي عالم الجمال بين الجميل والقبيح، وفي الاقتصاد بين المُربح وغير المُربح. السؤال إذاً: هل هناك تفريق مُميَّز، يعمل بمثابة معيار للسياسي، والمجال الذي يُكوِّنه؟».

يُحاجج “شميت” بأن التفريق المُعرِّف للسياسي هو بين “صديق” و “عدو”. يُحدِّدُ المرء في نهاية المطاف معتقداته السياسية (ما يستحق الموت في سبيله) من خلال تعريفه، أو حتى خلقه، لعدو.

ليس من الضروري أن يكون العدو السّياسي شريراً على صعيد الأخلاق، أو قبيحاً من الناحية الجمالية، ولا أن يكون مُنافساً اقتصادياً، ولربّما كان من المربح والمفيد التعامل معه تجارياً. ولكنّه، مع ذلك، يبقى الآخر، الغريب، ويكفي لتحديد طبيعته هذه أنه شديد الاختلاف وجودياً، مغاير وأجنبي، فتكون الصّراعات معه، في الحالات القصوى، مُمكنة.

لا ينبغي أن يُفهم هذا على أنه مجاز أو استعارة. بل تعريفٌ متماسك، يبلغ حالته القصوى في الحرب، والتي هي النفي الوجودي الكلّي للعدو. تتعلّق الحرب بالسياسة لا العدالة. يكتب “شميت”:

”إن عالماً تنعدم فيه تماماً إمكانية الحرب، مُسالمٌ كُلياً، سيكون عالماً لا تمييز فيه بين صديقٍ وعدو، وبالتالي عالماً دون سياسة. من المعقول أن عالماً كهذا قد يتضمن عديداً من التضادات والتباينات المثيرة للاهتمام، وأنواعاً من التنافس والمكائد، ولكنّه لن يحتوي على تضادٍّ ذي معنى، يتطلّب أن يُضحّي الرجال بحياتهم، ويصرَّح لهم أن يسفكوا الدم، ويقتلوا آخرين في سبيله».

لم يستطرد “شميت” بتوضيح لمَ سيكون عالمٌ مماثلٌ أمراً سيئاً؟ وبشكلٍ ما، وكما جادل مفكرون آخرون معاصرون له، مثل “ليو شتراوس”، هناك أخلاق ليبرالية مُتضمّنة في حجج “شميت”، تستند لمفهوم احترام البشر «كما هم عليه» في وجودهم السياسي، وبأي ثمن، وفكرة أن جنساً بشرياً، نبذ السياسة، غير مرغوب، بغض النظر عن المزايا التي قد تَنتُجُ عن تغيير وجودي من هذا النوع.

إلا أن لهذه الحجج قدرة تفسيرية عظيمة، بصفتها نقداً للسياسة الواقعية، ولانتعاش الغضب في الخطاب السياسي السائد. للديمقراطية الليبرالية طابعٌ حصريٌ أو “اقصائي”، وبما أنها تُعتبر عادةً مذهباً «مُحتوياً، ضَامّاً»، يتم غالباً تجاهل طابعها الاقصائي هذا. يتنامى الشعور بالعجز لدى كثير من البشر من مختلف الانتماءات، ولا تبدو الديمقراطية الليبرالية، التي تعمل بسلاسة، بحاجةٍ إلى مساهماتهم، والرأسمالية، التي تولّد وتنمّي نفسها بنفسها، وتصلحُ نفسها (على حسابِهم)، لا تحتاج إلى إنتاجهم أو أفكارهم.

وتكمنُ عبقرية أولئك، الذين أعادوا الغضب إلى الخطاب السياسي السائد، بأنهم أتاحوا لهذا الاستياء أن يُمنَح صوتاً. أُتيح لغير المُسَيًّسين بأن يصبحوا مُسيّسين مُجدداً. ولا تَهمُّ الحقيقة ولا الاصرار على الحق، المُهم هو ما إذا كان المرء “صديقاً” أو “عدواً”. وبما أن البشر لم يخضعوا للتغيير الوجودي الذي حَلِمَ به “فوكوياما”، وخَشيَه “سلوتردايك” و”شميت”، فإن نداء الغضب لا يزال ينجح بمناشدة ذاك الجزء من الروح، الذي حدّده “أفلاطون” واحتفى به “هوميروس”: التوق إلى الاعتراف بالذات، الاعتراف الذي تعتقد جماهير واسعة بأنها محرومة منه.

أسوأ ماقد يصيبُ الفيلسوف هو رؤية حلمه يتحقق. فبالرغم من عدم وجود صلة مباشرة بين “ماركس” ومعتقل “غولاغ”، أو بين “نيشته” و “أوشفيتز”، إلا أننا مُجبرون، كما يُحاجج “جاك ديريدا”، على مُراعاة هذه المعضلة في تحليلنا: مُنظِّموا معسكرات “غولاغ” و”أوشفيتز” تمكّنوا من استدعاء أعمال هؤلاء الفلاسفة، ولو بأسوأ شكل ممكن.

شجب “سلوتردايك” الديمقراطية الليبرالية، في وقتٍ بدت فيه الإطاحة بها مستحيلة. ويجد نَفسَه الآن نبياً لليمين البديل. أصبح “مارك يونغن”، أحد طلابه، الفيلسوف والزعيم الإيديولوجي لـ”حزب البديل لأجل ألمانيا” اليميني المتطرّف. سعى “سلوتردايك” للنأي بنفسه عن هذا، مصرّحاً لصحيفة “نيويوركر”: «في عالمٍ مثالي، لن تكون مسؤولاً عن طُلّابك».

إلا أنه استمر بإثارة الجدل، وتناوَل مواضيع علم الوراثة، وعلم تحسين النسل سيء السمعة، بمقالته “قواعد حديقة الإنسان”، الأمر الذي جعل “يورغن هابرماس” يتّهمه بالفاشية (نفى “سلوتردايك” التهمة، وردّها على “هابرماس”، معتبراً أن الأخير هو الفاشي). دعى “سلوتردايك” أيضاً لإلغاء الإعانات الإجتماعية، مجادلاً لصالح نظام صدقة، يمنح المتبرّعين شعوراً بالرضا عن الذات، بدلاً من الاستياء المُصاحب للضرائب، ويُمَكِّنُ المتلقّين بالشعور بالامتنان وتقدير الذات.

بالرغم من عدم الراحة، التي يُمكن أن ترافق قراءة هذه الأفكار، إلا أن تحليل “سلوتردايك” لإلحاح وإصرار مايُمكن أن يُدعى “الحوافز البدائية في الحيوان البشري”، يُمكنه أن يُفسِّرَ الرفضَ السائد للمنطق. يحاجج بأن صعود اليمين اليوم أمرٌ بائسٌ بالفعل، ولكنّ التطوّر بهذا الإتجاه يحدثُ منذ وقت طويل. وصف “سلوتردايك” الخيار بين “هيلاري كلينتون” و”دونالد ترامب”، قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام ٢٠١٦، بالخيار بين: «نموذجين من الوسطية يلوّحان ببؤس وبلا جدوى، أحدهما بدا وكأنه غير شرعي، والآخر بدا غير موثوق».

ترسّخت العولمة، مدفوعة برأس المال، دون مراعاة بعضٍ من أبسط الاحتياجات البشرية: «البشر ليسوا على استعدادٍ للشعور بثقل العيش المشترك مع ملياراتٍ من معاصريهم». والغضب هو الثمن الذي ندفعه، الغضب الذي لم يُحسب له حساب أثناء هذا الانتقال، تصدّر الساحة، مع انضمام المحرومين لأولئك الذين في السلطة.

بالرغم من افتتاحيّتها المُشعلة للغضب، تنتهي “الإلياذة” بنوع من انواع المُصالحة بين “بريام”، والد “هيكتور”، و”أخيل”. يُستعاد الشرف من خلال طقوس الجنازة: «في القصر، تشاركوا مأدبةً عظيمة، أعدّها “بريام”، شبيه الآله. جنازةٌ مثل هذه تلقاها “هيكتور” الشهير».

السؤال حول ما إذا كانت مثل هذه المُصالحات ممكنةً اليوم، هو سؤال عصرنا الحاسم.

 

المصدر: New Humanist

بيتر سالمون: كاتب وأديب استرالي مقيم في المملكة المتحدة، يكتب في عدد من أهم الصحف الناطقة بالإنجليزية، وعمل محاضراً في جامعتي “كامبردج” و”جون موريس ليفربول”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.